نصُّ القرآن الكريم على كون الرسول صلى الله عليه وسم معلِّماً
لقد أثبَتَ القرآن الكريم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معلِّمٌ للناسِ والبشريةِ جميعاً ، على أُمِّيَّتِه وصَحراويَّة بيئته .
قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)1.
وقال تعالى : (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً)2.
وقال تعالى أيضاً : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)3.
إثباتُ السنّة أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم هادٍ بصير
لقد أثبتَتْ السُّنّةُ المطهّرة أيضاً أن رسول صلّى الله عليه وسلم معلِّمٌ هادٍ بصير .
1 ـ روى ابنُ ماجَهْ في ((سُنَنه)) والدّارِميُّ في ((سننه)) ، واللفظ لابن ماجه4، عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهما5، قال : ((خَرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم من بعض حُجَره ، فدخلَ المسجد ، فإذا هو بحَلْقَتين : إحداهما يَقرؤون القرآن ويدَدعون الله تعالى ، والأخرى يَتعلَّمون ويُعلِّمون ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كلٌّ على خير ، هؤلاء يقرؤون القرآن ويَدْعون الله ، فإن شاء أعطاهم وإن شاء مَنَعهم ، وهؤلاء يُعلمون ويَتعلمون ، وإنما بُعِثتُ مُعلِّماً ، فَجَلَسَ معهم))6.
2 ـ وروى مسلم في كتاب الطلاق من ((صحيحه))1، في قصة تخيير النبي صلى الله عليه وسلم زوجاتِه الشريفات رضي الله عنهن ، وقد بَدأ بعائشة منهن فاختارَتْه رضي الله عنها ، ورَغِبَتْ منه أن لا يُخبِرَ غيرها أنها اختارته ، فقال لها عليه الصلاة والسلام : ((إنَّ الله لم يَبعثني مُعَنِّتاً ولا مُتَعنِّتاً ، ولكن بعثني مُعلِّماً مُيَسِّراً))2.
3 ـ وروى مسلم أيضاً3عن معاوية بن الحَكَم السُّلَمي رضي الله عنه ، قال : ((بَيْنا أنا أُصلّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ عَطَس رجلٌ من القوم ، فقلتُ : يَرحمُك الله ، فرَماني القوم بأبصارهم!
فقلتُ : واثُكْلَ أُمِّياه4! ما شأنُكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يَضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتُهم يُصمِّتونني سكَتُّ .
فلما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم دَعاني ، فبأبي هو وأُمّي5، ما رأيتُ مُعلِّماً قبلَه ولا بعدَه أحسنَ تعليماً منه ، فوالله ما كَهَرني6، ولا ضربني ، ولا شَتَمني7، قال : إنَّ هذه الصلاة لا يَصْلُحُ فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح ، والتكبير ، وقراءة القرآن))8.
--------------------------------------------------------------------------------
1ـ سورة الجمعة ، الآية 2 .
2 ـ من سورة النساء ، الآية 79 .
3 ـ من سورة سبأ ، الآية 28 .
4 ـ ابن ماجه 1 : 83 في المقدمة ، (باب فضل العلماء والحث على طلب العلم) ، والدارمي ص 54 من الطبعة الهندية . وقد روى الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه ((الفقيه والمتفقه)) 1 : 10 ـ 11 هذا الحديث من طرق متعددة ، فليعد إليه من شاء التوسع في هذا الحديث الشريف .
قال الحافظ السخاوي : هذا حديث غريب ضعيف ، لضعف راوٍ في سنده ، هو (زياد بن أَنْعُم الإفريقي) لسوءِ حفظه ، ولكن للمتن شواهد . انتهى . نقله شيخنا حافظ المغرب عبد الحي الكتاني رحمه الله تعالى في ((التراتيب الإرادية)) 2 : 220 . قال عبد الفتاح : ومن شواهده الصحيحة : حديثُ ((صحيح مسلم)) الذي أوردتهُ بعده .
