انتِهازُه صلى الله عليه وسلم المناسباتِ العارِضةَ في التعليم
وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يَنْتهِزُ المناسَبَةَ المُشاكِلةَ لما يُريدُ تعليمَه ، فيَربِطُ بين المناسبةِ القائمة ، والعلمِ الذي يُريد بَثَّه وإذاعتَه ، فيكون من ذلك للمخاطبين أبيَنُ لوضوح ، وأفضلُ الفَهْم ، وأقوى المعرفة بما يَسمعون ويُلقى إليهم .
روى مسلم10عن جابر رضي الله عنه : ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسّوق ، داخلاً من بعضِ العالِيَة11، والناسُ كنَفَتَيْه12، فمرَّ بجَدْيٍ ميِّتٍ أسَكَّ13، فتناولَه فأخذَ بأُذُنِه ، ثم قال : أيُّكم يُحِبُّ أنَّ هذا له بدرهم؟ قالوا : ما نُحِبُّ أنه لنا بشيء ، وما نَصنَعُ به؟ قال : أتُحِبّون أنه لكم14؟ قالوا : واللهِ لو كان حيّاً كان هذا السَّكَكُ عَيْباً فيه ، لأنه أسَكّ ، فكيف وهو ميِّت؟! فقال : فواللهِ للدُّنيا أهونُ على الله من هذا عليكم)) .
وروى البخاري ومسلم15عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ((قَدِمَ على النبي صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ16، فإذا امرأةٌ من السبي تَحلَّبَ ثَدْياها17تَسْعى18، إذْ وَجَدَتْ صَبِياً ـ لها ـ في السبي ، أخذَتْهُ فألصَقَتْه ببطنها وأرضعته1، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم : أتُرَوْن2هذه طارحةً ولدَها في النار؟ قلنا : لا ، وهي تَقْدِرُ على أن لا تَطرحه3، فقال : للَّهُ أرحمُ بعِبادِه من هذه بوَلَدِها))4. فانتَهَزَ صلى الله عليه وسلم المُناسبةَ القائمةَ بين يديه مع أصحابه ، المشهودَ فيها حنانُ الأُمِّ الفاقِدة ، على رَضيعها إذْ وَجَدَتْه ، وضرَبَ بها المُشاكَلَةَ والمُشابهةَ برحمة الله تعالى ، ليُعرِّفَ الناسَ رحمةَ رَبِّ الناسِ بعباده ، ولم يَبتدِئهم أو يقْتَبِلهم بهذا المعنى اقتبالاً وابتداءً دون مناسبة ، بل أورده لهم في هذه المناسبة ، فكان ذلك دَرْساً وشَرْحاً لسَعَةِ رحمة الله تعالى ورأفتِه بمخلوقاته سبحانه (واللهُ رَؤوفٌ بالعِباد)5.
وروى البخاري6عن جَرير بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه ، قال : ((كنا جلوساً ليلةً مع النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ نَظَرَ إلى القمر ليلةَ البَدْر ، فقال : إنكم سَتَرَوْن ربَّكم يومض القيامة ، كما ترون هذا القمر، لا تُضامون في رُؤيَتِه7، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس ، وصلاةٍ قبل غروبها ، فافعلوا ، ثم قرأ : (وسَبِّحْ بحَمْدِ ربِّك قبلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وقبلَ الغُروب)8.
فانتهز صلى الله عليه وسلم مُشاهدةَ الصَّحابةِ للقمر ليلةَ البدر ، فبيَّنَ لهم أن رؤية الله تعالى في الآخرة ، ستكون للمؤمنين في الجنة بهذا الوضوح وتلك السُّهولةِ واليُسْر .
--------------------------------------
10 ـ 18 :93 في أول كتاب الزهد والرقائق .
11 ـ العالية : قُرى بظاهر المدينة .
12 ـ أي جانِبَيهْ .
13 ـ أي صغيرِ الأذنين .
14 ـ أي بلا شيء مّا .
15 ـ البخاري 10 :360 في كتاب الأدب (باب رحمة الولد وقبلته ومعانقته) ، ومسلم 17 :70 في كتاب التوبة (باب سعة رحمة الله وأنها تغلب غضبه) .
16 ـ السَّبْيُ : الأسرى ، وكان هذا السبي سبي هَوازِن .
17 ـ أي سال حليبُ ثدييها .
18 ـ أي تمشي بسرعة باحثة عن رضيعها الذي ذهب منها .
1 ـ يعني وهي على تلك الحال فوجئت بلقاءِ طفلها في السبي ، فأخذَتْه بحنانٍ شديد وشفقةٍ بالغة ، فضمَّتْه إلى قلبها وصدرِها فرِحةً مسرورةً بلُقياه ، فهو عندها أغلى الأطفال ، وأحبُّ الراضعين ، وقُرّةُ العين والقلب جميعاً .
2 ـ أي أتظنون؟
3 ـ أي لا تطرحه ما دامت تقدر على حفظه معها ووقايتِه .
4 ـ قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 10 :361 وهو يشرح فوائد هذا الحديث وما يستخرج منه من أحكام : ((فيه ضَرْبُ المَثَلِ بما يُدرَك بالحواسِّ لما لا يُدرَكُ بها ، لتحصيل معرفةِ الشيء على وجهه ، وإن كان الذي ضُرِبَ به المَثلُ لا يُحاطُ بحقيقته ، لأن رحمة الله لا تُدرَك بالعقل ، ومع ذلك فقد قَرَّبها النبيُّ صلى الله عليه وسلم للسامعين بحال المرأةِ المذكورة .
وفي الحديث أيضاً : جواز نظرِ النساءِ المَسْبِيّات ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عن النظر إلى المرأةِ المذكورة ، بل في سِياق الحديث ما يقتضي إذْنَه في النظر إليها)) .
5 ـ من سورة البقرة ، الآية 207 .
6 ـ 2 :27 في كتاب مواقيت الصلاة (باب فضل صلاة العصر) ، و8 :458 في كتاب التفسير (تفسير سورة ق) ، و13 :357 في كتاب التوحيد (باب قول الله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة) . وقد جمعتُ بين هذه الروايات هنا .
7 ـ أي لا يَحصُلُ لكم ضَيمٌ حينئذٍ . ورُوي : (لا تَضامّون في رؤيَته) . أي تتضامّون من الضمّ ، والمراد نفيُ الازدحام ، كما يقع للذين يَشهدون الهلالَ في أوَّلِ الشهر ، أنهم يَتضامّون لتتركَّزَ أحداقُهم على موضعٍ معيَّن ، فيشتركوا في رؤيتِه دون سواهم .
قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 13 :357 وهو يُفسِّرُ رواية (لا تَضامّون في رؤيتِه) : ((أي لا تَضامّون في رؤيته باجتماعٍ في جهة ، فإنكم تَرَوْنَه سبحانه في جهاتكم كلِّها ، وهو مُتعالٍ عن الجهة . والتشبيهُ برؤية القمر ، للرُّؤية دون تشبيه المَرْئي ، تعالى الله عن ذلك)) .
ورُوي : (لا تُضارّون في رؤيته) أي لا يَلْحَقُكم في رؤيته سبحانه مَشقّةٌ أو ضَرر .
8 ـ من سورة ق ، الآية 39 .