عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

   

أساليبه صلى الله عليه وسلم في التعليم

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار في تعليمه من الأساليب أحسنَها وأفضَلَها ، وأَوْقَعَها في نفسِ المخاطب وأقربَها إلى فهمه وعقلِه ، وأشدَّها تثبيتاً للعلم في ذهن المخاطب ، وأكثرها مُساعَدةً على إيضاحه له .

ومن دَرَس كُتُب السُّنّة وقرأها بإمعان رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُلوِّن الحديث لأصحابه ألواناً كثيرة ، فكان تارةً يكون سائلاً ، وتارةً يكون مُجيباً ، وتارةً يُجيبُ السائلَ بقَدْرِ سُؤالِه ، وتارةً يَزيدُه على ما سأل ، وتارةً يَضرِبُ المثلَ لما يُريد تعليمَه ، وتارةً يُصحِبُ كلامَه القَسَمَ بالله تعالى ، وتارةً يَلْفِتُ السائلَ عن سُؤاله لحكمةٍ بالغةٍ منه صلى الله عليه وسلم ، وتارةً يُعلِّم بطريق الكتابة ، وتارةً بطريق الرَّسْم ، وتارةً بطريق التشبيه أو التصريح ، وتارةً بطريق الإبهام أو التلويح .

 

 

وكان صلى الله عليه وسلم تارةً يورِدُ الشبهة ليَذكُرَ جوابَها ، وتارة يَسلُكُ سبيل المُداعبة والمُحاجاةِ فيما يُعلِّمُه ، وتارةً يُمهِّدُ لما يَشاءُ تعليمَه وبيانَه تمهيداً لطيفاً ، وتارةً يَسلُكُ سبيلَ المُقايَسةِ بين الأشياء ، وتارةً يُشيرُ إلى عِلَلِها لذِكرِ جوابِها ، وتارةً يَسألُ أصحابَه وهو يَعْلَم ليمْتَحِنَهم بذلك ، وتارةً يَسألُهم لِيُرشِدَهم إلى موضع الجواب ، وتارة يُلقي إليهم العلمَ قبل السُّؤال ، وتارةً يَخُصُّ النساءَ ببعض مجالسه ويعلمهُنَّ ما يحتجن إليه من العلم ، وتارةً يُراعي حالَ من بحضرتِه من الأطفال والصِّغار ، فيَتنزَّلُ إليهم بما يُلاقي طفولتهم ولَهوَهم البريء ، إلى غير ذلك من فُنون تعليمِه صلى الله عليه وسلم التي سَنَمُرُّ بها .

 

 

وأسوق فيما يلي نماذجَ كثيرةً للأساليب والطرائق المذكورة وغيرها ، من خلال تعليمات النبي صلى الله عليه وسلم المدوَّنةِ في كتب السنة المطهَّرة ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلتُ وإليه أنيب .

 

1 ـ تعليمُه صلى الله عليه وسلم بالسيرة الحسنة والخلق العظيم

وكان من أهم وأعظم وأبرز أساليبه صلى الله عليه وسلم في التعليم العملُ والتخلُّق بالسيرةِ الحَسَنة والخلقِ العظيم ، فكان صلى الله عليه وسلم إذا أَمَر بشيء عَمِل به أولاً ثم تأسّى به الناس وعمِلوا كما رأَوْه ، وكان خلُقُه القرآن ، فكان على الخُلُق العظيم ، وجَعَله الله تعالى أسوة حسنةً لعبادِه ، فقال عَزَّ من قائل : (لقد كان لكم في رسول الله أسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمن كان يَرْجو اللهَ واليومَ الآخِرَ وذكَرَ اللهَ كثيراً)1فهو صلى الله عليه وسلم أسوةٌ لأمتِه في أخلاقِه وأفعالِه وأحوالِه .

