عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

   

ـ تعليمُه صلى الله عيله وسلم بالتشبيهِ وضَرب الأمثال

وكان صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحيان يَستَعين على توضيح المعاني التي يُريد بيانَها بضَرْبِ المثل ، مما يَشْهَدُه الناسُ بأبصارِهم ، ويَتَذَوَّقونَه بألسنتِهم ، ويَقَع تحت حواسِّهم وفي مُتناوَلِ أيديهم ، وفي هذه الطريقة تيسيرٌ للفهمِ على المتعلِّم ، واستيفاءٌ تامٌ سريعٌ لإيضاح ما يُعلِّمُه أو يُحذِّرُ منه .

 

 

وقد تقرَّر عند علماء البلاغة أن لضربِ الأمثالِ شأناً عظيماً ، في إبراز خَفِيّاتِ المعاني ورَفْعِ أستارِ مُحجَّباتِ الدَّقائق ، وقد أكثرَ الله سبحانه من ضَرْبِ الأمثال في كتابه العزيز ، واقتدى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بالكتاب العزيز فكان يُكثِرُ من ذكر الأمثالِ في مُخاطباتِه ومَواعِظِه وكلامِه .

 

 

وقد جَمَع غيرُ واحد من الحفاظ (الأمثال) من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في كُتُب مُستقلّةٍ كما فعله الحافظ أبو الحسن العَسْكري ، المتوفى سنة 310 ، وأبو أحمد العسكري ، والقاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خَلاّد الرّامَهُرْمُزي ، وكتابُه مطبوع متداوَل .

 

وفي كتب الصحاح والسنن والمسانيد من تلك الأحاديث جملةٌ وافرةٌ فمن ذلك :

 

57 ـ ما رواه أبو داود1عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مَثَلُ المؤمنِ الذي يَقرأ القرآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّة2، ريحُها طَيِّبٌ ، وطَعْمُها طَيِّب . ومثلُ المؤمنِ الذي لا يقرأُ القرآنَ كمثَلِ التَّمْرة ، طعمُها طيِّب ولا ريحَ لها . ومثلُ الفاجر الذي يقرأ القرآنَ كمثلِ الرَّيحانة ، ريحُها طيِّبٌ وطَعْمُها مُرّ ، ومثلُ الفاجرِ الذي لا يَقرأ القرآن كمثلِ الحَنْظَلة ، طَعْمُها مُرٌّ ولا ريحَ لها ، ومثلُ الجليسِ الصّالِح كمثلِ صاحبِ المِسْك ، إنْ لم يُصِبْكَ منه شيء ، أصابك من ريحه . ومثلُ جليسِ السّوءِ كصاحبِ الكِيْر3، إن لم يَصِبْك من سَوادِه أصابك من دُخانِه)) .

وفي هذا التشبيه النبوي الكريم أبلغُ ترغيبٍ في الخير ، وأزجَرُ تحذيرٍ عن الشر، بأقربِ أسلوبٍ يُدرِكه المخاطبون ، وفيه إرشاد إلى الرغبة في صحبةِ الصُّلَحاء والعُلَماء ومُجالَستِهم ، فإنها تنفَع في الدنيا والآخرة ، وفيه أيضاً تحذيرُ من صحبة الأشرار والفُسّاق .

 

ومن هذا الأسلوب أيضاً ما رواه البخاري ومسلم4:

 

58 ـ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إن مثَلَ ما بَعَثَني الله به من الهُدى والعلم، كمثلِ الغَيْثِ الكثير أصاب أرضاً ، فكانتْ منها طائفةٌ طيِّبَةٌ نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الماءَ فأنبتَتْ الكَلأَ والعُشْبَ الكثير5. وكانت منها أَجادِبُ6أمسَكَتْ الماءَ فنفَع الله بها الناسَ فشَرِبوا وسَقَوا وزَرَعوا .

وأصابَ طائفةً أخرى منها إنما هي قِيْعان لا تُمسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كَلأً 7.

فذلك مثلُ منفَقِه في دجين الله ونَفَعَه الله به فعَلِم وعَلَّم ، ومثلُ من لم يَرفَعْ بذلك رأساً ولم يَقْبَلْ هدَى الله الذي أُرسِلْتُ به))1.