5 ـ قال الإمام النووي رحمه الله تعالى ، في مقدمة ((شرحه على صحيح مسلم)) 1 : 39 : ((فصل : يُستَحَبُّ لكاتب الحديث إذا مَرَّ بذكر الله عزَّ وجلَّ أن يكتُبَ (عزَّ وجلَّ) أو (تعالى) أو (سبحانه وتعالى) أو (تبارك وتعالى) أو (جَلَّ ذكرُه) أو (تبارك اسمُه) أو (جَلَّت عظَمَتُه) أو ما أشبَهَ ذلك .
وكذلك يكتُبُ عند ذكرِ النبي صلى الله عليه وسلم : (صلى الله عليه وسلم) بكاملها ، لا رامِزاً إليهما ـ أي الصلاةِ والتسليم ـ ولا مقتصراً على أحدهما .
وكذلك يقول في الصحابي : (رضي الله عنه) ، فإن كان صحابياً ابنَ صحابي قال : (رضي الله عنهما) . وكذلك يَترضّى ويتَرحَّم على سائر العلماء والأخيار ـ أي يُستَحَبُّ ذلك أيضاً ـ ، ويَكتُبُ كلَّ هذا وإن لم يكن مكتوباً في الأصل الذي يَنقُلُ منه ، فإن هذا ليس روايةً وإنما هو دُعاء .
وينبغي أن يَقرأ كلَّ ما ذكرناه وإن لم يكن مذكوراً في الأصل الذي يَقرأ منه ، ولا يَسأمَ من تكرُّرِ ذلك ، ومن أَغفَلَ هذا حُرِمَ خيراً عظيماً ، وفَوَّتَ فضلاً جسيماً)) .
وقال أيضاً رحمه الله تعالى في كتابه ((الأذكار)) ص 100 ، في آخر (باب الصلاة على الأنبياء وآلهم تبعاً لهم) : ((يُستَحَبُّ التَّرضّي على الصحابة والتابعين فمن بعدَهم ، من العلماءِ والعُبّادِ وسائر الأخيار ، فيقال : رضي الله عنه ، أو رحمه الله ، ونحوَ ذلك .
ويقال في غيرهم : (رحمه الله) ، فقط : فليس كما قال ، ولا يُوافَقُ عليه ، بل الصحيحُ الذي عليه الجمهورُ استحبابُه ، ودلائلُه أكثَرُ من أن تُحصَر .
فإن كان المذكور صحابياً ابنَ صحابي ، قال : (قال ابنُ عُمَر رضي الله عنهما) ، وكذا ابنُ عباس ، وابنُ الزُّبير ، وابنُ جعفر ، وأسامةُ بن زيد ، ونحوُهم ، لتَشْمَلَه وأباه جميعاً .
6 ـ نعم : إنما بَعَثه الله مُعلِّماً صلى الله عليه وسلم . وهذا المُعلم المُربّي الكبير ـ ولا أكبرَ منه مُعلماً في البشر ـ ، والهادي الأُمّي البصير، والرسولُ المبلِّغ المُنير : هو الذي تَدينُ لتعليمِه وتربيتِه أُممٌ كثيرة ، وتُبَجِّلُه شُعوبٌ وأقوامٌ مختلفة في شَتّى أنحاء المعمورة ، تُعَدُّ بمِئات الملايين ، تَخْضَعُ لقولِه ، وتَسترشِدُ بهَدْيه ، وتلتمِسُ رِضوانَ الله تعالى في اتِّباعِه والاقتداء به .
= ومن تأمَّلَ حُسْنَ رعايتِه للعَرَبِ مع قَسوةِ طِباعِهم ، وشِدّة خُشونتهم ، وتنافُرِ أمزجتِهم ، وكيف ساسَهم واحتمَل جَفاءَهم ، وصبر على أذاهم ، إلى أن انقادوا إليه ، والتفّوا حوْلَه ، وقاتلوا أمامَه ودونَه أعزَّ الناسِ عندهم : آباءَهم وأقاربَهم ، وآثروه على أنفسهم ، وهجروا في طاعته ورِضاه أَحِبّاءَهم وأوطانهم ، وعشيرتَهم وإخوانهم ، وكان كلُّ ذلك ـ وأعظَمُ منه ـ منهم له صلى الله عليه وسلم ، وهو لم يُمارِس الكتاابة والقراءة ، ولا طالَعَ كُتُبَ الماضين ، ولا أخبار المُرَبّين السّالفين ...
