إثارتُه صلى الله عليه وسلم انتِباهَ السامعِ بتكرار النداء مع تأخير الجواب
وكان صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان يُكرِّرُ نداء المُخاطَب مع تأخير الجواب ، لتأكيد الانتباه والاهتمام بما يُخبِرُه به ، وليُبالِغَ تفهُّمِه وضبطِه عنه .
روى البخاري ومسلم5، واللفظُ للبخاري ، عن مُعاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : ((بينما أنا رَديفُ النبي صلى الله عليه وسلم ، ليس بيني وبينه إلاّ آخِرةُ الرَّحْلِ6، فقال : يا مُعاذ ، قلتُ : لبَّيك يا رسول الله وسَعْدَيك7. ثم سار ساعةً ، فقال : يا مُعاذ ، قلتُ : لبَّيك يا رسول الله وسَعْدَيك. ثم سار ساعةً ، فقال : يا مُعاذ بن جبل ، قلتُ : لبَّيك يا رسول الله وسَعْدَيك8. قال : هل تَدري ما حقُّ الله على عبادِه9، قلتُ : الله ورسوله أعلمُ ، قال : حقُّ الله على عبادِه : أن يَعبُدوه ولا يُشركوا به شيئاً . ثم سار ساعةً ، ثم قال : يا مُعاذ ، قلتُ : لبَّيك يا رسول الله وسَعْدَيك ، قال : هل تَدري ما حقُّ العباد على الله10إذا فَعَلوه11؟ قلتُ : الله ورسوله أعلم ، قال : حقُّ العبادِ على الله : أن لا يُعَذِّبَهم))12.
-----------------------------------
5 ـ البخاري في الجهاد (باب اسم الفَرَس والحِمار) 6 :44 ، واللباس (باب إرداف الرجلِ خَلْفَ الرجل) 10 :334 ، وفي الاستئذان (باب من أجاب بلبَّيك وسَعْديك) 11 :52 ، وفي الرِّقاق (باب من جاهدَ نفسَه في طاعة الله) 11 :290 ، وهنا شَرَحه الحافظ ابنُ حجر بتوسُّعٍ ، وفي التوحيد (باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه إلى توحيد الله تبارك وتعالى) 13 :300 .
ومسلم 1 :229 في كتاب الإيمان (باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخَل الجنة قطعاً) .
6 ـ الرَّحْل للبعير كالسَّرْج للفَرَس والحِمار ، وآخِرَةُ الرَّحْل : هي العود الذي يُجعَلُ خلف الرّاكِب يَستَنِدُ إليه . وفائدةُ ذكر ذلك بيانُ شدة قُربِه من الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ هو رديفُه خلفَ ظهرِه على الدّابةِ ، فهو أوعى ما يكون وأضبطُ ما يكون لما يسمَعُه منه ، فهو يَذكُرُ الهيئةَ والحالَ التي كان عليها وقت سماعه هذا الحديث ، وهذا قرينُه زيادةِ الضبط .
وكان مركوبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحال حِماراً ، كما جاء ذلك مُصرَّحاً به في رواية مسلم 1 :232 عن عمرو بن ميمون ، عن معاذ بنِ جبل ، وفي رواية ((مسند أحمد)) 5 :238 عن عبد الرحمن بن غَنْم ، عن معاذ ، فيكون المرادُ (بآخِرَةِ الرَّحْلِ) موضعُ آخِرَةِ الرَّحل .
7 ـ معنى (لبيك) : أجبتُك إجابةً بعدَ إجابةٍ ، و(سعديك) : ساعَدتُ طاعتَك مُساعدةً بعدَ مُساعَدةٍ .
8 ـ هذا النداءُ المكرَّر ثلاثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمُعاذ ، مع تأخير جوابِ النداء ، لتأكيد الاهتمام بما يُخبِره ، وليَكْمُلَ انتباه معاذ فيما يَسمعُه ، ليتَدبَّره ويَعيَه كما ينبغي .
9 ـ أي ما يَستحقُّه الله تعالى على عبادِه مما جَعَله حَتْماً عليهم .
10 ـ قال بعضُ العلماء : يُريد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (حق العباد على الله) : حقّاً عُلِم من جهةِ الشرع ، لا بإيجابِ العقلِ ، فهو كالواجب في تحقُّقِ وقوعِهِ . أو هو على جهة المُشاكَلَةِ ، كقوله تعالى : (فيَسخَرون منهم سَخِرَ الله منهم) ، وقوله سبحانه على لسان سيدنا عيسى عليه السلام : (تعلَمُ ما في نفسي ولا أعلَمُ ما في نفسك) .
11 ـ أي إذا فَعَلوا العبادة له مُخلِصين له فيما دون إشراكِ أحَدٍ معه .
12 ـ وذلك فضلاً منه وكرماً ، بحكم وعدِه الصادقِ . وفي الحديث من الأمور التعليمية ـ كما قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 11 :291 ـ : ((حُسنُ أدب معاذ رضي الله عنه =
= في القولِ ، وفي العلم بردِّه لما لم يُحِطْ بحقيقتِه إلى علمِ الله ورسولِه ، وفيه قُرب منزلتِه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه تكرار الكلام لتأكيدِه وتفهيمه ، وفيه استِفسارُ الشيخِ تلميذَه عن الحكم ليَختَبِر ما عنده ، ويُبَيِّن ما يُشكلُ عليه منه .