تعليمُه صلى الله عليه وسلم بالقَصَصِ وأخبار الماضين
وكثيراً ما كان صلى الله عليه وسلم يُعلِّمُ أصحابَه بطريق القَصَصِ والوقائع التي يُحدِّثُهم بها عن الأقوام الماضين ، فيكونُ لها في نفوسِ سامعيها أطيبُ الأثر ، وأفضلُ التوجيه ، وتَحْظى منهم بأوفى النشاطِ والانتباه ، وتقَعُ على القلبِ والسَّمع أطيب ما تكون ، إذ لا يُواجَهُ فيها المخاطَبُ بأمْرٍ أو نَهْي ، وإنما هو الحديثُ عن غيره ، فتكونُ له منه العِبْرةُ والموعظةُ والقُدوةُ والائتساء . وقد سنَّ الله تعالى هذا الأسلوبَ الكريم في تعليمه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ، فقال سبحانه : (وكُلاًّ نقُصُّ عليك مِن أنباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ به فُؤادَكَ) .
ومن ذلك حَديثُه صلى الله عليه وسلم في الترغيبِ في الحُبِّ في الله ، والمؤاخاةِ الخالِصَةِ للخيرِ والدّين .
روى مسلم1عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((أنَّ رجلاً زار أخاً له في قريَةٍ أخرى ، فأرصَدَ الله له على مَدْرَجَتِه مَلَكاً2، فلما أتى عليه قال3: أين تريد؟ قال : أريد أخاً لي في هذه القرية ، قال : هل لك عليه من نِعمةٍ تَرُبّثها4؟ قال : لا ، غير أني أحببتُه في الله عز وجل ، قال : فإني رسول الله إليك ، بأنَّ الله قد أحبَّك كما أحببتَه فيه)) .
ومن تعليمه صلى الله عليه وسلم بطريق القصص والوقائع الماضية أيضاً : حديثُه في الحضِّ على الرحمةِ بالحيوان والإحسان إليه ، والتحذيرِ من أذاه والإساءةِ إليه .
روى البخاري ومسلم5، واللفظ له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتدَّ عليه العطش ، فوجَدَ بِئراً فنزَلَ فيها ، فشَرِب ثم خَرَج ، فإذا كلبٌ يَلْهَثُ يأكُلُ الثَّرى من العطش6، فقال الرجل : لقد بلَغَ هذا الكلب من العطش مثلُ الذي كان بلغَ مني! فنزل البئرَ فملأ خُفَّه ماءً ، ثم أمسك بفيه حتى رَقِيَ فسقى الكلب7، فشكر اللهُ له فغفر له .
قالوا : يا رسول الله ، وإنَّ لنا في البهائم لأجراً؟ فقال : في كل كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْر))8. يعني : في الإحسان إلى كل ذي روحٍ وحياةٍ أجر .
وروى البخاري ومسلم9، واللفظ منهما ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((بينما كلبٌ يُطيفُ ببئرٍ قد كان يَقتُله العطشُ ، إذ رأته بَغِيٌّ من بَغايا بني إسرائيل ، فنزعَتْ خُفَّها فأوثَقَتْهُ بخِمارِها ، فنزعَتْ له من الماء ، فسَقَتْه إياه ، فغُفِر لها بذلك)) .
وروى البخاري ومسلم10، واللفظ للبخاري ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((عُذِّبَتْ امرأةٌ في هِرَّة ربَطَتْها حتى ماتتْ11، فدخَلَتْ فيها النار ، لا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكُلُ من خَشاشِ الأرض))1.
وروى البخاري ومسلم2، واللفظ له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لم يتكلَّم في المَهْدِ إلاّ ثلاثة3:
1 ـ عيسى بنُ مريم .
2 ـ وصاحبُ جُرَيج4، وكان جريجٌ رجلاً عابداً ، فاتَّخَذَ صَوْمَعة فكان فيها5، فأتَتْهُ أُمُّه وهو يُصلّي فقالت : يا جريج ، فقال : يا ربّ أمّي وصلاتي6، فأقبل على صلاتِه ، فانصرفَتْ!
فلما كان من الغَدِ أتتْهُ وهو يُصلّي ، فقالت : يا جريج ، فقال : يا ربِّ أمي وصلاتي ، فأقبل على صلاته ، فانصرفت !
فلما كان من الغَدِ أتتْهُ وهو يُصلّي ، فقالت : يا جريج ، فقال : أيْ ربِّ أمي وصلاتي ، فأقبل على صلاته ، فقالت : اللهمَّ لا تُمِتْهُ حتى يَنْظُرَ إلى وجوهِ المُوْمِسات7!
فتذاكَرَ بنو إسرائيل جريجاً وعبادتَه ، وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ يُتَمثَّلُ بحُسْنِها ، فقالت : إن شئتم لأفتِننَّهُ لكم ، قال : فتعرَّضَتْ له فلم يَلتفِت إليها ، فأتَتْ راعِياً كان يأوي إلى صوْمَعَتِه ، فأمكَنَتْه من نفسِها فوقَعَ عليها فحَمَلَتْ .