ولا ريب أن التعليمَ بالفعلِ والعَمَل أقوى وأوقعُ في النفس ، وأعونُ على الفهم والحفظِ ، وأدْعى إلى الاقتداء والتأسّي ، من التعليمِ بالقولِ والبَيان ، وأن التعليمَ بالفعلِ والعَمَل هو الأسلوبُ الفطري للتعليم ، فكان ذلك أبرزَ وأعظمَ أساليبه صلى الله عليه وسلم في التعليم2.

جاء في ((الإصابة في تمييز الصحابة)) للحافظ ابن حجر3في ترجمة الصحابي الجليل (الجُلَنْدى مَلِك عُمان) : ((ذَكرَ وَثيمَةُ في كتاب (الرِّدّة) عن ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بَعَث إليه عَمْرو بنَ العاص يَدعوه إلى الإسلام ، فقال :

((لقد دَلَّني على هذا النبي الأمي : أنه لا يأمُرُ بخيرٍ إلاّ كان أولَ آخِذٍ به ، ولا يَنْهى عن شرٍّ إلاّ كان أولَ تاركٍ له ،

 

 

وأنه يَغلِبُ فلا يَبْطَر ، ويُغْلَبُ فلا يُهْجِرُ ـ أي لا يقولُ القبيحَ من الكلام ـ 1، وأنه يَفي بالعهد ، ويُنجِزُ الوعدَ ، وأشهَدُ أنه نبي)) . انتهى .

وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه (الاعتصام)2: ((وإنما كان عليه الصلاة والسلام خُلُقُه القرآن ، لأنه حكَّم الَحْي على نفسِه ، حتى صار في عِلْمه وعَمَلِه على وَفْقِه ، فكان للوحي موافقاً قائلاً مذعِناً ملبياً واقفاً عند حُكمِه .

وهذه الخاصّةُ كانت من أعظم الأدلة على صِدقِه فيما جاء به ، إذ قد جاء بالأمر وهو مؤتَمِر ، وبالنهي وهو مُنْتهٍ ، وبالوعظِ وهو مُتَّعِظ ، وبالتخويف وهو أول الخائفين ، وبالترجية وهو سائقُ دابّةِ الراجين .

وحقيقةُ ذلك كلِّه : جعلُه الشريعةَ المنزَّلةَ عليه حُجّةً حاكمةً عليه ،ودلالةً له على الصراطِ المستقيمِ الذي سارَ عليه صلى الله عليه وسلم .

ولذلك صار عبدَ الله حقاً ، وهو أشرف اسم تُسمّى به العبادُ ، قال تعالى : (سبحان الذي أَسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام)3. وقال أيضاً : (تبارك الذي نزَّل الفرقان على عبده)4. وقال أيضاً : (وإن كُنتُم ف رَيبٍ مما نَزَّلنا على عبدِنا)5. وما أشبَه ذلك من الآيات التي وقع مدحُه فيها بصفةِ العُبودية .

وإذا كان ذلك فسائرُ الخلقِ حَرِيّون بأن تكون الشريعةُ حاكمةً عليهم ، ومناراً يهتدون بها إلى الحق . وشرَفُهم إنما يَثبُت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامِها ، والعمل بها قولاً واعتقاداً وعملاً ، لا بحسب عقولِهم فقط ، ولا بحسب شرفِهم في قومِهم فقط ، لأن الله تعالى إنما أثبت الشرفَ بالتقوى لا غير ، لقوله : (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)6.

فمن كان أشَدَّ محافَظَةً على اتِّباعالشَّرَف ، فهو أولى بالشَّرَفِ ، ومن كان دون ذلك لم يكن ـ له ـ أن يَبْلُغَ في الشرف مَبلَغَ الأعلى في اتباعِها . فالشَّرَفُ إذاً إنما هو بحسب المُبالغة في تحكيم الشريعة)) .

انتهى باختصارٍ يسيرٍ مصحَّحاً ما فيه من الأغلاط المطبعية .

