إمساكُه صلى الله عليه وسلم بيد المُخاطَب أو منكِبِه لإثارةِ انتباهِه
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يُثيرُ انتباهَ المخاطبِ بأخذ يدِه أو منكِبِه ، ليَزدادَ اهتمامُه بما يُعلِّمهُ ، وليُلقِيَ إليه سمعَه وبصَرَه وقلبَه ، ليكون أوعى له وأذكَر .
روى البخاري ومسلم1، واللفظُ للبخاري عن عبد الله بنِ سَخْبَرَةَ أبي مَعْمَر قال : سمعتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ : ((علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفّي بين كفّيه ، التشهّدَ ، كما يُعلِّمني السورةَ من القرآن2:
التحيّاتُ لله ، والصلواتُ والطيِّباتُ ، السلامُ عليك أيُّها النبيُّ ورحمةُ الله وبركاتُه ، السلامُ علينا وعلى عبادِ الله الصالحين ، أشهَدُ أن لا إله إلاّ الله ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه)) .
وروى البخاري والترمذي3عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : ((أَخَذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمَنْكِبي ، فقال : كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل ، وعُدَّ نفسَك من أهل القبور))4.
وكان ابن عمر يقول : ((إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء ، وخُذْ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك ، فإنك يا عبد الله لا تدري ما اسمُك غداً))5.
ومن هذا الباب أيضاً ضربُ النبي صلى الله عليه وسلم على فخِذ بعضِ أصحابه في بعضِ الأحيان .
روى مسلم6عن التابعي الجليل أبي العالِية ، قال : ((أخَّر ـ الأميرُ ـ ابنُ زياد الصلاةَ . فجاءني عبدُ الله بنُ الصامت ، فألقيتُ له كُرْسياً فجلَس عليه ، فذكرتُ له صنيعَ ابن زياد ، فعضَّ على شفته وضَرَب فخذي ، وقال : إني سألتُ أبا ذر كما سألتَني ، فضَرَب على فخذي كما ضربتُ على فخذك ، وقال : إني سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني ، فضَرَب على فخذي كما ضربتُ على فخذك7، وقال : صَلِّ الصلاة لوقتها ، فإن أدركَتْك الصلاةُ معهم فصَلِّ ، ولا تقل : إني قد صلَّيتُ فلا أصلّي ، فإنها زيادةُ خير)) .
----------------------------------
1 ـ البخاري 11 :56 في كتاب الاستئذان (باب الأخذ باليد) ، ومسلم 4 :118 في كتاب الصلاة (باب التشهُّدِ في الصلاة) .
2 ـ هذه العبارةُ تُصوِّرُ شدةَ اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم هذا التشهُّد . وفي الحديث من أمورِ التعليم : أنَّ المعلِّم ينبغي له أن يُبدي الاهتمامَ البالغَ بالأمر الهام يُعلِّمُه للمُستفيدين ، وأن يُشعِرَهم بذلك ، ليُلقوا إليه بسمعِهم وبَصرِهم وقُلوبِهم ، وليكونوا على كمالِ التيقُّظ فيما يَتَحمَّلونه عنه ، فيَضبِطوا لفظَه وفعلَه وإشارتَه وعبارتَه ، دون زيادةٍ أو نقصٍ أو تغييرٍ أو تبديلٍ أو تهاوُنٍ .
وفيه أيضاً : التعليمُ والتلقين في حالةٍ مذكِّرةٍ ، من شدة القرب ، والأخذ بيد المتعلِّم ، ليَزدادَ انتباهُه بما يُعلَّمه ، وليكون أذكَر لما يُلقى إليه ، من تعليمِه بخطابٍ عامٍّ وحالٍ عاديّةٍ .
وفيه زيادةُ عنايةِ المتعلِّم ببعض المُتعلِّمين لفرطِ ذكائهم ، أو توسُّمِ الخير فيهم ، أو لَمْحِ مَخايِل الرَّجاحةِ والأصالةِ فيهم .
3 ـ البخاري 11 :199 في أوائل كتاب الرقاق ، والترمذي 4 :567 في كتاب الزهد (باب ما جاء في قِصَر الأمَل) .
4 ـ لأنك ميِّت يقيناً ، والموتُ كامنٌ في بُنيتك وكيانِك ، قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : إنَّ رجلاً ليس بينه وبين أبيه آدم إنسانٌ حيّ لعريقٌ في الموت ، ولأنك تَشهدُ بعينيك الناس من أقارب وأباعد يموتون يوماً بعدَ يوم ، فلا بُدَّ أن يكون لك يوم . وقد كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : كلَّ يوم يقال : مات فلان وفلان ، ولا بُدَّ من يومٍ يقال فيه : مات عمر . فنحن كما قال القائل : نموتُ ونحيا كلَّ يومٍ وليلةٍ ولا بد من يومٍ نموتُ ولا نحيا
وقد تدرَّج النبي صلى الله عليه وسلم في تذكير عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، فذكر له الغريب ، ثم عابرَ السبيل ، ثم ساكن القبور . فالغريب المتنقل من بلد إلى بلد ، قلبُه معلَّقٌ بوطنه ، لا يُثقِل على نفسه بالتوسع في أمتعته لعزمه العودة إلى بلده ، فلا يستقر بدار غربته إلاّ بقدر الضرورة أو الحاجة .
وعابرُ السبيل أي المارُّ على الطريق من جانب إلى جانب ، لا أرب له إلاّ فيما يُبلِّغُه إلى مقصِده فلا يلتفتُ إلى شيء يُحوِّلُه عنه ، ولا يُغريه بالتوقف بُستانٌ جميل ، ولا هواء بليل ، ولا ظل ظليل .
وساكنُ القبور هم الموتى الذين سبقوا إلى لقاء الله تعالى ، ومصيرُ الأحياء إلى ما صاروا إليه ، فلذا كان عبد الله بن عمر يقول : إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح ...
5 ـ جملة (وعُدَّ نفسَك من أهل القبور) ، وجملة (فإنك يا عبد الله ...) جاءت في رواية الترمذي ، وليست في رواية البخاري .
قال الحافظ ابن حجر : ((وفي الحديث : مَسُّ المعلِّم أعضاء المتعلم عندالتعليم ، والموعوظِ عند المَوعِظةِ ، وذلك للتأنيس والتنبيه ، ولا يُفعَل ذلك غالباً إلاّ بمن يميل إليه . وفيه : مخاطبةُ الواحد وإرادةُ الجمع ، وحرصُ النبي صلى الله عليه وسلم على إيصال الخير لأمته ، والحضُّ على ترك الدنيا والاقتصار على ما لا بُدَّ منه)) .
6 ـ 5 :15 في كتاب المساجد (باب كراهية تأخيرِ الصلاة عن وقتِها)
7 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) : قوله : فضرب على فخذي ، أي للتنبيه وجَمْعِ الذهن على ما يقوله)) .