فلما ولدَتْ قالت : هو جريج ، فأتَوْه ، فاستَنزلوه ، وهَدَموا صوْمعتَه ، وجعلوا يضربونه8، فقال : ما شأنُكم؟ قالوا : زَنَيْتَ بهذه البَغِيَّ فولَدَتْ منك9! فقال : أين الصَّبيّ؟ فجاؤا به ، فقال : دَعوني حتى أُصلّي ، فصلّى10، فلما انصرَفَ أتى الصبيَّ فطَعَنَ في بَطْنِه11، وقال : يا غُلام من أبوك؟ قال : فُلانٌ الراعي .
قال فأقبلوا على جريج يُقبِّلونَه ويتمسَّحون به وقالوا : نَبْني لك صومعتك من ذهب ، قال : لا ، أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا12.
3 ـ وبَيْنا صبيٌّ يرضع من أمه ، فمرَّ رجلٌ راكبٌ على دابّة فارِهة13، وشارَةٍ حسنة14، فقالت أمُّه : اللهمَّ اجعل ابني مِثلَ هذا، فتَرَك ثَدْيَها وأقبَلَ إليه، فنظر إليه فقال : اللهمَّ لا تَجعلْني مِثلَه ، ثم أقبَلَ على ثَدْيه فجعلَ يرتَضِع ، قال : فكأني أَنظُرُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتِضاعَهُ بإصبعه السبّابة في فمه ، فجعل يَمَصُّها .
قال : ومرّوا بجاريةٍ وهم يَضْرِبونَها ، ويقولون : زَنَيتِ سَرَقْتِ ، وهي تقول : حَسْبِيَ اللهُ ونعم الوكيل ، فقالتْ أُمُّه : اللهمَّ لا تَجعَلْ ابني مِثلَ هذه ، فتَرَك الرَّضاعَ ونظَرَ إليها فقال : اللهمَّ اجعلْني مِثلَها .
فهناك تراجَعا الحديث15، فقالت : حَلْقى16! مرَّ رجلٌ حسَنُ الهيئةِ فقلتُ : اللهم لا تجعلني مِثلَه ، ومرّوا بهذه الأمةِ وهم يضرِبونَها ويقولون : زَنَيتِ سَرَقْتِ ، فقلتُ : اللهم لا تجعل ابني مثلها ، فقلتَ : اللهم اجعلني مثلها؟
قال : إنَّ ذاك الرجل كان جبّاراً! فقلتْ : اللهم لا تجعلني مثله ، وإنَّ هذه يقولون لها : زنيتِ ولم تزْنِ ، وسرقتِ ولم تسرِق ، فقلت : اللهم اجعلني مثلها))1.
وفي هذا القَصَصِ الحقِّ ، والخيرِ اليقينِ من التوجيه ، ترغيباً وترهيباً ، وتنفيراً وتحذيراً ، ما هو غَنِيٌّ عن الشرح والبيان .
---------------------------------
1 ـ 16 :124 في كتاب البر والصلة (باب فضل الحب في الله تعالى) .
2 ـ المدرجة : الطريق . وأرصده : أقعَدَه يرقُبُه ، والملَكُ الذي أرصده الله تعالى على طريق الرجل الزائر لأخيه في الله تعالى ، كان في صورة إنسان عاديّ ، لا في صورتِهِ على خِلْقتِهِ الحقيقيّة .
3 ـ أي الملَكُ للزائر المسافِرِ لزيارة أخيه في بلدٍ آخر .
4 ـ أي تقومُ بإصلاحها وتُسافِرُ إليه بسببها ، وتزورُهُ من أجلها .
5 ـ البخاري 10 :366 في كتاب الأدب (باب رحمة الناس والبهائم) ، ومسلم 14 :241 في كتاب السلام (باب فضل سقي البهائم المحرمة وإطعامها) .
6 ـ الثرى : التراب النَّدِيّ . ومعنى (يأكلُ الثرى) أي يَلْحَسُ الثرى بلسانه من شدة العطش ، ليتبرَّد بطراوته ونداوته .
7 ـ أمسكه بفيه أي بفمه . وذلك لأنَّ يدَيْه مشغولتان بصُعودِه من البئر!
8 ـ أي في كل كبدٍ حيَّةٍ . والمرادُ بالرطوبة في الكبد : رُطوبةُ الحياة فيها ، وهي لازمةٌ لكبد الإنسان أو الحيوان ما دام حياً ، والمعنى : في الإحسان إلى كل ذي حياة ـ حيواناً كان أو إنساناً ـ أجْر .
9 ـ البخاري 6 :256 في آخر كتاب بدء الخلق ، ومسلم 14 :242 في الموضع السابق .
