ـ تعليمُه صلى الله عليه وسلم بالرَّسْمِ على الأرض والتراب
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يَستعين على توضيح بعضِ المعاني بالرَّسمِ على الأرضِ والتراب ، ومن ذلك ما رَواه الإمام أحمد في ((مسنده)) عن جابرٍ وابن مسعود رضي الله عنهما ، وأبو عبد الله المروزي في كتاب ((السُّنّة)) عن جابر وابن عباسٍ رضي الله عنهم6:
ـ قال جابر:((كنا جلوساً عند النبي صلَّى الله غليه وسلم, فخطَّ بيده خطاً هكذا أمامه, فقال: هذا سبيلُ الله عزَّ وجلَّ, وخطَّ خطين عن يمينه, وخطين عن شِمالِه, وقال :هذه سُبلُ الشيطان, ثم وضع يده في الخط الأوسط, ثم تلا هذه الآية :(وأنَّ هذا صِراطي مستقيماً فاتَّبِعوه, ولا تَتَّبعوا السُّبُلَ فَتَفرَّق بكم عن سَبيله, ذلكم وصَّاكم به لعلكم تَتَّقون))1.
ـ وروى البخاري2عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ((خَطَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خَطّاً مُربَّعاً ،
وخطاً خطاً في الوسط خارجاً منه، وخطَّ خُطوطاً صِغاراً إلى هذا الذي في الوَسَط3، من جانِبِه الذي في الوسَط، فقال : هذا الإنسانُ ، وهذا أَجَلُه مُحيطٌ به ، وهذا الذي هو خارجٌ4أمَلُه ، وهذه الخُطوطُ الصِّغارُ : الأعراضُ5، فإنْ أَخطأه هذا نهَشَه هذا6، وإنْ أخطأه هذا نَهَشه هذا ، وإن أخطأَهُ كلُّها أصابَهُ الهَرَمُ7)) .
فبيَّن لهم صلى الله عليه وسلم بما رسَمَه أمامَهم على الأرض ، كيف يُحالُ بين الإنسانِ وآمالِه الواسعة ، بالأجَل المُباغِت ، أو العِلَلِ والأمراضِ المُقْعِدة ، أو الهَرَمِ المُفني ، وحَضَّهم على قِصَر الأملِ والاستعدادِ لِبَغْتَةِ الأجل ، وكانت وسيلةُ الإيضاح في ذلك : الأرض والتُّرابَ كما رأينا .
ـ وروى الإمام أحمد في ((مسنده))8عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، قال : ((خَطَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعةَ خُطوط، وقال : أَتَدْرون لِمَ خَطَطْتُّ هذه الخطوط؟ قالوا : اللهُ ورسولُه أعلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضلُ نِساءِ أهلِ الجنة : خَديجةُ بنتُ خُوَيلد ، وفاطِمةُ بنتُ محمد ، ومريم ابنةُ عِمْران ، وآسِيَةُ بنتُ مُزاحِم امرأةُ فِرْعَون))9.
-----------------------------------------
6 ـ في ((المسند)) للإمام أحمد 3 : 397 . وفي كتاب ((السنة)) للمروزي ص 6 , عن جابرٍ وابن عباس .
ولفظ الحديث في رواية كتاب ((السنة)) : ((فخطّ بيده في الأرض خطاً هكذا , فقال : هذا سبيلُ الله, وخطّ خطَّين عن يمينِه , وخطين عن شِمالِه , وقال : هذه سُبُلُ الشيطان, ثم وضعَ يده في الخطِّ الأوسط, ثم تلا ...)) .
ورواية ((المسند)) فيها ((فخطَّ خطّاً هكذا أمامه , فقال : هذا سبيلُ الله, وخطينِ عن يمينِه ... ثم وَضعَ يده في الخطِّ الأسودِ, ثم تلا ... )) . فجمعتُ بين روايتيهِما .
1 ـ من سورة الأنعام ، الآية 153 .
2 ـ 11 :202 في كتاب الرقاق (باب في الأمل وطوله) .
3 ـ لفظُ رواية نسخة البخاري المطبوعة مع ((فتح الباري)) : ((وخَطَّ (خُطُطاً) صِغاراً ...)) ، في هذا الموضع وفي الموضع التالي أيضاً . وفي روايةٍ ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني في ((فتح الباري)) 11 :202 ، وذكرها الفقيه ابنُ حَجَر الهَيْثَمي في ((الفتح المبين بشرح الأربعين)) للنووي في شرح الحديث (الأربعين) عن البخاري : ((وخَطَّ خُطوطاً ...)) فأثبتها هنا .
4 ـ أي خارجٌ عن الخط .
5 ـ أي الحوادثُ والنوائبُ المفاجِئة .
6 ـ عبَّر بالنَّهْش ـ وهو لَدْغُ الأفعى ذاتِ السُّم ـ مبالَغةً في الإصابة والإهلاكِ السريع .
7 ـ هذه الجملة ليست في نسخة البخاري المطبوعة ، وإنما هي من رواية ابن حجر الهَيْثَمي في ((الفتح المبين)) عن البخاري ، فأثبتُّها .
8 ـ 1 :293 و 316 و 322 .
9 ـ لم أرَ من بيَّن المعنى الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم من خطِّه لتلك الخطوط الأربعة ، وهو يُبيِّنُ أفضليةَ هؤلاء النسوة الأربع ، والظاهرُ عندي ـ والله أعلم ـ أنَّ المعنيَّ من ذلك توكيدُ أفضلية هؤلاء النسوة الأربع على سائر نساء أهل الجنة ، فيكون إعلامُ ذلك حاصلاً من طريق السماع للقول من فمه صلى الله عليه وسلم ، والمشاهدةِ لخَطِّه بيده ، فيكون آكدَ ما يكون البيانُ في حَصْرِ الأفضلية فيهن ، والله أعلم .