ابتداؤه صلى الله عليه وسلم أصحابَه بالإفادة دون سؤال منهم
وكان صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحيان يَبتَدىءُ أصحابَه بالإفادةِ من غير سؤالٍ منهم ، لا سيما في الأمور المهمةِ التي لا يَنتَبِهُ لها كلُّ واحدٍ حتى يَسألَ عنها ، فكان صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أصحابه جوابَ الشُّبْهة قبلَ حُدوثها ، خشية أن تقع في النفوس فتستَقِرَّ بها ، وتَفعلَ فعلَها السيِّىء :
روى البخاري ومسلم3عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يأتي الشيطانُ أحدَكم ، فيقول : من خلَقَ كذا وكذا؟ حتى يقول له : من خَلَق ربّك. فإذا بَلَغ ذلك ، فليستَعِذْ بالله ولْيَنْتَهِ))4.
وروى أبو داود1عن أبي هريرة أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يَزالُ النّاسُ يَتَساءَلونَ2، حتى يُقال هذا : خَلقَ اللهُ الخلقَ ، فمن خلَقَ اللهَ؟ فمن وجَدَ من ذلك شيئاً فليَقُلْ : آمنْتُ بالله))3. وفي رواية ثانية : ((فإذا قالوا ذلك ، فقولوا : (اللهُ أحَد4 ، اللهُ الصَّمَد5، لم يَلِدْ ، ولم يولَدْ ، ولم يكنْ له كُفُواً أحد)6، ثم ليَتْفُلْ عن يساره ثلاثاً7، ولْيَسْتَعِذْ من الشيطان))8.
وقال ابن حبان في ((صحيحه)) بترتيب الأمير علاء الدين الفارسي9: ((ذكرُ الخبر الدال على إباحة إلقاء العالم على تلاميذه المسائل التي يريد أن يعلمهم إياها ابتداءً ، وحَثُّه إياهم على مثلها .
عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمسُ ، فصلى لهم صلاة الظهر ، فلما سلَّم قام على المنبر ، فذكَرَ الساعة ، وذكر أنَّ قبلها أموراً عِظاماً ، ثم قال :
من أحبَّ أن يسألني عن شيء فليسألني عنه ، فواللهِ لا تسألوني عن شيء إلاّ حدثتكم به ما دُمتُ في مقامي .
قال أنس بن مالك : فأكثَرَ الناسُ البكاءَ حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكثَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : سَلوني سَلوني .
فقام عبد الله بن حُذافة ، فقال : من أبي يا رسول الله؟ قال : أبوك حُذافة))10.
وروى هذا الحديثَ أيضاً البخاري ومسلم واللفظُ لمسلم1: عن أنس رضي الله عنه ((أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس ، فصلّى صلاةَ الظهر ، فلمّا سلَّم قام على المنبر ، فذكَر الساعة ، وذكر انَّ قبلها أموراً عِظاماً2، ثم قال : من أحبَّ أن يسألني عن شيء فليسألني عنه ، فواللهِ لا تسألوني عن شيء إلاّ حدثتكم به ما دُمتُ في مقامي هذا3.
قال أنس : فأكثَرَ الناسُ البكاءَ حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم4، وأكثَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : سَلوني ، فقام عبد الله بن حُذافة ، فقال : من أبي يا رسول الله؟ قال : أبوك حُذافة5.
فلما أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ان يقول : سلوني ، بَرَك عمر فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمدٍ رسولاً6. فسكت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك .ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَوْلى7، والذي نَفْسُ محمد بيده ، لقد عُرِضَتْ عليَّ الجنةُ والنارُ آنفاً في عُرْضِ هذا الحائط8، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر))9.
ثم روى مسلم عن عُبَيد الله بن عُتبة قال : ((قالت أم عبد الله بن حُذافة لعبد الله بن حذافة : ما سمعتُ بابنٍ قَطُّ أعَقَّ منك! أأمِنتَ أن تكون أُمُّك قد قارفَتْ بعضَ ما تُقارفُ نساءُ أهل الجاهلية؟! فتفضَحَها على أعينِ الناس؟ قال عبد الله بن حذافة : واللهِ لو ألحقني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعبدٍ أسْوَدَ للحقتُه10.
فلما أكثر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ان يقول : سلوني ، بَرَك عمر بن الخطاب على ركبتيه ، قال : يا رسول الله رَضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً .
قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ، لقد عُرِضَ عليَّ الجنةُ والنارُ آنفاً11 في عُرْض هذا الحائط ، فلم أر كاليوم في الخير والشر)) .
---------------------------------------
3 ـ البخاري 6 :240 في كتاب بدء الخلق (باب صفة إبليس وجنوده) ، و13 :230 في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (باب ما يكره من كثرة السؤال ...) ، مسلم 2 :154 في كتاب الإيمان (باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها) .
4 ـ أي وليقطع ذِهْنَهُ عن الاسترسال معه في ذلك ، بل يلجأ إلى الله تعالى في دفعه ، ويعلَمُ أن الشيطان يريد إفسادَ دينه وعقله بهذه الوسوسة ، فينبغي أن يجتهد في دفعها وقطعها بالاشتغال بغيرها .
قال الخطابي : وجهُ هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك ، فاستعاذ الشخصُ بالله منه ، وكفَّ عن مطاولته في ذلك اندفع . والشيطان ليس لوسوسته انتهاء ، كلما أُلزِمَ حُجّةً زاغ إلى غيرها ، إلى أن يُفضِيَ بالمرء إلى الحَيْرة نعوذ بالله من ذلك .
على أن قولَه : (مَنْ خَلَق ربَّك) كلامٌ مُتَهافِت ، يَنقُضُ آخِرُه أوَّلَه ، لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقاً ، ثم لو كان السؤالُ متَّجِهاً لاستلزَم التسلسل ، وهو مُحال . وقد أثبَتَ العقلُ أن المُحدَثات مفتقِرة إلى مُحْدِث ، فلو كان هو مفتقِراً إلى مُحدِث ، لكان من المُحدَثات .
قال ابن بطّال : فإن قال المُوَسْوِسُ : فما المانعُ أن يَخلق الخالقُ نفْسَه؟ قيل له : هذا يَنْقُضُ بعضُه بعضاً ، لأنك أثبتَّ خالِقاً ، وأوجبتَ وجودَه ، ثم قلتَ : يَخلُقُ نفسَه ، فأوجبتَ عدمَه ، والجمعُ بين كونه موجوداً معدوماً فاسدٌ لتناقضه ، لأن الفاعل يتقدم وجودُهُ على وجودِ فِعلِه ، فيَستَحيل كونُ نفسِهِ فِعلاً له . انتهى .
قال ابن الّين : لو جاز لمُختَرِع الشيء أن يكون له مُختَرِع لَتَسَلْسَلَ ، فلا بد من الانتهاء إلى موجِد قديم ، والقديم من لا يَتَقدَّمه شيء ، ولا يصح عدمه ، وهو فاعل لا مفعول ، وهو الله تبارك وتعالى . انتهى من ((فتح الباري)) 13 :273 ـ 274 .
قال الشيخ محمد عبده في كتابه ((رسالة التوحيد)) ص 58 و59 و60 و61 ، مبيناً عجزَ العقل البشري عن إداك كُنهِ الحقائق الكونية ، فضلاً عن إدراكِ كُنْهِ ذاتِ الله تعالى : ((إذا قَدَرْنا عَقْلَ البشَرَ قَدْرَه ، وجدنا غايةَ ما ينتهي إلى كماله ، إنما هو الوصولُ إلى معرفة عَوارِض بعض الكائنات ، التي تقع تحت الإدراك الإنساني ، حِسّاً كان أو وِجْداناً أو تعقُّلاً ، ثم التوصُّلُ بذلك إلى معرفةِ مَناشِئها ، وتحصيل كُليّاتٍ لأنواعها ، والإحاطة ببعض القواعد لِعُروض ما يَعرِضُ لها .
وأما الوصولُ إلى كُنْهِ حقيةٍ مّا ، فمما لا تَبلُغُه قُوّةُ العقل ، لأن اكتناه المركَّبات إنما هو باكتناه ما تركَّبَتْ منه ، وذلك ينتهي إلى البسيط الصِّرْف ، وهو لا سبيل إلى اكتناهه بالضرورة ، وغايةُ مل يُمكنُ عِرفانُه منه : عَوارضُهُ وآثارُه .
هذا أظهرُ الأشياء واجلاها (الضَّوْءُ) ، قرَّر الناظرون فيه : له أحكاماً كثيرة ، فصَّلوها في عِلمٍ خاصّ به ، ولكن لم يستطع ناظرٌ أن يَفهم ما هو؟ ولا أن يَكتَنِهَ معنى (الإضاءة) نفسِه ، وإنما ما يَعرفه كلُّ بصير له عينان ، وعلى هذا القياس ـ غيرُ (الضَّوْء) من الكائنات ـ .
ثم إنَّ الله تعالى لم يجعل للإنسان حاجةً يدعو إلى اكتناه شيء من الكائنات ، وإنما حاجتُه إلى معرفة العَوارض والخَواصّ .
ولَذّةُ عقْلِه إن كان سليماً ، إنما هي تحقيقُ نسبةِ تلك الخواص إلى ما اختَصَّتْ به ، وإدراكُ القواعد التي قامَتْ عليها تلك النِّسَبُ ، فالاشتغالُ بالاكتناهِ إضاعةٌ للوقت ، وصَرْفٌ للقوة إلى غير ما سيقت له .
وأما الفكر في ذات الخالق سبحانه ، فهو طلَبٌ للاكتناه من جهة ، وهو ممتنع على العقل البشري ، لما علمتَ من انقطاع النسبة بين الوجودَيْن ، ولاستحالة التركُّب في ذاته . و : تطاولٌ إلى ما لا تَبْلغُهُ القوة البشرية من جهةٍ اخرى ، فهو عَبَثٌ ومَهْلَكة ، عَبَثٌ لأنه سَعْيٌ إلى ما لا يُدْرَك ، ومَهْلَكة لأنه يؤدّي إلى الخَبْط في الاعتقاد ، لأنه تحديدٌ لما لا يجوز تحديدُه ، وحَصْرٌ لما لا يصحُّ حصْرُه ...)) انتهى . وقد قال تعالى : (ليس كمِثْلِهِ شيءٌ وهو السَّميعُ البصير) .
وإذا كان العقل البشري عاجزاً عن إدراك كُنْهِ المخلوق ، فهو من بابِ أولى : يكون عاجزاً عن إدراك كُنْهِ الخالق سبحانه وتعالى . =
= قال العلاّمة عبد الله النبراوي في شرحه على ((الأربعين النووية)) ص 136 ، عند شرح الحديث الثلاثين الذي رواه الدارقطني وغيره بإسناد حسن عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها ، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمةً لكم غيرَ نسيان فلا تبحثوا عنها)) .
قال رحمه الله تعالى : ((ومن البَحْث عما لا يَعني : البحثُ عن أمور الغيب التي أُمِرنا بالإيمان بها ، ولم تُبيَّن كيفيتها ، لأنه قد يوجب البحثُ عنها الحَيْرة والشك ، ويرتقي الأمر إلى التكذيب والإنكار ، ومن ثم قال ابن إسحاق : لا يجوز التفكُّرُ في الخالق ولا في المخلوق بما لم يُسمَع فيه من الشرع ، كأن يقال في قوله تعالى : (وإنْ من شيء إلاّ يُسبِّحُ بحمده) : كيف يسبح الجماد؟ لأنه سبحانه وتعالى أخبَرَ به ، فيجعله كيف شاء كما شاء . اه .
وفي ((الصحيحين)) ما يؤيد حرمة التفكر في الخالق ، كخبر البخاري : ((يأتي الشيطان أحدَكم فيقول : من خَلَق كذا؟ من خلَقَ كذا؟ ، حتى يقول : من خلق ربَّك؟ فإذا بلغَه فليستعذ بالله ولينته)) . وأخرج مسلم : ((لا يزال الناس يسألون حتى يقال : هذا اللهُ خَلَق الخلق ، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل : آمنتُ بالله)) .
وقد أطلتُ هذه التعليقةَ ، لأنها تَتَعلَّق بموضوعٍ خطيرٍ ، يَعرِض لكثيرٍ من الشباب في المدارس اليوم ، فمعذرةً .
1 ـ 4 :231 في كتاب السنة (باب في الجهمية) . قال الحافظ المنذري في ((مختصر السنن)) 7 :91 : ((وأخرجه النسائي)) .
2 ـ أي يَسألُ بعضُهم بعضاً .
3 ـ أي فليُعرِض عن هذا الخاطِرِ الباطِلِ ، ليُؤيِّدَ ويُؤكِّدَ الإيمانَ المُستَقِرَّ في قلبِه بالقولِ بلسانِه : آمنتُ بالله . وفي ذلك رَدٌّ لوسوسةِ الشيطان ، ودَحْرٌ لكيدِه الخبيث .
4 ـ يعني قولوا في ردِّ هذه المقالةِ والوسوسةِ : الله أحد ، أي الله تعالى ليس مخلوقاً ، والأحَدُ هو الذي لا ثانيَ له في الذاتِ ولا في الصفات .
5ـ أي هو المرجعُ في الحوائج كلِّها ، وهو المُستَغني عن كلِّ أحد .
6 ـ أي لم يكن له مُكافياً أو مُماثِلاً أحد .
7 ـ أي لِيَبصُق ثلاث مرّاتٍ من جهة يَسارِه . والتَّفْلُ والبَصْقُ في هذا عبارةٌ عن كراهةِ الشيءِ والنفورِ عنه ، كمن يَجدُ جيفةً! وتكرارُ ذلك ثلاث مرّاتٍ : مُراغَمةٌ للشيطانِ وتَبعيدٌ له ، ليَنفِرَ من المؤمِن ، ويعلمَ أنه لا يُطيعه ، وأنه يَكرَهُ الكلامَ المذكور .
8 ـ والاستعاذةُ هي طَلَبُ المُعوَنةِ من الله على دفعِ الشيطان . قال العلاّمة الطيبي : وإنما أمرَهُ بالاستعاذة والاشتغال بأمرٍ آخر ، ولم يأمُرُهُ بالتأمُّلِ والاحتجاج ، لأن العلمَ باستغناء الله جلَّ وعلا عن الموجِد أمرٌ ضروري لا يَقبَلُ المُناظَرة ، ولأن الاسترسالَ في الفكر في ذلك لا يزيد المرءَ إلاّ حَيْرةً ، ومَنْ هذا حالُه فلا علاجَ له إلاّ الملجأُ إلى الله تعالى والاعتصامُ به .
9 ـ 1 :286 ، وفي طبعة ثانية 1 :306 .
10ـ سيأتي تعليقاً في الرواية الثانية لهذا الحديث هنا بيانُ سببِ سؤالِهِ النبيّ صلى الله عليه وسلم : (من أبوه؟) .
وكان عبدُ الله بن حُذافة رضي الله عنه أحَدَ العقلاء النبلاء والمجاهدين الصناديد الشجعان من الصحابة الكرام ، وهو أبو حُذافة أو أبو حُذَيفة عبدُ الله بن حذافة بن قيس بن عدي القرشي السَّهْمي . وأمُّهُ بنت حَرثان من بني الحارث بن عبد مَناة من السابقين الأولين .
أسلم عبد الله قديماً ، وكان من المهاجرين الأولين ، هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية مع أخيه قيس بن حذافة ، ويقال : إنه شَهِدَ بدراً ، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على بعض البعوث ، وكان فيه فطانة وحَصافة ودُعابة ، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه رسولاً وسفيراً إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام ، فمزَّق كسرى الكتابَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم مزِّق مُلكه ، وقال : إذا مات كسرى فلا كسرى بعده ، فسلَّط الله على كسرى ابنه شِيْرَوَيْهِ ، فقتله ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى سنة سبع .
ووجَّهَ عمر جيشاً إلى الروم سنة 19 ، وفيهم عبد الله بن حذافة ، فأسرَتْهُ الروم في بعض المعارك ، فأرادوه على الكفر فأبي ، فقال له مَلِكُ الروم : تنصَّر أُشرِكْك في مُلكي ، فأبى ، فأمَرَ به فصُلِبَ وأَمر بِرَمْيِهِ بالسِّهام فلم يجزَعْ ، فأُنزِل وأَمر بِقِدْر فصُبَّ فيها الماء وأُغليَ عليه ، وأَمر بإلقاء أسيرٍ فيها ، فإذا عِظامُه تلوحُ ، فأمَرَ بإلقائه إن لم يتنصَّر ، فلما ذهبوا به بكى .
قال الملك : رُدّوه ، فقال : لِمَ بكيتَ؟ قال : تمنَّيتُ أن لي مِئةَ نفسٍ تُلقى هكذا في الله ، فعَجِبَ فقال : قبِّلْ رأسي وأُطلِقُك ، قال : لا، قال : قبِّل رأسي وأُطلِقُك ومَنْ معك من المسلمين ، فقبَّلَ رأسَه ، ففَعَل وأطلَق معه ثمانين أسيراً ، فقَدِمَ بهم على عمر ، فقال عمر : حَقّ على كل مسلم أن يُقبِّل رأسَ عبدِ الله ، وانا أبدأ ففعلوا . وشهد عبد الله بن حذافة فتحَ مصر ، ودفن في مقبرتها في خلافة عثمان رضي الله عنهما .
ومن دُعابته ما حكاه عبدُ الله بنُ وهب ، عن الليث بن سعد ، قال : بلغني أن عبد الله بن حذافة حَلَّ حِزامَ راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع ، قال ابنُ وهب فقلتُ للَّيثِ : ليُضحكَهُ؟ قال :نعم ، كانت فيه دُعابة.
1 ـ البخاري 1 :187 ، في كتاب العلم (باب من بَرك على ركبتيه عند الإمام أو المحدَّث) ، ثم رواه في أحد عشر موضعاً ، ومسلم 15 :112 في كتاب الفضائل (باب توقيره صلى الله عليه وسلم وتركِ إكثار سؤاله) .
2 ـ قوله : (فذكر أموراً عظاماً) ، الظاهر أنها من أمور الساعة وما يتقدمها أو يصحبها من أهوال عظام .
3 ـ فسألوه وأكثروا عليه الأسئلة ، وفيها ما يُشبهُ التعنُّتَ او الشك ، كسؤال أحدهم : أين ناقتي؟! وسؤال بعضهم عن الحج : أفي كل عام؟! وسؤال بعضهم : أين أنا؟ قال : في النار . ونحو هذه الأسئلة ، فغَضِبَ النبي صلى الله عليه وسلم ، وغَضَبُ النبي صلى الله عليه وسلم لا يَخرُج فيه ـ فداه أبي وأمي ـ عن الحق ، فإنه لا يقول إلاّ الحقَّ في الرضا والغضب .
4 ـ لخشيتهم أن تَنزل بهم العقوبةُ بسبب ذلك فبكَوْا بكاءً شديداً .
5 ـ وسبَبُ سؤالِهِ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (من أبي يا رسول الله) : أنَّه كان إذا لاحى الرجالَ ـ أي خاصَمَ ـ يُدعى لغير أبيه ويُطعَنُ في نسبه على عادة أهل الجاهلية من الطعن في الانساب . كما بيَّن هذا أنسٌ في الحديث نفسِه في رواية أخرى عند البخاري .
6 ـ قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 13 :270 ((وفي مُرْسَلِ السُّدّي عند الطبري في نحو هذه القصة : فقام إليه عمر يقبِّلُ رِجْلَهُ ، وقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولاً ، وبالقرآن إماماً ، فاعفُ عَفا الله عنك ، فلم يَزل به حتى رضي)) .
7 ـ قولُه : (أولى) ، قال المُبَرِّد : يقال للرجل إذا أُفلِتَ من معضلة : أولى لك ، أي كدتَ تَهْلِكُ . وقال غيره : هي بمعنى التهديد والوعيد . من ((فتح الباري)) .
8 ـ أي جانِبِهِ أو وسطِه .
9 ـ جاء في رواية من روايات هذا الحديث عن أنس عند البخاري 2 :232 ، في كتاب الأذان (باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة) : ((صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رقأ المنبر ، فأشار بيده قِبَلَ قِبلةِ المسجد ثم قال : لقد رأيتُ الآن منذ صليتُ لكم الصلاة : الجنة والنار ممثَّلتينِ في قبلة هذا الجدار ، فلم أر كاليوم في الخير والشر ، لم أر كاليوم في الخير والشر ، لم أر كاليوم في الخير والشر)) . وفي رواية كتاب الفتن 13 :43 ((صُوِّرتْ لي الجنة والنار حتى رأيتُهما دون الحائط)) .
10 ـ أي لانتسبتُ إليه بالبنوّة . وفهمتُ من قوله : (لو ألحقني بعبدٍ أسوَدَ للحِقتُه) أنه كان أبيض اللون ، لأن الذي يقابل الأسودَ : الأبيضُ ،والمرادُ من كلمته هذه أنه لو نسبني إلى نقيض ما أنا عليه وما لا أُنسَبُ إليه لانتسبتُ . فالكلمة على طريق المجاز والمبالغة في التزام قوله صلى الله عليه وسلم وشديدِ صحته عنده .
11 ـ معنى (آنفاً) الآن .