10 ـ البخاري 6 :380 في آخر كتاب أحاديث الأنبياء ، ومسلم 14 :240 في الموضع السابق .
11 ـ وفي رواية : سجنَتْها .
1 ـ أي هَوامِّها وحشراتِها من فأرةٍ ونحوها من الحيوانات الصغيرة .
2 ـ سبَقَ العزوُ إليهما في ص122 برقم 67 .
3 ـ ذكر الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 6 :344 أن هناك غيرَ هؤلاء الثلاثة تكلَّموا في المهد ، كما جاء ذلك في السنّة الثابتة ، وأشار إلى وجهِ التوفيق بين ظاهرِ هذا الحَصْر في الحديث والأحاديث الأخرى ، فراجعه إذا شئت .
4 ـ أي الغلامُ الذي اتُّهِمَ به جريج .
5 ـ الصومعة : البناء المرتفع المحدَّد أعلاه . مأخوذة من صَمَعْتُ إذا دَققتُ ، لأنها دقيقة الرأس .
6 ـ أي اجتمع عليَّ إجابةُ أمي وإتمام صلاتي ، فوفِّقْني لأفضلهما . قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 6 :345 : ((وكلُّ ذلك قاله ـ أي في المرات الثلاث من مُناداةِ أُمِّه حال صلاتِه ـ محمولٌ على أنه قالَهُ في نَفْسِه ، لا أنه نَطَق به ، ويُحتمَلُ أن يكون نَطَق به على ظاهره ، لأن الكلام كان مُباحاً عندهم ، وكذلك كان في صدر الإسلام)) .
7 ـ المومسات : الزَّواني المتجاهِراتُ بذلك . وفي رواية ثانية عند مسلم 16 :105 .
فقالت : اللهم إنَّ هذا جريج وهو ابني ، وإني كلَّمتُه فأبى أن يُكلذِمني ، اللهم فلا تُمِتْهُ حتى تُريَه وجوه المومسات ، قال : ولو دَعَت عليه أن يُفتَنَ لفُتِن!)) . أي لفتن بالزنى أو القتل! ولكن كانت رفيقةً رحيمةً به ، فكانت دَعْوَتُها أن تكون عُقوبتَهُ رؤيةَ وجوهِ الزَّواني فقط ، وما أشدَّها من عقوبة على قلوبِ العابدين الصالحين ، نسألُ الله السلامةَ والعافية .
8 ـ جاء في رواية : ((وجعَلوا يَطوفون به في الناس ، ويقولون : مُراءٍ تُخادِعُ الناس بعَمَلِك ، فلما مَرّوا به نحو بيت الزَّواني خَرَجْنَ يَنْظُرْنَ ، فتبسَّم! فقالوا : لم يَضْحَكْ حتى مرَّ بالزَّواني!)) وسيأتي بيانُ جريج سبب ضحكه في التعليقة الرابعة .
9 ـ وكان في حُكمهم أنَّ من زنى قُتِل .
10 ـ وقد صلى ركعتين ، وكانت الصلاةُ مشروعة عندهم .
11 ـ في روايةٍ ثانية عند مسلم 16 :106 ((ثم مَسَحَ رأس الصبي فقال : من أبوك؟)) .
12 ـ جاء في رواية : ((فرجَعَ في صومعته ، فقالوا له : باللهِ مِمَّ ضَحِكت؟ فقال : ما ضحكتُ إلاّ من دَعْوةٍ دَعَتْها عليَّ أُمّي )) . أي أنه تذكَّرَ أن هذه العُقوبة بسبب تلك المعصية!
قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 6 :347 و3 :63 ، ((وفي الحديث إثارُ إجابةِ الأمّ على صلاة التطوُّع ، لأنَّ الاستمرار فيها : نافلة ، وإجابَةَ الأم وبِرِّها : واجبٌ . وفي حديث يَزيد بن حَوشَب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لو كان جريج فقيهاً ـ وفي رواية : عالِماً ـ لعلِمَ أنَّ إجابة أُمِّه أولى من عبادة ربه)) أخرجه الحسن بن سفيان . و(يزيد) والد حَوْشَب : مجهول )) .
13 ـ أي نشيطة قوية .
14 ـ أي هيئةٍ حسنة وملبَسٍ حسن ، يُتعجَّبُ منه ويُشارُ إليه لحُسنه وجماله .
15 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 16 :107 ((قوله (تراجعا الحديث) ، أي أقبلَتْ الأم على الرضيع تحدثه ، وكانت أولاً لا تراه أهلاً للكلام ، فلما تكرَّر منه الكلام ، علمَتْ أنه أهل ، فسألتْه وراجَعْته)) .
16 ـ أي عجباً لكَ؟!
1 ـ أي سالماً من المعاصي كما هي سالمة منها ، وليس المراد : اجعلني مِثلَها في النسبة إلى باطلٍ أكونُ منه بريئاً .