جوابُه صلى الله عليه وسلم السائلَ بأكثرَ مما سأل عنه
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يُجيب السائلَ بأكثرَ مما سأل ، إذا رأى أنَّ به حاجةً إلى معرفةِ الزائدِ عن سُؤاله ، وهذا من كمالِ رأفتِه صلى الله عليه وسلم ، ومن عظيم رعايتِه بالمتعلِّمين والمتفقِّهين :
روى الإمام مالك في ((الموطَّأ)) ، وأبو داود17، واللفظُ له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ((سألَ
رجلٌ ـ من بني مُدْلِجٍ ـ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا نَركبُ البحرَ ، ونحمِلُ معنا القليلَ من الماء1، فإن توضَّأنا به عَطِشْنا ، أفنتوضَّأُ بماءِ البحر؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : هو الطَّهورُ ماؤُه2، الحِلُّ مَيْتَتُهُ3)) .
فأجاب صلى الله عليه وسلم ذلك المُدْلِجيَّ البَحّار ، عن حكم التوضُّؤ بماء البحر ، بأنَّ ماءَه طَهور يَصِحُّ التوضُّؤُ به ، ثم أشفَقَ صلى الله عليه وسلم على ذلك البحّار أن يَشتَبِهَ عليه حُكمُ مَيْتَةِ البحر ، وهي شيء يقَعُ له أثناءَ إبحاره ، فبيَّن له انَّ ميتة البحر حلالٌ أكلُها والانتفاعُ بها ، فقال له زيادةً على سؤالِه : ((الحِلُّ مَيْتَتُهُ)) .
فهذه الزيادة في الجواب مهمة لأنها بيَّنت طهارةَ ماءِ البحر وإن مات فيه ما مات ، وبيَّنَتْ حِلَّ تلك المَيتةِ أيضاً ، ومعرفةُ ذلك ضروريةٌ للبحار ، لأنه قد يحتاج إلى أكلِ تلك المَيتة في بعض الأحيان اختياراً أو اضطراراً ، فيأكُلُ منها ويَدَّخر ولا حرج عليه .
وهذا الصنيعُ منه صلى الله عليه وسلم من لُبابِ الخير في أُسلوب التعليم واستيفاءِ ما يَحتاجُ إليه المتعلِّم .
وروى مسلم في كتاب الحج في (باب صحة حَجِّ الصبيّ وأجرِ من حَجَّ به) وأبو داود والنسائي4عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ((رَفَعتْ امرأةٌ صبيّاً لها ـ وهي حاجّة ـ فقالت : يا رسولَ الله ألهذا حجٌّ؟ قال : نعم ، ولكِ أجرٌ))5.
فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بأكثَرَ مما سألتْ عنه ، فقد سألت عن حَجّ الصبي ، فقال : له حَجٌّ ، وزادها : ولكِ أجر . إذْ هي المتوليةُ لأمرِه ، فأفادها بثبوتِ الأجر لها ، وذلك باعِثٌ قويٌّ على حُسنِ فعلِها والاقتداءِ بها ممن يأتي بعدها من الأمهات والآباء ، في تحمُّلِ المشقّات الشديدةِ باصحاب الاولاد الصغار للحج إلى بيت الله المعظم ، ليُغرَس في قلوبهم ومَشاهد أنظارهم هذا المشهدُ العظيم ، وينطبعَ في نفوسهم هذا الركنُ الخامسُ الجسيم ، ولِما في مَشهَد الصغار حول البيت من تحريكٍ للقُلوب والأرواحِ والدُّموع .
-------------------------------------
17 ـ في ((الموطأ)) 1 :22 في كتاب الطهارة (باب الطهور للوضوء) ، وأبو داود1 :21 في كتاب الطهارة (باب الوضوء بماء البحر).
1 ـ أي الماء العذب ليَشربوه .
2 ـ أي ماؤه بالغ في الطهارة أتَمَّها .
3 ـ أي الحلال .
4 ـ مسلم 9 :99 ، وأبو داود 2 :194 في كتاب المناسك (باب في الصبي يحج) ، والنسائي 5 :120 في كتاب مناسك الحج (الحج بالصغير) .
5 ـ قال العلماء : هذا الحديث دليل على أن حَجَّ الصبي ـ أي الصغير ، ومثله البنت ـ منعقدٌ يثاب عليه وإن كان لا يُجزيه عن حجّة الإسلام ، ويقع تطوعاً .