وإذْ كان هذا الأسلوب أبرز أساليبِه صلى الله عليه وسلم وأكثرَها استعمالاً في تعليماتِه ، فأكتفي هنا بذكر نماذجَ من تعليماتِه صلى الله عليه وسلم التي تَدخُل في هذا الأسلوب ، إذ لا سبيلَ إلى استقصائها :

 

 

  ـ7روى مسلم وأبو داود8واللفظ لمسلم ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : ((أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا ، وفي يده عُرْجونُ ابنِ طاب9، فرأى في قِبلةِ المسجد نُخامةً10، فحكَّها بالعُرْجون.

 ثم أقبل علينا فقال : أيكم يحب أن يُعرِضَ الله عنه؟! قال : فخَشَعْنا11، ثم قال : أيُّكم يُحِبُّ أن يُعرِضَ الله عنه؟! قال : فخشعنا ، ثم قال : أيكم يحب أن يُعرض الله عنه؟ قلنا : لا أَيُّنا يا رسول الله12.

قال : فإنَّ أحدكم إذا قام يصلي ، فإن الله تبارك وتعالى قِبَلَ وجهه13، فلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وجهه ، ولا عن يمينه ، ولْيَبصُقْ عن يساره تحتَ رِجْلِه اليُسرى14، فإن عَجِلَتْ به بادرة ،

فلْيَقُلْ بثوبه هكذا1، ثم طَوى ثوبَه بعضَه على بعض ـ وفي رواية أبي داود : ووضَعَ ثوبَه على فيه ثم دَلَكه ـ . 

ثم قال : أَروني عَبيراً2، فقام فتىً من الحيّ يَشتَدُّ إلى أهلِه3، فجاء بخَلوقٍ في راحَتِه ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعَلَه على رأسِ العُرْجون4، ثم لَطَخَ به على أَثَر النُّخامة5.

قال جابر : فمن هنا جَعلتُم الخَلوقَ في مَساجِدكم))6.

 

 

 

وروى مسلم ، والترمذي ، والنسائي وابن ماجَهْ7واللفظُ  لمسلم ، من حديث سليمان ابنِ بُرَيدةَ ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أن رجلاً سأَله عن وقت الصلاة ، فقال له : صَلِّ معنا هذين ، يعني اليومين8.

فلمّا زالتْ الشمسُ أمَرَ بلالاً فأذَّن ، ثم أمَرَه فأقام الظهر ، ثم أمره فأقام العصر والشمس مُرتفعةٌ بيضاءُ نَقيّة ، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس ، ثم أمره فأقام العِشاء حين غاب الشفقُ ثم أمره فأقام الفجرَ حين طلَع الفجرُ .

فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبْرَدَ بالظهرِ ، فأبرَدَ بها فأنعَمَ أن يُبرِد بها9، وصلّى العصرَ والشمسُ مُرتَفِعةٌ ، أخَّرَها فوقَ الذي كان ، وصلّى المغربَ قبل أن يَغيبَ الشَّفَقُ ، وصلّى العشاءَ بعد ما ذهب ثلثُ الليلِ ، وصلّى الفجرَ فأسْفَرَ بها .

ثم قال : أين السائلُ عن وقت الصلاة ، فقال الرجلُ : أنا يا رسول الله ، قال : وقتُ صلاتِكمِ بين ما رأيتم))10.

 

 

 

روى أبو داود والنسائي وابن ماجه11، واللفظ لأبي داود ، من حديث عَمْرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جَدِّه : ((أنَّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف الطُّهورُ12؟

فدَعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بماءٍ في إناء ، فغَسَل كَفَّيه ثلاثاً ، ثم غسَلَ وجهَه ثلاثاً ، ثم غسل ذِراعَيْه ثلاثاً ، ثم مسَحَ برأسِه ، فأدخَلَ إصبعَيْه السبّاحَتَيْنِ في أُذُنَيْه ، ومسح بإبهامَيْه على ظاهر أُذُنَيه ، وبالسبّاحتين باطِنَ أُذنَيه ، ثم غسل رِجلَيْه ثلاثاً ثلاثاً ، ثم قال : هكذا الوُضوء ، فمن زاد على هذا أو نَقَص ، فقد أساءَ وظَلَم ، أو ظَلَم وأساء)) .

 

 

 

 

وروى البخاري1عن مُعاذ بن عبد الرحمن ، أن ابنَ أبان أخبره ، قال : ((أتيتُ عثمان بن عَفّان بطَهورٍ ، وهو جالسٌ على المَقاعِد، فتوضأ فأحسَنَ الوضوءَ ثم قال : رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يتوضَّأ وهو في هذا المجلس ، فأحسَنَ الوضوءَ ثم قال : من توضأ مثلَ هذا الوضوء ثم أتى المسجِدَ وصلّى ركعتين لا يُحدِّثُ فيها نفسَه2، ثم جلسَ ، غُفِر له ما تَقدَّم من ذنبه . قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لاتغتَرّوا))3.

وقد صلّى مرّةً بالناس إماماً ، وهو على المِنْبَر ، لِيَرَوْا صَلاتَه كلُّهم ، ولِيَتَعلَّموها من أفعالِه ومُشاهَدَتِه صلى الله عليه وسلم :

 

 

 

روى البخاري ومسلم4، واللفظ للبخاري ، عن سَهْل بن سَعْد السّاعِدي رضي الله عنه قال : ((رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المِنبر ، فاستَقبَلَ القِبلة ، وكَبَّر ، وقامَ الناسُ خلْفَه ، فقرأ وركع ، وركعَ الناسُ خلفَه ، ثم رفَع رأسَه ، ثم رجَعَ القَهْقَرى فسجَدَ على الأرض5، ثم عاد إلى المِنبر ، ثم قرأ ، ثم رَكع ، ثم رفَع رأسه ، ثم رجع القهقرى حتى سجَدَ بالأرض ، فلما فرَغَ أقبَلَ على الناس فقال : أيها الناس ، إنما صَنَعْتُ هذا لِتَأْتمّوا بي ، ولِتَعلَّموا صلاتي))6.

 

 

 

وروى أبو داود في (باب الوضوء من مس اللحم النَّيِّىء وغَسْلِه) وابن ماجه في كتاب الذبائح (باب السَّلْخ)7، واللفظُ لابن ماجه ، عن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله تعالى عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بغُلامٍ يَسلُخُ شاةً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : تَنَحَّ حتى أريَك ، فأدخَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَه بين الجِلْدِ واللَّحم ، فدَحَس بها حتى تَوارَتْ إلى الإبط8. وقال : يا غلامُ هكذا فاسْلُخ ، ثم مَضى وصلّى للناس ولم يتوضأ)) .

 

------------------------------------------

1 ـ من سورة الأحزاب ، الآية 21 .

2 ـ قال العلامة الحَجْوي في ((الفِكْر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي)) 1 :154 : ((ومن شواهد أن البيانَ بالفعل أقوى من البيان بالقول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تَمَّ الصُلحُ بينه وبين كفارِ قُريش في الحُدَيْبيّة ، أَمَر أصحابه أن يَتحلّوا من إحرامهم ، ويَنْحُروا هَدْيَهم ، فقال لهم : ((قوموا فانحَروا ، ثم احلِقوا)) ، فَتَوانَوا في ذلك إذ لم يَستَحْسِنوا الصلحَ ورأو القتال أفضل .

فدخَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على زوجِه أمِّ سَلَمة رضي الله عنها واخبرَها بتَخلُّفِ الناس عن أمرِهِ ، فأشارَتْ على النبي صلى الله عليه وسلم أن يَحلق رأسَه ، ويَنْحَر هَدْيَه ، فإنهم لا محالةَ يقتدون به ، ففَعَلَ ، فلما رأوا ذلك قاموا فَنَحروا ، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضاً حتى كاد بعضُهم يقتُلُ بعضاً غَماً .

وهذا من كمالِ عقلِ السيدةِ أم سلمة رضي الله عنها ، إذ فهِمتْ أنهم استَصعَبوا التحلُّلَ من النسك قبل استيفاء المناسك ، وأن البيان بالفعل أقوى من القول ، فكان الأمر كما فَهِمتْ رضي الله عنها)) . انتهى بزيادة يسيرةٍ . 

3 ـ 1 : 538 .

1 ـ ويمكن أن تقرأ : (ويُغلَبُ فلا يُهجَرُ) ، لتآخي السجعتين وزناً أي لا يُهْجَرُ من أصحابه ليقينهم بصدقِ نُبُوَّتِهِ وأنه بَشَرٌ سَوِيّ .

2 ـ 2 : 339 ـ 340 في أوائل الفصل الرابع من (الباب العاشر) .

3 ـ من سورة الإسراء ، الآية 1 .

4 ـ من سورة الفرقان ، الآية 1 .

5 ـ من سورة البقرة ، الآية 23 .

6 ـ من سورة الحجرات ، الآية 13 .

7 ـ هذا الرقمُ لأحاديث الكتاب ، من أولِه إلى آخره ، وقد سَبَقَتْ في الشطر الأول من الكتاب (الرسولُ المعلِّم صلى الله عليه وسلم) 17 حديثاً ، السابع عشر منها في ص 37 .

8 ـ مسلم 18 :136 في كتاب الزهد والرقائق (باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليَسَر) ، وأبو داود 1 :131 في كتاب الصلاة (باب كراهية البُزاق في المسجد) .

9 ـ ابنُ طاب : رجل من أهل المدينة ، ينسب إليه نوعٌ من تمرها . ومن عادتهم أنهم ينسبون ألوان التمر كلَّ لون إلى نسبة . والعُرجون هو العود الأصفر العريض الخالي من الرُّطَب إذا يَبِسَ واعوج . وسُمي (عُرْجوناُ) لانعراجه وانعطافه . أي كان بيده صلى الله عليه وسلم عود من شجر ذلك التمر .

10 ـ النخامة هي : البزْقة تخرجُ من أقصى الحَلْق ، وهي البلغم .

11 ـ يعني : أطرقنا برؤوسنا وأبصارنا إلى الأرض .

12 ـ يعني : لا أحَدٌ منا يحب ذلك يا رسول الله .

13 ـ هذا من التعبير المجازي ، كما يقال : (بيت الله) و(كعبة الله) . والمراد : أن القبلة التي أمَرَ الله المصليَ بالتوجه إليها للصلاة : قِبَلَ وجهه ، فليَصُنها عن النخامة . وإنما أضيفت تلك الجهة إلى الله تعالى ، على سبيل التكريم والتعظيم ، مثل قوله : (ناقَةَ الله وسُقْياها) .

14 ـ إنما يسوغ هذا الفعل في أثناء الصلاة ، وفي داخل المسجد ، إذا اضطرَّ إليه المصلي ، وكانت أرض المسجد تراباً أو رملاً أو حصى أو نحو ذلك ، كما كانت المساجد في العهد النبوي . أما إذا كان المسجد مبلَّطاً أو مجصَّصاً أو مفروشاً بشيء ، كما هي حالُ المساجد اليوم ، فيتعيَّن على المصلي البُصاق في ثوبه إذا احتاج إليه ، إذْ تجب صيانة المسجد عن كل مستقذَرٍ أو مكروهٍ أو مُذهِبٍ للنظافة . ورحم الله الإمام البخاري ورَضِيَ عنه ، ما أجلَّ ورعَه وأشدَّ رعايتَه للمسجد ، حكى الحافظ ابن حجر في ((هَدْي الساري مقدمة فتح الباري)) 2 :196 ، في خلال ترجمة الإمام البخاري ، قال رحمه الله تعالى : ((قال محمد بن منصور : كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري ، فرفَعَ إنسانٌ قَذاةً من لحيته وطَرَحها إلى الأرض . فرأيتُ البخاري ينظر إليها وإلى الناس ، فلما غفل الناس ، رأيتُه مدَّ يدَه فرفع القذاة من الأرض فأدخلها كُمَّه ، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها على الأرض)) .انتهى . =

= فقد صان الإمام البخاري أرضَ المسجد عما تُصانُ عنه لِحيتُه ، إنها بصيرةُ العلم والعمل ، (فبهُداهُمْ اقْتَدِهْ) .

1 ـ أي فليفعل بثوبه هكذا ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم .

2 ـ أي هاتوا لي عبيراً . والعَبير ـ مثلُه الخَلوقُ الآتي ذكره بعد قليل ـ أنواعٌ من الطيب تُجمع وتُخلط بالزعفران .

3 ـ أي يسعى ويعدو عدواً شديداً .

4 ـ أي على رأس العود الذي كان بيده صلى الله عليه وسلم .

5 ـ أي مسحَ به أثر النخامة ليُزيل الطيِّبُ الخبيثَ .

6 ـ في هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية :

إعادةُ الكلمة ثلاثاً ، لتَبْلُغَ من نفوس المخاطبين كلَّ مبلغ .

وفيه : البيان بالفعل ، ليكون أوقع في نفس السامع ، وليكون أوضح دلالةً على ما يُرادُ تعليمُه .

وفيه : عِظَمُ تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ باشَرَ حكَّ النخامة بنفسه .

وفيه : تقبيحُ المنكر باللسان .

وفيه إزالة المنكر باليد لمن قَدَر عليه .

وفيه من الفقه والأحكام الشرعية الاجتماعية :

      طلَبُ إزالة ما يُستقذَرُ أو يُتنزَّه عنه ، من المسجد .

      وفيه : تعظيمُ المساجد وصيانتُها من كل ما يكدِّرُها من الأوساخ ونحوها .

      وفيه : أن البزاق والمخاط والنخامة ـ على تقزُّر النفوس منها ـ طاهرة ، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم تَفَل في ثوبه وأراهم كيف يفعل من بادَرَه وغلَبَه البصاق .

      وفيه : أن البصاق في الصلاة لا يبطل الصلاة ، وكذا التنخُّم ، إن لم يتبين منه حَرْفانِ أو كان مغلوباً عليه .

      وفيه : احترامُ جهة القِبلة وتعظيمها .

      وفيه : أنه إذا بزَقَ يبزق عن يساره ، ولا يبزق أمامه للقبلة تشريفاً للقبلة ، ولا عن يمينه تشريفاً لليمين ولو كان خارج الصلاة، وإنما يبزق عن يساره ما لم يكن مانع ، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : ما بصقتُ عن يميني منذ أسلمت .

      وفيه : أن التحسين أو التقبيح إنما هو بالشرع ، فإن جهة اليمين مفضلة على اليسار ، وإن اليد مفضلة على القدم ، وإن يوم الجمعة مفضل على سواه . وأخطأ أبو الطيب المتنبي إذ جعَلَ ذلك التفضيلَ من باب الجَدّ والحظّ ، لا من باب الشرع والنقل فقال : 

هو الجَدُّ حتى تَفضُلُ العينُ أختَها                   وحتى يكونَ اليومُ لليومِ سيِّدا

وفيه : الحثُّ على الاستكثار من الحسنات وإن كان صاحبها مَلِيّاً ، لكون النبي صلى اللهعليه وسلم ـ هو سيد الأنبياء والمتقين ـ باشر الحكَّ بنفسه صلوات الله وسلامه عليه .

وفيه : مشروعيةُ تطييب المساجد .

وفيه : تفقُّدُ الإمام الأعظم حالَ المساجد وتعهدُها . وهي حَرِيّةٌ بالتعهد والعنايةِ كلَّ العناية من إمام المسلمين ، لأنها مجامع المسلمين ، ومواطن عبادتهم ، ومدارس تعليمهم وثقافتهم ، ومنتداهم ومجلس شوراهم ، ومركز قيادتهم ، ومنطلق جيوشهم ، وموئل لقائهم ، ومتعلَّقُ قلوبهم وأفئدتهم ، وملتقى الوفود لديهم ... فما أحراها بالتفقد والاهتمام .                    

7 ـ مسلم 5 :114 في كتاب المساجد (باب أوقات الصلوات الخمسة) ، والترمذي 1 :102 في أول كتاب الصلاة ، والنسائي 1 :258 في كتاب المواقيت (أول وقت المغرب) ، وابن ماجَهْ 1 :219 في أول كتاب الصلاة .

8 ـ أي لتَعرِف الوقتَ عَمَليّاً ، ويحصُلَ لك البيانُ بالفعل .

9 ـ أي فأطالَ الإبرادَ وأخّر الصلاة .

10 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 5 :114 : ((في هذا الحديث البيانُ بالفعلِ ، فإنه أبلَغُ في الإيضاحِ ، والفعلُ تَعُمُّ فائدتُه السائلَ وغيرَه ، وفيه تأخرُ البيان إلى وقت الحاجة ،وهو مذهبُ جُمهورِ الأصوليين)) .

11 ـ أبو داود 1 :33 في كتاب الطهارة (باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً) ، والنسائي 1 :88 ، وابن ماجه 1 :146 .

12 ـ أي كيف الوضوء؟ .

1 ـ البخاري 11 : 213 ، في كتاب الرقاق (باب قول الله تعالى : يا أيها الناس إن وعد الله حق الآية) .

2 ـ أي لا يَشْغَلُ فيهما نفسه وخاطِرَه بشيء من أمور الدنيا .وهذه الجملة (لا يحدث فيهما نفسه) من رواية أخرى عند البخاري1 :227 .

3 ـ قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :228 و 11 :214 : ((في الحديث التعليمُ بالفعلِ لكونه أبلَغَ وأضبطَ للمتعلِّم ، وقولُه صلى الله عليه وسلم (ولا تغتَرّوا) معناه : لا تَحمِلوا الغفرانَ على عمومِه في الذنوب ، فتَستَرسِلوا في الذنوب اتكالاً على غفرانِها بالصلاة ، فإن الصلاةَ التي تُكفِّر الذنوبَ هي المقبولة ، ولا اطِّلاعَ لأحدٍ عليه . ثم المُكفَّرُ بالصلاة هي الصغائرُ فقط ، دون الكبائرِ وحقوقِ العباد)) . انتهى ملخصاً بزيادة يسيرة .

4 ـ البخاري 1 :409 في كتاب الصلاة (باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب) ، و2 :331 في كتاب الجمعة (باب الخطبة على المنبر) ، ومسلم 5 :35 في كتاب المساجد (باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة) .

5 ـ القهقرى : المَشْيُ إلى خَلْف ، والحامِلُ على رُجوعِه القهقرى هو المحافظةُ على استقبال القِبلة .

6 ـ أي لِتتعلَّموا صلاتي . قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 5 :75 : ((فبيَّن لهم صلى الله عليه وسلم أنَّ صُعودَه المِنبر ، وصلاتَه عليه ، إنما كان للتعليم ، لِيرى جميعُهم أفعالَه صلى الله عليه وسلم ، بخلاف ما إذا كان على الأرض ، فإنه لا يَراه إلاّ بعضُهم ممن قَرُب منه)) .

وقال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 2 :331 ((وعُرِفَ من قوله صلى الله عليه وسلم : (أيها الناس إنما صَنعتُ هذا ، لِتأتَمّوا بي ، ولِتَعلَّموا صلاتي) ، أنَّ الحكمة في صلاته في أعلى المِنبر لِيراه من قد يَخفى عليه رُؤيتُه إذا صلى على الأرض .

ويُستفادُ منه أن من فعلَ شيئاً يُخالِفُ العادة : ـ ينبغي ـ أن يُبيِّن حِكمتَه لأصحابه . وفيه جوازُ تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفِعل ، وجوازُ العَمَلِ اليسير في الصلاة ، وكذا الكثيرُ إن تَفرَّق . وفيه استحبابُ اتخاذِ المنبر لكونه أبلَغ في مشاهدةِ الخطيب والسماع منه)) . انتهى .

7 ـ أبو داود 1 :86 ، وابن ماجه 2 :1061 . 

8 ـ قوله : (فدَحَسَ بها ـ أي بيده ـ حتى توارت إلى الإبط) . الدَّحْسُ أن يُدخِلَ الرجلُ يدَهُ بين جِلْدِ الشاةِ وصِفاقِها ليَسلخَها . وجاء لفظُ (دَحَسَ) في شعرٍ عالٍ رفيع ، ومعنىً نبيل بديع ، أَحببت ذكره هنا ـ استطراداً ـ لبداعته وحصافتِه ، وصدقِهِ وبلاغته ـ قاله الصحابيُّ الجليلُ العلاءُ بن الحَضرَمي ـ من حضرموت ـ فاتحُ البحرين وأميرُها ولاّه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبقي عليها حتى توفي في خلافة عمر سنة 14 أو 21 رضي الله عنهما قال :

وحَيِّ ذَوي الأضغانِ تَسْبِ قُلوبَهم             تحيَّةَ ذي الحُسنى فقد يُرقَعُ النَّقَلْ

فإنْ دَحَسوا بالشرِّ فاعْفُ تكرُّماً                وإن كتموا عنك الحديثَ فلا تَسَلْ

فإنَّ الذي يُؤذيكَ منه سَماعُهُ                    وإنَّ الذي قالوا وراءَك لم يُقَلْ

قوله : (فقد يُرقَعُ النَّقَل) ، النَّقَلُ بفتح النون والقاف جميعاً : الخُفُّ الخَلَقُ ، والنَّعْلُ الخَلَق ، قال في ((القاموس)) في (نقل) : ((المَنْقَل كمَقْعَد : الخُفُّ الخَلَقُ ، وكذا النَّعلُ كالنَّقْل ، ويكسَرُ فيهما ، ويُحرَّك ، جمعُه أَنْقالٌ ونِقال ، والنَّقيلةُ رُقعةُ النَّعُلِ والخُفّ)) . انتهى .

فانظر إلى هذا الشعر البليغ والتوجيه الرفيع والمعنى البديع ، فهو يوصي مُخاطَبَه بان لا يُجافيَ ولا يقاطعَ الضاغنين عليه ، بل يُسلِّمُ عليهم ويُحيّيهم إذا لَقِيَهم ، فإنَّ العداوة والجفوة قد تزول ، وتعودُ المُواصلةُ والمداخلة ، وضَرَب لذلك مثلاً بالخُفِّ والنَّعْلِ الخَلَق ، فإنه يُترَكُ لتمزُّقِه ، ولكنه قد يُرقَعُ فيعودُ نافعاً جيداً كما كان قبلَ تمزُّقِه ، ثم استرسل في النصح المتمم للتعامل مع ذوي الأضغان ، فأحسن وأجاد . =

= ووقع في مقدمة ((شرح ديوان الحماسة)) للتبريزي 1 :3 من طبعة بولاق ، تحريفُ (النَّقَل) إلى (النَّعْل) بالعين المهملة ، و(النَّعْل) بسكون العين لا غير ، والصوابُ فيه كما ضبطتُه وحتى لا ينكسر البيت ، ومعذرة من هذه الاستطرادة ، فقد غلبني حُسنُ الأبيات وعُلُوُّ معانيها وشَدَّني إلى إيرادها هنا ، ليَنتفع بها من يقرأها إن شاء الله تعالى .




                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق