تعليمُه صلى الله عليه وسلم الشرائعَ بالتدريج
وكان صلى الله عليه وسلم يُراعي التدريجَ في التعليم ، فكان يقدِّمُ الأهمَّ فالأهمَّ ، ويُعلِّمُ شيئاً فشيئاً نَجْماً نجماً ، ليكون أقربَ تَناولاً ، وأثبتَ على الفُؤاد حفظاً وفهماً .
ـ روى ابنُ ماجه1عن جُنْدَب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : ((كُنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن فِتْيان حَزاوِرة2، فتعلَّمنا الإيمان قبل أن نتعلَّم القرآن ، ثم تعلَّمنا القرآن ، فازدَدْنا به إيماناً)) .
ـ وروى البخاري ومسلم3، واللفظ له ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مُعاذاً إلى اليمن ، فقال : إنك ستأتي قوماً من اهل الكتاب ، فادعُهم إلى شهادة أنْ لا إله إلاّ الله وأني رسولُ الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعْلِمْهُم أن الله افتَرَض عليهم صدقةً ، تُؤخَذ من أغنيائِهم فتُرَدُّ على فُقرائِهم ، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكَرائِمَ أموالِهم ، واتَّق دعوةَ المَظلومِ ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))4.
ـ وروى الإمام أحمد في ((مسنده))5عن محمد بن فُضَيلٍ عن عطاء ـ هو ابنُ السائب ـ ، عن أبي عبد الرحمن ـ هو السُّلَمي المقرىء ـ قال : ((حَدَّثَنا من كان يُقرِئُنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يَقْتَرئونَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آياتٍ ، فلا يأخذون في العَشْرِ الأُخرى حتى يَعلَموا ما في هذه من العلم والعمل)) .
ـ وأخرج الطَّبَري في ((تفسيره))6عن الحُسين بن واقد ، حدَّثنا الأعمشُ ، عن شَقيق ، عن ابن مسعود ، قال : ((كان الرجل منا إذا تعلَّم عشرَ آياتٍ لم يُجاوِزهُنَّ حتى يَعرِفَ معانيَهُنَّ والعَمَل بِهنَّ)) .
-------------------------------------------
1 ـ 1 :23 في المقدِّمة (باب في الإيمان) .
2 ـ حزاورة جمعُ حَزْوَرٍ وحَزَوَّر ، وهو الذي قارَبَ البلوغ .
3 ـ البخاري 3 :357 في كتاب الزكاة (باب أخذ الصدقة من الأغنياء ...) ، ومسلم 1 :196 في كتاب الإيمان .
4 ـ ومن فوائد هذا الحديث الكثيرة : البدءُ بالاهمِّ فالأهمِّ في الدعوةِ والتعليم ، إذ المطالبةُ بجميع الشرائع مرةً واحدةً توجبُ التَنفيرَ ، وكذا إلقاءُ جميع العُلوم على المتعلِّم دفعةً واحدةً يؤدّي إلى تضييع الكلِّ .
قال الإمام البخاري في ((صحيحه)) 1 :160 في كتاب العلم (بابٌ العلمُ قبلَ القولِ والعمَل) : ((يُقال : الرَّبّانيُّ : الذي يُرَبّي الناسَ بِصِغارِ العلم قبل كبارِه)) . قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :162 :
((المرادُ بصغار العلم ما وَضَح من مسائِلِه ، وبِكبارِه ما دقَّ منها ، وقيل : يُعلِّمُهم جزئياتِه ، قبل كلّياتِه ، أو فُروعَهُ قبل أصولِه ، أو مقدِّماتِه قبل مَقاصِدِه)) .
وروى ابن عبد البر في ((جامع بيانِ العلم)) 1 :431 ، عن يونس بن يزيد قال : قال لي ابنُ شهاب : ((يا يونس ، لا تُكابِِرْ العلمَ ، فإن العلمَ أودِيةٌ ، فأيُّها أخذتَ فيه قَطَع بك قبل أن تَبلُغَهُ ، ولكنْ خُذْه مع الأيام والليالي ، ولا تأخذ العلمَ جملةً ، فإن من رام أخذَه جملةً ذَهَب عنه جملةً ، ولكن الشَّيءَ بعد الشَّيءِ مع الأيّامِ والليالي)) .
5 ـ 5 :410 .
6 ـ 1 :35 .