إجمالُه صلى الله عليه وسلم الأمر ، ثم تفصيلُه ليكون أوضحَ وأمكَنَ في الحفظ والفهم
وكان صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان يُجمِل الأمرَ في حديثِه لحضِّ المخاطَب على السؤالِ ، وتَشويقِه إلى الاستكشافِ عنه ، ثم يُفصِّلُه ببيانٍ واضحٍ فيكون أوقع في نفس المخاطَب وأمكن في حفظِه وفهمه .
روى البخاري ومسلم وابن ماجه ، واللفظ لمسلم4، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ((مُرَّ بجنازةٍ فأُثنِيَ عليها خيراً5، فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم : وجَبَتْ ، وجبت ، وجبت . ومُرَّ بجنازةٍ فأُثني عليها شراً ، فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم : وجَبَتْ ، وجبت ، وجبت6.
قال عمر : فِدىً لك أبي وأمي ، مُرَّ بجنازة فأُثني عليها خيراً ، فقلتَ : وجَبَتْ ، وجبت ، وجبت . ومُرَّ بجنازةٍ فأُثني عليها شراً ، فقلت : وجَبَتْ ، وجبت ، وجبت .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أَثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ، ومن أَثنيتم عليه شراً وجبت له النار ، أنتم شُهداء الله في الأرض ، أنتم شُهداء الله في الأرض ، أنتم شُهداء الله في الأرض))7.
وروى مسلم1عن مَعْبَد بن كعب بن مالك ، عن أبي قَتادة بن رِبْعِيّ رضي الله عنه ، أنه كان يُحدِّث ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة ، فقال : مُستريحٌ ومُستَراحٌ منه .
قالوا : يا رسول الله ، ما المستريحُ والمُستراحُ منه؟ فقال : العبدُ المؤمِنُ يَستريحُ من نَصَب الدنيا2إلى رحمة الله ، والعبدُ الفاجر يستريحُ منه العِبادُ والبلادُ والشجرُ والدوابُّ))3.
ومن الإجمال ثم التفصيل قولُه صلى الله عليه وسلم في التحذير من أَذى الجار :
روى البخاري4: عن أبي شُرَيح الخُزاعي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((واللهِ لا يؤْمِن! واللهِ لا يؤْمِن! واللهِ لا يؤْمِن! قيل : من يا رسول الله؟ قال : الذي لا يَأمَنُ جارُهُ بَوائِقَه))5.
ومن هذا الباب أيضاً قولُه صلى الله عليه وسلم في التحذير من التقصير في بِرِّ الوالِدَين :
روى مسلم عن أبي هررة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم6: ((رَغِمَ أَنْفُه! ثمّ رَغِمَ أَنْفُه! ثمّ رَغِمَ أَنْفُه! قيل : من يا رسول الله؟ قال : مَن أدرَك والِدَيْهِ عند الكِبَرِ أحَدَهما أو كليهما ، ثم لم يَدْخُل الجنّة)) .
---------------------------------
4 ـ البخاري 3 :238 في كتاب الجنائز (باب ثناء الناس على الميت) ، و5 :252 في كتاب الشهادات (باب تعديل كم يجوز) ، ومسلم 7 :18 ، وابن ماجه 1 :478 كلاهما في كتاب الجنائز .
5 ـ قوله هنا : فأُثنِيَ عليها خيراً ، ثم قوله بعد قليل : وأثنِيَ عليها شراً ، هو بالبناء للمجهول فيهما . والثناء يُستعمل في الخير وفي الشر ، فيقال : أثنيتُ عليه خيراً ، وأثنيت عليه شراً ، لأنه بمعنى وصفتُه ، نصَّ عليه جماعة من أئمة اللغة المحققين ، كما بسطه الفيومي في ((المصباح المنير)) في (ثنى) ، وغلَّط من قال : لا يُستعمل الثناء إلاّ في الخير ، وزعم أنه جاء في الحديث مستعملاً في الشر للازدواج والمشاكلة . وأسهب في تغليطه وأجاد .
6 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 7 :19 ((هكذا جاء هذا الحديث في الأصول : وجَبَتْ ، وجبت ، وجبت ثلاث مرات ، وأنتم شهداء الله في الأرض ثلاث مرات)) . وقال الإمام العيني في ((عمدة القاري)) 8 :195 ((والتكرير في الحديث لتأكيد الكلام ، لئلا يشكّوا فيه)) .
7 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : (أنتم شُهداء الله في الأرض) ، خطابٌ منه صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم ، ولكن قال العلماء : ليس هذا القولُ الكريم مخصوصاً بهم فحسب ، بل يَدخلُ فيه الصحابة ومن كان صفتهم من المتقين والمتقيات والمؤمنين والمؤمنات .
واختلف العلماء في فهم معنى هذا الحديث الشريف ، قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 7 :19 ، ونقله عنه الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 3 :231 : ((قال بعضهم : معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أَثنى عليه أهلُ الفضل والدين ، وكان مطابقاً للواقع ، فهو من أهل الجنة ، فغن كان غيرَ مطابق فلا ، وكذا عكسُه .
تعالى الناسَ الثناء عليه بخير ، كان دليلاً على أنه من أهل الجنة ، سواء كانت أفعالُه تقتضي ذلك أم لا ، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة ، فإذا أَلهم الله عز وجل الناسَ الثناءَ عليه بالخير ، استدللنا بذلك على أنه سبحانه قد شاء المغفرة له .
وبهذا تظفر فائدةُ الثناءِ وقولِهِ صلى الله عليه وسلم : ((وجبت ، وأنتم شهداءُ الله في الأرض ...)) . ولو كان لا ينفعه ذلك إلاّ أن تكون أعماله تقتضيه لم يكن للثناء عليه فائدة ، وقد أثبَتَ النبي صلى الله عليه وسلم له فائدة)) . انتهى .
وفي الحديث من الأمور التعليمية : استحبابُ توكيد الكلام المُهِمّ بتكراره ، ليُحفَظ ، وليكون أبلغ في نفس سامعه . وفيه من أساليب التعليم : الغجمال ثم البيان ليكون أشوق وأوقع في السمع ، فقد أَجملَ صلى الله عليه وسلم في قوله (وجبت) لكل من الجنازتين ، ثم بيَّن أن = = قوله لذي الخير : (وجبت) أي وجبت له الجنة ، وأنَّ قولَه لذي الشر : (وجبت) أي وجبت له النار . والمرادُ بالوجوب هنا : الثبوت ، لتحقق وقوعه . والأصل أنه لا يجب على الله شيء ، بل الثوابُ فضلُه ، والعقاب عدلُه .
1 ـ 7 :20 في كتاب الجنائز (باب ما جاء في مستريح ومستراح منه) .
2 ـ نَصَبُ الدنيا : تَعَبُها .
3 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 7 :20 ((معنى الحديث أن الموتى قسمان : مستريح ، ومستراح منه .
وأما استراحةُ العباد من الفاجر ، فمعناه اندفاعُ أذاه عنهم ، وأذاه يكون من وجوه ، منها ظُلمُهُ لهم ، ومنها ارتكابُه للمنكرات ، فإن أنكروها قاسَوْا مشقةً من ذلك ، وربما نالهم ضَررُه ، وإن سكتوا عنه أَثِموا .
واستراحةُ الدوابّ منه كذلك ،، لأنه كان يؤذيها ويَضرِبُها ويُحمِّلُها ما لا تُطيقُه ، ويُجيعها في بعض الأوقات ، وغيرُ ذلك .
واستراحةُ البلاد والشجر ، فقيل : لأنها تُمنع القطرَ بمَعْصِيَتِه ، قاله الداودي وقال الباجي : لأنه يَغْصِبُها ويَمنعُها حقَّها من الشُّرب وغيره)) .
4 ـ تقدم هذا الحديث الشريف في ص167 برقم 105 ، شاهداً لأسلوب القَسَم منه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان ، وأوردته هنا شاهداً لأسلوب الإجمال ثم التفصيل .
5 ـ أي شُرورَه وأذاياه .
6 ـ 16 :108 في كتاب البر والصلة (باب رغم أنف من أدرك أبويه ... عند الكبر فلم يدخل الجنة) .