ومن تأمَّل هذا تحقّضقَ له بنظرِ العقلِ أنه صلّى الله عليه وسلم هو المعلِّمُ الأوَّلُ ، والنبيُّ المرسَل ، وأنه سيِّدُ العالمين . صلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عليه .
يقول كارليل في حال العرب : ((هم قومٌ يَضرِبون في الصحراء ، لا يُؤْبَهُ لهم عِدّةَ قرون ، فلما جاءهم النبي العربي ، أصبحوا قبلةَ الأنظار في العلوم والعِرفان ، وكثُروا بعد القِلّة ، وعزّوا بعد الذِلّة ، ولم يَمضِ قَرْنٌ حتى استضاءَتْ أطرافُ الأرضِ بعقولِهم وعُلومِهم)) .
1 ـ 10 : 81 .
2 ـ المعنِّت : الذي يُوقع غيرَه في العَنَت ، والعنتُ له معان كثيرة ، والمناسِب منها هنا : المشقّة ، والأذى . والمتعنِّت : هو الذي يطلب زَلّة الآخَر وأذاه .
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : وفي إبهامه صلى الله عليه وسلم وعدَمِ مصارحته ومواجهته لعائشة بالزجر ، إشعارٌ بأنَّ من دقائق صناعة التعليم أن يَزجُرَ المعلّشمُ : المتعلِّمَ عن سوء الأخلاق ، باللّثطفِ والتعريضِ ما أمكن ، من غير تصريح ، وبطريقِ الرحمةِ من غير توبيخ ، فإن التصريح يَهتك حجاب الهيبة ، ويورِثُ الجُرأةَ على الهجوم بالخلاف ، ويُهيِّجُ الحرصَ على الإصرار . أفاده المُناوي في ((فيض القدير)) 2 : 573 .
3 ـ 5 : 20 في كتاب الصلاة (باب تحريم الكلام في الصلاة ...) .
4 ـ وا : حَرْفٌ للنُّدبة والحسرة . والثُّكل : فِقدانُ المرأةِ ولَدَها . وأُمِّياه بضم الهمزة وكسر الميم المشددة ، بعدها ياء ثم ألف ثم هاء ساكنة للسكت . وهي : نَدْبُ أُمّي ، بياء المتكلم ، قتُقلَبُ الياء ألفاً لمدّ الصوت وتلحقها هاء السكت ، فيقال : يا أُمّاه . وقد يُجمع بين الألف والياء فيقال : يا أُمِّيَاه ، كما هنا . للمبالغة في الندب والتحسُّر . والمعنى : وا فَقْدَ أُمّي إيايَ فإني هلكتُ! أي ما أعظَمَ مُصابَ أمي بي فقد هلكتُ وفَقَدَتْني!
5 ـ أي أَفديه بأبي وأمي .
6 ـ أي ما نَهَرني .
7 ـ أي ما سبَّني ولا عابني .
8 ـ ولفظُ رواية الإمام أحمد في ((المسند)) 5 : 448 ((إنما هي التسبيحُ ، والتكبيرُ ، والتحميدُ ، وقراءة القرآن)) . يعني أن الذي يقال في الصلاة هو هذا : التكبير ، وحمدُ الله والثناء عليه ، وقراءة القرآن ، والتسبيح ، والتشهد ، والدعاء ، كما وردت فيها الأحاديث أيضاً . وأما ما سوى ذلك من كلام الناس فيُمنع منه في الصلاة ، فلا يجوز فيها تشميتٌ لعاطس ، ولا رَدُّ سلام لمسلم ، ولا جوابُ سؤال لسائل ، إذ كلُّ ذلك من الكلام المبطِل للصلاة .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في ((شرح صحيح مسلم)) 5 : 20 تعليقاً على هذا الحديث الشريف : ((وفيه بيانُ ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من عظيم الخُلُق الذي شَهِدَ الله تعالى له به ، ومن رِفْقِهِ بالجاهل ، ورَأفتِهِ بأمته وشفقته عليهم . وفيه التخلُّقُ بخُلُقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل ، وحُسْنِ تعليمه ، واللطفِ به ، وتقريب الصواب إليه)) .