وما رواه البخاري والترمذي2:

 

59 ـ عن النُّعمان بنِ بَشيرٍ رضي الله تعالى عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((مَثَلُ القائمِ على حدودِ الله والواقِعِ فيها والمُدْهِنِ فيها قوم استَهَموا سفينةً فصارَ بعضُهم في أسفلِها ، وصارَ بعضُهم في أعلاها ، فكان الذين في أسفَلِها يَمُرّون بالماء على الذين في أعلاها ، فتأذّوا به ، فأخَذَ فأساً فجَعَل يَنْقُرُ أسفلَ السفينةِ ، فأتوه فقالوا : ما لك؟ قال : تأذَّيتم بي ولا بُدَّ لي من الماء ، فإن أخَذوا على يديه أَنجَوهُ ونَجّوا أنفُسَهُم ، وإن تَركوه أهلَكوهُ وأَهْلَكوا أنفُسَهم))3.

  وما رواه النسائي4:

 

60 ـ عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((مَثَلُ المُنافِقِ كمَثَل الشاةِ الحائِرةِ بين الغَنَمينِ5، تعيرُ في هذه مَرَّةً ، وفي هذه مرَّةً ، لا تدْري أيّها تَتْبَعُ)) .

 

--------------------------------------------------------------------------------

1 ـ 4 :357 في كتاب الأدب (باب من يُؤمَرُ أن يُجالَس) . والحديث عند البخاري 9 :65 ومسلم 6 :83 من حديث أنس عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، سوى قوله (ومَثَل الجليس الصالح ...) إلى آخره .

2 ـ الأُتْرُجَّة بتشديد الجيم ، وقد تُخفَّف ، ثَمَرٌ معروف في جزيرة العرب ، وموجود فيها حتى الآن ، الواحدة : أُتْرجّة ، والجمع أُتْرُجّ ، ويقال له أيضاً : تُرُنْج . ويقال له في بلاد الشام : (الكَبّاد) . وهو ثمر جامعٌ إلى طيب الطعم والرائحةِ حُسْنَ اللونِ والمنظر ، وله منافع كثيرة ذكَرَتْها كتبُ الطب .

والمقصودُ بضرب المثل به : بيانُ عُلوِّ شأنِ المؤمن وارتفاعِ عمله ، وكشفُ انحطاطِ شأنِ الفاجر ، وسقوطِ عمله . وفي الحديث أيضاً : ضربُ المثل لتقريب الفهم .

قال الشيخ الإمام ابن القيِّم رحمه الله تعالى في ((مفتاح دار السعادة)) 1 :55 : ((وقد جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الناسَ أربعةَ أقسام : الأول أهلُ الإيمان والقرآن ، وهم خيار الناس . الثاني أهلُ الإيمان الذين لا يقرأون القرآن ، وهم دونهم ، فهؤلاء هم السعداء . والأشقياء قسمان : أحدهما من أوتي قرآناً بلا إيمان فهو منافق . والثاني من لم يُؤتَ قرآناً ولا إيماناً .

والإيمانُ والقرآنً هما نور يجعله الله في قلب من يشاء من عباده ، وإنهما أصلُ كل خير في الدنيا والآخرة ، وعِلْمُهما أجلُّ العلوم وأفضلُها ، بل لا علم في الحقيقة ينفع صاحبَه إلاّ عِلمُهما)) .

3 ـ الكِيْرُ هو الزِّقُّ الذي يَنفُخُ فيه الحدّاد ، لزيادةِ اشتعالِ النار وامتدادِ لَهَبها ، ليَلُفَّ ما يوضَعُ فيها .

4 ـ البخاري 1 :175 في كتاب العلم (باب فَضْلِ من عَلِمَ وعَلَّم) ، ومسلم 15 :46 في كتاب الفضائل (باب بيان ما بُعِثَ به النبي صلى الله عليه وسلم من الهُدى والعلم) ، واللفظُ المسوقُ مأخوذ منهما .

5 ـ (الغيثُ) المطر ، و(الكَلأُ) النبات رطباً كان أو يابساً ، و(العُشْب) النبات إذا كان رَطْباً .

6 ـ (أجادِب) جمعُ أجدَب ، والأجادبُ : صِلابُ الأرض التي تُمسكُ الماء ولا تَشرَبُهُ سريعاً .

7 ـ (قيعان) جمعُ قاعٍ ، وهي الأرضُ المُستويةُ الملساءُ التي لا تُنبِتُ .

1 ـ قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 1 :177 : ((قال القُرطبي وغيرُه : ضَرَب النبي صلى الله عليه وسلم لِما جاء به من الدينِ مثلاً بالغيثِ العام الذي يأتي الناسَ في حالِ حاجتِهم إليه ، وكذا كان حالُ الناسِ قبل مَبعَثِه صلى الله عليه وسلم ، فكما أن الغيثَ يُحيي البلد الميِّت ، فكذا عُلومُ الدين تُحيي القلبَ الميِّتَ .

ثم شَبَّه السامعين له بالأرضِ المختلفةِ التي يَنزِلُ بها الغيث .

فمنهم العالمُ العامِلُ المُعلِّمُ ، فهو بمنزلةِ الأرض الطيِّبةِ شَرِبَتْ فانتفَعَتْ في نفسِها وأنبَتَتْ فنَفَعتْ غيرَها .

 ومنهم الجامعُ للعلمِ المُستَغرِقُ لزمانه فيه غيرَ أنه لم يَعمَلْ بنوافِله أو لم يَتَفقَّه فيما جَمَع لكنَّهُ أدّاه لغيرِه ، فهو بمنزلة الأرض التي يَسْتَقِرُّ فيها الماء فيَنتَفِعُ الناس به ، وهو المشارُ إليه بقوله صلى الله عليه وسلم : ((نَضَّرَ الله امرءاً سَمِعَ مَقالتي فوَعاها ، ثم أدّاها كما سَمِعَها ، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرُ فقيهٍ ، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه)) .

ومنهم من يسمع العلمَ فلا يَحفَظُه ولا يعمَلُ به ولا يَنقُلُه لغيرِه ، فهو بمنزلةٍ الأرض السَّبِخَةِ أو المَلْساء التي لا تَقبَلُ الماءَ أو تُفسِدُه على غيرِها. وإنما جَمَع في المَثَل بين الطائفتين الأُوْلَيين المحمودتين لاشتِراكِهما في الانتفاعِ بهما ، وأفراد الطائفةَ الثالثةَ المذمومةَ لعدم النفع بها ، والله أعلم)) . انتهى .

فالصنفُ الأولُ هم أهلُ روايةٍ ودِرايةٍ ودعوةٍ وعَمَلٍ ، والصنفُ الثاني أهلُ رِوايةٍ ورِعايةٍ وعَمَلٍ ، ولهم نصيبٌ من الدِّراية ، والصنفُ الثالث الأشقياء لا رِوايةَ عندهم ولا دِرايةَ ولا رِعايةَ ، ولا حِفظَ ولا فَهْمَ ، لم يَقْبَلوا هُدى الله ولم يَرفعوا به رأساً ، بل أعرضوا عنه ، كما أوضحه الشيخُ ابن القيِّم رحمه الله تعالى في ((الوابل الصَيِّب من الكِلم الطيِّب)) ص57 ـ 59 ، فانظره لزاماً .

وقال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 15 : 48 : ((في هذا الحديث أنواع من العلم ، منها ضربُ الأمثال ، ومنها فضلُ العلم والتعليم ، وشدةُ الحَثِّ عليهما ، وذمُّ الإعراض عن العلمِ ، والله أعلم)) .

2 ـ البخاري 5 : 132 في كتاب الشَّرِكة (باب هل يُقرَع في القِسْمةِ؟) و5 : 292 في كتاب الشهادات (باب القرعة في المشكلات) ، والترمذي 3 : 318 في كتاب الفتن ، واللفظُ للبخاري مجموعاً من الموضعين .

3 ـ فالذين أرادوا خرقَ السفينةِ بمنزلةِ الواقع في حدود الله ، ومن عَداهم إما مُنكِرُ عليهم وهو القائمُ على حدود الله ، وإما ساكتُ عنهم وهو المُدْهِن ، ـ والمُدْهِنُ المُحابي ـ .

والمعنى أن إقامة الحدودِ يَحصُل بها النجاةُ لمن أقامَها وأقيمَتْ عليه ، وإلاّ هَلَكَ العاصي بالمعصيةِ ، والسّاكتُ بالرضا بها .

وفي الحديث بيانُ استحقاقِ العقوبةِ بتركِ الأمرِ بالمعروف ، وتَبيينُ العالم الحُكمَ بضربِ المَثَل ، ووجوبُ الصَّبْرِ على أذى الجارِ إذا خَشِي وقوعَ ما هو أشدُّ ضرراً . أفاد كلَّ ذلك في ((فتح الباري)) 5 : 295 ـ 296 .

4 ـ 8 : 124 في كتاب الإيمان وشرائعه (مثل المنافق) .

5 ـ أي المُتَرَدِّدةِ بين قَطيعين من الغنم . يقال : عارَتْ الشاةُ تَعيرُ : تردَّدَتْ بين القطيعين ، لا تَدري أيَّهما تتبع!




                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق