عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

   

تعليمُه صلى الله عليه وسلم بالقَصَصِ وأخبار الماضين

وكثيراً ما كان صلى الله عليه وسلم يُعلِّمُ أصحابَه بطريق القَصَصِ والوقائع التي يُحدِّثُهم بها عن الأقوام الماضين ، فيكونُ لها في نفوسِ سامعيها أطيبُ الأثر ، وأفضلُ التوجيه ، وتَحْظى منهم بأوفى النشاطِ والانتباه ، وتقَعُ على القلبِ والسَّمع أطيب ما تكون ، إذ لا يُواجَهُ فيها المخاطَبُ بأمْرٍ أو نَهْي ، وإنما هو الحديثُ عن غيره ، فتكونُ له منه العِبْرةُ والموعظةُ والقُدوةُ والائتساء . وقد سنَّ الله تعالى هذا الأسلوبَ الكريم في تعليمه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ، فقال سبحانه : (وكُلاًّ نقُصُّ عليك مِن أنباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ به فُؤادَكَ) .

ومن ذلك حَديثُه صلى الله عليه وسلم في الترغيبِ في الحُبِّ في الله ، والمؤاخاةِ الخالِصَةِ للخيرِ والدّين .

 

 

روى مسلم1عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((أنَّ رجلاً زار أخاً له في قريَةٍ أخرى ، فأرصَدَ الله له على مَدْرَجَتِه مَلَكاً2، فلما أتى عليه قال3: أين تريد؟ قال : أريد أخاً لي في هذه القرية ، قال : هل لك عليه من نِعمةٍ تَرُبّثها4؟ قال : لا ، غير أني أحببتُه في الله عز وجل ، قال : فإني رسول الله إليك ، بأنَّ الله قد أحبَّك كما أحببتَه فيه)) .

ومن تعليمه صلى الله عليه وسلم بطريق القصص والوقائع الماضية أيضاً : حديثُه في الحضِّ على الرحمةِ بالحيوان والإحسان إليه ، والتحذيرِ من أذاه والإساءةِ إليه .

 

 

روى البخاري ومسلم5، واللفظ له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتدَّ عليه العطش ، فوجَدَ بِئراً فنزَلَ فيها ، فشَرِب ثم خَرَج ، فإذا كلبٌ يَلْهَثُ يأكُلُ الثَّرى من العطش6، فقال الرجل : لقد بلَغَ هذا الكلب من العطش مثلُ الذي كان بلغَ مني! فنزل البئرَ فملأ خُفَّه ماءً ، ثم أمسك بفيه حتى رَقِيَ فسقى الكلب7، فشكر اللهُ له فغفر له .

قالوا : يا رسول الله ، وإنَّ لنا في البهائم لأجراً؟ فقال : في كل كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْر))8. يعني : في الإحسان إلى كل ذي روحٍ وحياةٍ أجر .

 

 

وروى البخاري ومسلم9، واللفظ منهما ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((بينما كلبٌ يُطيفُ ببئرٍ قد كان يَقتُله العطشُ ، إذ رأته بَغِيٌّ من بَغايا بني إسرائيل ، فنزعَتْ خُفَّها فأوثَقَتْهُ بخِمارِها ، فنزعَتْ له من الماء ، فسَقَتْه إياه ، فغُفِر لها بذلك)) .

 

 

وروى البخاري ومسلم10، واللفظ للبخاري ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((عُذِّبَتْ امرأةٌ في هِرَّة ربَطَتْها حتى ماتتْ11، فدخَلَتْ فيها النار ، لا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكُلُ من خَشاشِ الأرض))1.          

 

 

وروى البخاري ومسلم2، واللفظ له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لم يتكلَّم في المَهْدِ إلاّ ثلاثة3:

1 ـ عيسى بنُ مريم .

2 ـ وصاحبُ جُرَيج4، وكان جريجٌ رجلاً عابداً ، فاتَّخَذَ صَوْمَعة فكان فيها5، فأتَتْهُ أُمُّه وهو يُصلّي فقالت : يا جريج ، فقال : يا ربّ أمّي وصلاتي6، فأقبل على صلاتِه ، فانصرفَتْ!

فلما كان من الغَدِ أتتْهُ وهو يُصلّي ، فقالت : يا جريج ، فقال : يا ربِّ أمي وصلاتي ، فأقبل على صلاته ، فانصرفت !

فلما كان من الغَدِ أتتْهُ وهو يُصلّي ، فقالت : يا جريج ، فقال : أيْ ربِّ أمي وصلاتي ، فأقبل على صلاته ، فقالت : اللهمَّ لا تُمِتْهُ حتى يَنْظُرَ إلى وجوهِ المُوْمِسات7!

فتذاكَرَ بنو إسرائيل جريجاً وعبادتَه ، وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ يُتَمثَّلُ بحُسْنِها ، فقالت : إن شئتم لأفتِننَّهُ لكم ، قال : فتعرَّضَتْ له فلم يَلتفِت إليها ، فأتَتْ راعِياً كان يأوي إلى صوْمَعَتِه ، فأمكَنَتْه من نفسِها فوقَعَ عليها فحَمَلَتْ .

فلما ولدَتْ قالت : هو جريج ، فأتَوْه ، فاستَنزلوه ، وهَدَموا صوْمعتَه ، وجعلوا يضربونه8، فقال : ما شأنُكم؟ قالوا : زَنَيْتَ بهذه البَغِيَّ فولَدَتْ منك9! فقال : أين الصَّبيّ؟ فجاؤا به ، فقال : دَعوني حتى أُصلّي ، فصلّى10، فلما انصرَفَ أتى الصبيَّ فطَعَنَ في بَطْنِه11، وقال : يا غُلام من أبوك؟ قال : فُلانٌ الراعي .

قال فأقبلوا على جريج يُقبِّلونَه ويتمسَّحون به وقالوا : نَبْني لك صومعتك من ذهب ، قال : لا ، أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا12.

 

3 ـ وبَيْنا صبيٌّ يرضع من أمه ، فمرَّ رجلٌ راكبٌ على دابّة فارِهة13، وشارَةٍ حسنة14، فقالت أمُّه : اللهمَّ اجعل ابني مِثلَ هذا، فتَرَك ثَدْيَها وأقبَلَ إليه، فنظر إليه فقال : اللهمَّ لا تَجعلْني مِثلَه ، ثم أقبَلَ على ثَدْيه فجعلَ يرتَضِع ، قال : فكأني أَنظُرُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتِضاعَهُ بإصبعه السبّابة في فمه ، فجعل يَمَصُّها .

قال : ومرّوا بجاريةٍ وهم يَضْرِبونَها ، ويقولون : زَنَيتِ سَرَقْتِ ، وهي تقول : حَسْبِيَ اللهُ ونعم الوكيل ، فقالتْ أُمُّه : اللهمَّ لا تَجعَلْ ابني مِثلَ هذه ، فتَرَك الرَّضاعَ ونظَرَ إليها فقال : اللهمَّ اجعلْني مِثلَها .

فهناك تراجَعا الحديث15، فقالت : حَلْقى16! مرَّ رجلٌ حسَنُ الهيئةِ فقلتُ : اللهم لا تجعلني مِثلَه ، ومرّوا بهذه الأمةِ وهم يضرِبونَها ويقولون : زَنَيتِ سَرَقْتِ ، فقلتُ : اللهم لا تجعل ابني مثلها ، فقلتَ : اللهم اجعلني مثلها؟

قال : إنَّ ذاك الرجل كان جبّاراً! فقلتْ : اللهم لا تجعلني مثله ، وإنَّ هذه يقولون لها : زنيتِ ولم تزْنِ ، وسرقتِ ولم تسرِق ، فقلت : اللهم اجعلني مثلها))1.

وفي هذا القَصَصِ الحقِّ ، والخيرِ اليقينِ من التوجيه ، ترغيباً وترهيباً ، وتنفيراً وتحذيراً ، ما هو غَنِيٌّ عن الشرح والبيان . 

 

---------------------------------

1 ـ 16 :124 في كتاب البر والصلة (باب فضل الحب في الله تعالى) .

2 ـ المدرجة : الطريق . وأرصده : أقعَدَه يرقُبُه ، والملَكُ الذي أرصده الله تعالى على طريق الرجل الزائر لأخيه في الله تعالى ، كان في صورة إنسان عاديّ ، لا في صورتِهِ على خِلْقتِهِ الحقيقيّة .

3 ـ أي الملَكُ للزائر المسافِرِ لزيارة أخيه في بلدٍ آخر .

4 ـ أي تقومُ بإصلاحها وتُسافِرُ إليه بسببها ، وتزورُهُ من أجلها .

5 ـ البخاري 10 :366 في كتاب الأدب (باب رحمة الناس والبهائم) ، ومسلم 14 :241 في كتاب السلام (باب فضل سقي البهائم المحرمة وإطعامها) .

6 ـ الثرى : التراب النَّدِيّ . ومعنى (يأكلُ الثرى) أي يَلْحَسُ الثرى بلسانه من شدة العطش ، ليتبرَّد بطراوته ونداوته .

7 ـ أمسكه بفيه أي بفمه . وذلك لأنَّ يدَيْه مشغولتان بصُعودِه من البئر!

8 ـ أي في كل كبدٍ حيَّةٍ . والمرادُ بالرطوبة في الكبد : رُطوبةُ الحياة فيها ، وهي لازمةٌ لكبد الإنسان أو الحيوان ما دام حياً ، والمعنى : في الإحسان إلى كل ذي حياة ـ حيواناً كان أو إنساناً ـ أجْر .

9 ـ البخاري 6 :256 في آخر كتاب بدء الخلق ، ومسلم 14 :242 في الموضع السابق .

10 ـ البخاري 6 :380 في آخر كتاب أحاديث الأنبياء ، ومسلم 14 :240 في الموضع السابق .

11 ـ وفي رواية : سجنَتْها .

1 ـ أي هَوامِّها وحشراتِها من فأرةٍ ونحوها من الحيوانات الصغيرة .

2 ـ سبَقَ العزوُ إليهما في ص122 برقم 67 .

3 ـ ذكر الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 6 :344 أن هناك غيرَ هؤلاء الثلاثة تكلَّموا في المهد ، كما جاء ذلك في السنّة الثابتة ، وأشار إلى وجهِ التوفيق بين ظاهرِ هذا الحَصْر في الحديث والأحاديث الأخرى ، فراجعه إذا شئت .

4 ـ أي الغلامُ الذي اتُّهِمَ به جريج .

5 ـ الصومعة : البناء المرتفع المحدَّد أعلاه . مأخوذة من صَمَعْتُ إذا دَققتُ ، لأنها دقيقة الرأس .

6 ـ أي اجتمع عليَّ إجابةُ أمي وإتمام صلاتي ، فوفِّقْني لأفضلهما . قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 6 :345 : ((وكلُّ ذلك قاله ـ أي في المرات الثلاث من مُناداةِ أُمِّه حال صلاتِه ـ محمولٌ على أنه قالَهُ في نَفْسِه ، لا أنه نَطَق به ، ويُحتمَلُ أن يكون نَطَق به على ظاهره ، لأن الكلام كان مُباحاً عندهم ، وكذلك كان في صدر الإسلام)) .

7 ـ المومسات : الزَّواني المتجاهِراتُ بذلك . وفي رواية ثانية عند مسلم 16 :105 .

فقالت : اللهم إنَّ هذا جريج وهو ابني ، وإني كلَّمتُه فأبى أن يُكلذِمني ، اللهم فلا تُمِتْهُ حتى تُريَه وجوه المومسات ، قال : ولو دَعَت عليه أن يُفتَنَ لفُتِن!)) . أي لفتن بالزنى أو القتل! ولكن كانت رفيقةً رحيمةً به ، فكانت دَعْوَتُها أن تكون عُقوبتَهُ رؤيةَ وجوهِ الزَّواني فقط ، وما أشدَّها من عقوبة على قلوبِ العابدين الصالحين ، نسألُ الله السلامةَ والعافية .

8 ـ جاء في رواية : ((وجعَلوا يَطوفون به في الناس ، ويقولون : مُراءٍ تُخادِعُ الناس بعَمَلِك ، فلما مَرّوا به نحو بيت الزَّواني خَرَجْنَ يَنْظُرْنَ ، فتبسَّم! فقالوا : لم يَضْحَكْ حتى مرَّ بالزَّواني!)) وسيأتي بيانُ جريج سبب ضحكه في التعليقة الرابعة .

9 ـ وكان في حُكمهم أنَّ من زنى قُتِل .

10 ـ وقد صلى ركعتين ، وكانت الصلاةُ مشروعة عندهم .

11 ـ في روايةٍ ثانية عند مسلم 16 :106 ((ثم مَسَحَ رأس الصبي فقال : من أبوك؟)) .

12 ـ جاء في رواية : ((فرجَعَ في صومعته ، فقالوا له : باللهِ مِمَّ ضَحِكت؟ فقال : ما ضحكتُ إلاّ من دَعْوةٍ دَعَتْها عليَّ أُمّي )) . أي أنه تذكَّرَ أن هذه العُقوبة بسبب تلك المعصية!

قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 6 :347 و3 :63 ، ((وفي الحديث إثارُ إجابةِ الأمّ على صلاة التطوُّع ، لأنَّ الاستمرار فيها : نافلة ، وإجابَةَ الأم وبِرِّها : واجبٌ . وفي حديث يَزيد بن حَوشَب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لو كان جريج فقيهاً ـ وفي رواية : عالِماً ـ لعلِمَ أنَّ إجابة أُمِّه أولى من عبادة ربه)) أخرجه الحسن بن سفيان . و(يزيد) والد حَوْشَب : مجهول )) .

13 ـ أي نشيطة قوية .

14 ـ أي هيئةٍ حسنة وملبَسٍ حسن ، يُتعجَّبُ منه ويُشارُ إليه لحُسنه وجماله .

15 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 16 :107 ((قوله (تراجعا الحديث) ، أي أقبلَتْ الأم على الرضيع تحدثه ، وكانت أولاً لا تراه أهلاً للكلام ، فلما تكرَّر منه الكلام ، علمَتْ أنه أهل ، فسألتْه وراجَعْته)) .

16 ـ أي عجباً لكَ؟!

1 ـ أي سالماً من المعاصي كما هي سالمة منها ، وليس المراد : اجعلني مِثلَها في النسبة إلى باطلٍ أكونُ منه بريئاً .




                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق