رِعايتُه صلى الله عليه وسلم في التعليم الاعتدالَ والبُعدَ عن الإملال
وكان صلى الله عليه وسلم يتعهَّد أوقاتَ أصحابه وأحوالَهم في تذكيرهم وتعليمهم ، لئلاّ يَمَلّوا ، وكان يُراعي في ذلك القَصْدَ والاعتدال .
روى البخاري في ((صحيحه)) في كتاب العلم (باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَتخَوَّلُهم بالموعِظةِ والعلمِ ، كيْ لا يَنْفِروا) ، ومسلم في ((صحيحه)) في (باب الاقتصاد في الموعظة)7واللفظُ له ، عن الأعمش ، عن شَقيقٍ أبي وائل قال : ((كُنّا جُلوساً عند بابِ عبدِ الله ـ بن مسعودٍ ـ ننتَظِرُهُ ، فمرَّ بنا يزيدُ بنُ مُعويةَ النَّخَعي ، فقلنا : أَعْلِمْهُ بمَكانِنا8، فدخَلَ عليه ، فلم يَلْبَثْ أن خَرَجَ علينا عبدُ الله ، فقال : إني أُخبَرُ بمَكانِكم فما يمنَعني أن أخرُجَ إليكم إلاّ كَراهِيةُ أن أُمِلَّكُم ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَتَخَوَّلُنا9بالموعِظةِ في الأيام مَخافةَ السَّآمةِ علينا))10.
وروى البخاري أيضاً في كتاب العلم (باب من جَعَل لأهلِ العلم أياماً معلومةً) ، ومسلم في الباب السابق ، واللفظُ منهما1، عن منصورٍ عن شقيقٍ أبي وائل قال : ((كان عبدُ الله يُذكِّر الناس في كلِّ خميسٍ ، فقال له رجلٌ : يا أبا عبد الرحمن ـ هذه كنيةُ عبدِ الله بن مسعود ـ ، إنّا نُحِبُّ حديثَك ونَشْتَهيهِ ، ولوَدِدنا أنك حَدَّثتنا كلَّ يوم ، فقال : ما يَمنعُني أن أحَدِّثَكم إلاّ كراهيةُ أن أُمِلَّكُم ، وإني أتَخوَّلُكُم ، بالمَوْعظةِ ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَخوَّلُنا بها مخافةَ السَّآمةِ علينا))2.
وروى البخاري ومسلم أيضاً ، الأولُ في كتاب العلم ، (باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُهم بالموعظة كيْ لا يَنْفِروا) ، والثاني في كتاب الجهاد3، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((يَسِّروا ولا تُعسِّروا ، وبَشِّروا ولا تُنفِّروا))4.
ولفظُ مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَث أحداً من أصحابِه في بعض أمرِهِ ، قال : بشِّروا ، ولا تُنَفِّروا ، ويسِّروا ولا تُعسِّروا)) .
-------------------------------------------
7 ـ البخاري 1 :162 ، ومسلم 17 :163 .
8 ـ أي بكَوْنِنا هنا بانتظاره .
9 ـ أي كان يَتَعَهَّدُنا ، فيُراعي أوقاتَنا ويَتَطَلَّبُ أحوالَنا التي نَنْشَطُ فيها للموعظةِ ، ولا يفعل ذلك كلَّ يومٍ لئلا نَمَلَّ .
10 ـ السَّآمةُ : المَلالةُ ، والمعنى : كان يتَعهَّدُنا أي يُعلِّمُنا أياماً ويدَعُنا بعضَ الأيام كراهية أن نَمَلَّ شفقةً علينا ، ليكون أخذُنا عنه بنَشاطٍ وحِرصٍ وشوق ، لا عن ضَجَر ومَلال فيَفوت مقصودهُ .
1 ـ البخاري 1 :163 ومسلم 17 :163 ـ 164 .
2 ـ قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :163 : ((يُستفاد من هذا الحديث استحبابُ ترك المُداومةِ في الجِدِّ في العمل الصالح خشيةَ المَلال ، وإن كانت المُواظَبةُ مَطلوبةً ، لكنها على قسمين : إمّا كلَّ يومٍ مع عدم التكلُّفِ ، وإمّا يوماً بعد يومٍ فيكون يومُ الترك لأجل الراحة ، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ، والضابط الحاجةُ مع مُراعاةِ وجودِ النَّشاط)) .
3 ـ البخاري 1 :163 ومسلم 12 : 42 في كتاب الجهاد والسِّير (باب تأميرِ الإمام الأمراءَ على البُعوث ، ووصيَّتِه إياهم بآداب الغزو وغيرِها) .
4 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 12 :41 : ((في هذا الحديث الامرُ بالتبشيرِ بفضلِ الله وعظيم ثوابِه ، وجَزيل عَطائِه وسعةِ رحمتِه ، والنهيُ عن التنفير بذكر التخويفِ وأنواع الوعيد مَحْضةً من غير ضَمِّها إلى التبشير .
وفي هذا الحديث أيضاً بيانُ تأليفِ من قَرُب إسلامُهُ وتركِ التشديدِ عليهم ، وكذلك من قارَبَ البُلوغَ من الصبيان ومن بَلَغَ ومن تابَ عن المعاصي ، كلُّهم يُتلَطَّفُ بهم ، ويُدَرَّجون في أنواع الطاعةِ قليلاً قليلاً .
وقد كانت أمورُ الإسلام في التكليف على التدريج ، فمتى يُسِّرَ على الداخلِ في الطاعةِ أو المُريدِ للدخولِ فيها سَهُلَتْ عليه ، وكانت عاقبتُه غالباً التزايد ، ومتى عُسِّرتْ عليه أوْشَكَ أن لا يدخُل فيها ، وإن دخل أوْشَكَ أن لا يدوم أو لا يَستَحليها)) .
قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 1 :163 : وكذا تعليمُ العلم ينبغي أن يكون بالتدريج ، لان الشيءَ إذا كان في ابتدائه سهْلاً حُبِّبَ إلى من يدخُلُ فيه ، وتَلَقّاه بانبساط ، وكانت عاقبتُه غالباً الازديادَ ، بخلاف ضدِّه)) .