سياق حجته 2
فصل
وللناس في هذه العمرة التي أتت بها عائشة من التنعيم أربعة مسالك احدها أنها كانت زيادة تطييبا لقلبها وجبرا لها وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حجها وعمرتها وكانت متمتعة ثم أدخلت الحج على العمرة فصارت قارنة وهذا أصح الأقوال والأحاديث لا تدل على غيره وهذا مسلك الشافعي وأحمد وغيرهما المسلك الثاني أنها لما حاضت أمرها أن ترفض عمرتها وتنتقل عنها إلى حج مفرد فلما حلت من الحج أمرها أن تعتمر قضاء لعمرتها التي أحرمت بها أولا وهذا مسلك أبي حنيفة ومن تبعه وعلى هذا القول فهذه العمرة كانت في حفها واجبة ولا بد منها وعلى القول الأول كانت جائزة وكل متمتعة حاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف فهي على هذين القولين أما ان تدخل الحج على العمرة وتصير قارنه وإما أن تنتقل عن العمرة إلى الحج وتصير مفردة وتقضي العمرة المسلك الثالث أنها لما قرنت لم يكن بد من أن تأتي بعمرة مفردة لأن عمرة القارن لا تجزىء عن عمرة الإسلام وهذا أحد الروايتين عن أحمد المسلك الرابع أنها كانت مفردة وإنما امتنعت من طواف القدوم لأجل الحيض واستمرت على الإفراد حتى طهرت وقضت الحج هذه العمرة هي عمرةالإسلام وهذا مسلك القاضي إسماعيل ابن إسحاق وغيره من المالكية ولا يخفى ما في هذا المسلك من الضعف بل هو أضعف المسالك في الحديث
وحديث عائشة هذا يؤخذ منه أصول عظيمة من أصول المناسك أحدها اكتفاء القارن بطواف واحد وسعي واحد الثاني سقوط طواف عن الحائض كما أن حديث صفية زوج النبي أصل في سقوط طواف الوداع عنها الثالث أن إدخل الحج على العمرة للحائض جائز كما يجوز للطاهر وأولى لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك الرابع أن الحائض تفعل أفعال الحج كلها إلا لا تطوف بالبيت الخامس أن التنعيم من الحل السادس جواز عمرتين في سنة واحدة بل في شهر واحد السابع أن المشروع في حق المتمتع إذا لم يأمن الفوات أن يدخل الحج على العمرة وحديث عائشة أصل فيه الثاني أنه أصل في العرمة المكية وليس مع من يسحبها غيره فإن النبي لم يعتمر هو ولا أحد ممنت حج معه من مكة خارجا منها إلا عائشة وحدها فجعل أصحاب العمرة المكية قصة عائشة أصلا لقولهم ولا دلالة لهم فيها فإن عمرتها إما أن تكونت قضاء للعمرة المرفوضة عند عن يقول إنها رفضتهات فهي واجبة قضاء لها أو تكون زيادة محضة وتطيبا لقلبها عند من يول إنها كانت قارنة وأن طوافها وسعيها اجزأها عن حجها وعمرتها والله أعلم
فصل
وأما كون عمرتها تلك مجزئة عن عمرة الإسلام ففيه قولان للفقهاء وهما روايتان عن أحمد والذين قالوا لا تجزىء قالوا العمرة المشروعة
التي شرعها رسول الله وفعلها نوعان لا ثالث لهما عمرة التمتع وهي التي أذن فيها عند الميقات وندب إليها في أثناء الطريق وأوجبها على من لم يسق الهدي عند الصفا والمروة الثالنية العمرة المفردة التي ينشأ لها سفر كعمرة المتقدمة ولم يشرع عمره مفردة غير هاتين وفي كلتيهما المعتمر داخل إلى مكة وأما عمرة الخارج إلى أدنى الحل فلم تشرع وأما عمره عائشة فكانت زيارة محضة وإلا فعمره قرانها قد اجزأت عنها بنص رسول الله وهذا دليل على أن عمرة القارن تجزىء عن عمرة الإسلام وهذا هو الصواب المقطوع به فإن النبي قال لعائشة يسعك طوافك لحجك وعمرتك وفي لفظ يجزئك وفي لفظ يكفيك وقال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة وأمر كل من ساق الهدي أن يقرن بين الحج والعمرة ولم يأمر أحدا ممن قرن معه وساق الهدي بعمرة أخرى غير عمرة القران فصح إجزاء عمرة القارن عن عمرة الإسلام قطعا وبالله التوفيق
فصل
وأما موضع حيضها فهو بسرف بلا ريب وموضع طهرها قد اختلف فيه فقيل بعرفة هكذا روى مجاهد عنها وروى عروة عنها أنها أظلها يوم عرفة وهي حائض ولا تنافي بينهما والحديثان صحيحان وقد حملهما ابن حزم على معنيين فطهر عرفه هو الاغتسال للوقوف بها عنده قال لأنها قالت تطهرت بعرفة والتطهير غير الطهر قال وقد ذكر القاسم يوم طهرها أنه يوم النحر وحديثه في صحيح مسلم قال وقد اتفق القاسم وعروة على أنها كانت يوم عرفة حائضا وهما أقرب الناس منها وقد روى أبو داود حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عنها خرجنا مع رسول الله موافين هلال ذي الحجة فذكرت الحديث وفيه فلما كانت ليلة البطحاء طهرت عائشة وهذا إسناد صحيح لكن قال ابن حزم إنه حديث منكر مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها وهو قوله إنها طهرت ليلة البطحاء وليلة البطحاء كانت بعد يوم النحر بأربع ليال وهذا محال إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة ليست من كلام عائشة فسقط التعلق بها لأنها ممن دون عائشة وهي أعلم بنفسها قال وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيب بن خالد وحماد بن زيد فلم يذكرا هذه اللفظة قلت يتعين تقديم حديث حماد بن زيد ومن معه على حديث حماد ابن سلمة لوجوه احدهما أنه أحفظ وأثبت من حماد بن سلمة الثاني أن حديثهم فيه إخبارها عن نفسها وحديثه فيه الإخبار عنها الثالث أن الزهري روى عن عروة عنها الحديث وفيه فلم أزل حائضا حتى كان يوم عرفة وهذه الغاية هي التي بينها مجاهد والقاسم عنها لكن قال مجاهد عنها فتطهرت بعرفة والقاسم قال يوم النحر
فصل
عدنا إلى سياق حجته فلما كان بسرف قال لأصحابه لم يكن معه هدي فأحب ان يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدي فلا وهذه رتبه أخرى فوق رتبه التخيير عند الميقات فلما كان بمكة أمر أمرا حتما من لا هدي معه ان يجعلها عمرة ويحل من إحرامه ومن معه هدي أن يقيم على إحرامه ولم ينسخ ذلك شيء البتة بل سأله سراقة بن مالك عن هذه العمرة التي أمرهم بالفسخ إليها هل هي لعامهم ذلك أم للابد قال بل للأبد وإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة وقد روى عنه الأمر بفسخ الحج إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه وأحاديثهم كلها صحاح وهم عائشة وحفصة أما ألمؤمنين وعلي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله وأسماء بنت أبي بكر الصديق وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري والبراء ابن عازب وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس وسبرة بن معبد الجهني وسراقة بن مالك المدلجي رضي الله عنهم ونحن نشير إلى هذه الأحاديث ففي الصحيحين عن ابن عباس قدم النبي وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا يا رسول الله أي الحل فقال الحل كله وفي لفظ لمسلم قدم النبي وأصحابه لأربع خلون من العشر إلى مكة وهم يلبون بالحج فأمرهم رسول الله أن يجعلوها عمرة وفي لفظ وأمر أصحابه ان يجعلوا إحرامهم بعمرة إلا من كان معه الهدي وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله أهل النبي وأصحابه بالحج وليس مع احد منهم هدي غير النبي وطلحة وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ومعه هدي فقال أهللت بما أهل به النبي فأمرهم النبي ان يجعلوها عمرة ويطوفوا ويقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي قالوا ننطلق إلى مني وذكر أحدنا يقطر فبلغ ذلك النبي فقال لو استقبلت من امري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت وفي لفظ فقام فينا فقام لقد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا أن معي الهدي الحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم اسق الهدي فحلوا فحللنا وسمعنا وأطعنا وفي لفظ أمرنا رسول الله لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى قال فأهللنا من الأبطح فقال سراقة ابن مالك بن جعشم يا رسول الله لعامنا هذا أم للأبد قال للأبد وهذه الألفاظ كلها في الصحيح وهذا اللفظ الأخير صريح في إبطال قول من قال إن ذلك كانت خاصا بها فإنه حينئذ يكون لعامهم ذلك وحده لا للأبد ورسول الله يقول إنه للأبد
وفي المسند عن ابن عمر قدم رسول الله مكة وأصحابة مهلين بالحج فقال رسول الله من شاء ان يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي قالوا يا رسول الله أيروح احدنا إلى منى وذكره يقطر منيا قال نعم وسطعت المجامر
وفي السنن عن الربيع بن سبرة عن أبيه خرجنا مع رسول الله حتى إذا كنا بعسفان قال سراقة بن مالك المدلجي يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجة عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد حل إلا من معه هدي وفي الصحيحين عن عائشة خرجنا مع رسول الله لا نذكر إلا الحج فذكرت الحديث وفيه فلما قدمنا مكة قال النبي لأصحابه اجعلوها عمرة فأحل الناس إلا من كان معه الهدي وذكرت باقي الحديث وفي لفظ للبخاري خرجنا مع رسول الله لا نرى إلا الحج فلما قدمنا تطوفنا بالبيت فأمر النبي من لم يكن ساق الهدي أن يحل فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن فأحللن وفي لفظ لمسلم دخل علي رسول الله وهو غضبان فقلت من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار قال أوما شعرت أني أمرت كما الناس بأمر فإذا هم يترددون ولو أستقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحل كما حلوا وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن عمره قالت سمعت عائشة تقول خرجنا مع رسول الله لخمس ليال بقين من ذي القعدة ولا نرى إنه الحج فلما دنونا من مكة أمر رسول الله من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل قال يحيى بن سعيد فذكرت هذاالحديث للقاسم بن محمد فقال أتتك والله بالحديث على وجهه وفي صحيح مسلم عن ابن عمر قال حدثتني حفصة أن النبي أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع فقلت ما منعك أن تحل فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر الهدي وفي صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما خرجنا محرمين فقال رسول الله من كان معه هدي فليقم على إحرامه ومن لم يكن معه هدي فليحلل وذكرت الحديث وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي سعيد الخدري قال خرجنا مع رسول الله نصرخ بالحج صراخا فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله اجعلوا إهلاكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي وذكر الحديث وفي السنن عن البراء بن عازب خرج رسول الله وأصحابه فاحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال اجعلوا حجكم عمرة فقال الناس يا رسول الله قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة فقال انظروا ما آمركم به فافعلوه فرددوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت من أغضبك أغضبه الله فقال وما لي لا أغضب وأنا آمر أمرا فلا يتبع ونحن نشهد الله علينا أنا لو احرمنا بحج لرأينا فرضا علينا فسخة إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله واتباعا لأمره فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ولا صح حرف واحد يعارضه ولا خص به أصحابه دون من بعدهم بل أجرى الله سبحانه على لسان سراقة أن يسأله هل ذلك مختص بهم فأجاب بأن ذلك كائن لأبد الأبد فما ندري ما نقدم على هذه الأحاديث وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله على من خالفه ولله در الإمام أحمد رحمه الله إذ يقول لسلمة بن شبيب وقد قال له يا أبا عبد الله كل أمرك عندي حسن إلا خله واحدة قال وما هي قال تقول بفسخ الحج إلى العمرة فقال يا سلمة كنت ارى لك عقلا عندي في ذلك أحد عشر حديثا صحاحا عن رسول الله أأتركها لقولك وفي السنن عن البراء بن عازب ان عليا رضي الله عنه لما قدم على رسول الله من اليمن أدرك فاطمة وقد لبست ثيابا صبيغا ونضحت البيت بنضوح فقال ما بالك فقالت إن رسول الله أمر أصحابة فحلوا وقال ابن أبي شيبة حدثنا ابن فضيل عن يزيد عن مجاهد قال قال عبد الله بن الزبير أفردوا الحج ودعوا قول أعماكم هذا فقال عبد الله بن عباس إن الذي أعمى الله قلبه لأنت ألا تسأل أمك عن هذا فأرسل إليها فقالت صدق ابن عباس جئنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمت حجاجا فجعلناها عمرة فحللنا الإحلال كله حتى سطعت المجامر بين الرجال والنساء وفي صحيح البخاري عن ابن شهاب قال دخلت أستفتيه فقال حدثني جابر بن عبد الله انه حج مع النبي يوم ساق البدن معه وقد اهلوا بالحج مفردا فقال لهم أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فاهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة فقالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج فقال افعلوا ما امركم به فلولا اني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ففعلوا وفي صحيحة أيضا عنه أهل النبي وأصحابه بالحج وذكر الحديث وفيه فأمر النبي أصحابه ان يجعلوها عمرة ويطوفوا ثم يقصروا إلا من ساق الهدي فقالوا أننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر فبلغ النبي فقال لو استقبلت من امري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت وفي صحيح مسلم عنه في حجة الوداع حتى إذا قدمنا مكة ظفنا بالكعبة وبالصفا والمروة فأمرنا رسول الله أن يحل منا من لم يكن معه هدي قال فقلنا حل ماذا قال الحل كله فواقعنا الناء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال ثم اهللنا يوم التروية وفي لفظ آخر لمسلم فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي ومن كان معه هدي فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وفي مسند البزار بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه ان النبي أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة فلما قدموا مكة طافوا بالبيت والصفا والمروة وأمرهم رسول الله أن يحلوا فهابوا ذلك فقال رسول الله أحلوا فلولا أن معي الهدي لأحلت فأحلوا حتى حلوا إلى النساء
وفي صحيح البخاري عن أنس قال رسول الله ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحيفة ركعتين ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتىاستوت به راحلته على البيداء حمد الله وسبح ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما فلما قدمنا أمر الناس فحلوا حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج وذكر باقي الحديث وفي صحيحة أيضا عن أبي موسى الأشعري قال بعثني رسول الله إلى قومي باليمن فجئت وهو بالبطحاء فقال بم أهللت فقلت أهللت بإهلال النبي فقال هل معك من هدي قلت لا فأمرني فطقت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أمرني فاحللت وفي صحيح مسلم أن رجلا من بنيالهجيم قال لابن عباس ما هذه الفتيا التي قد تشغبت بالناس أن من طاف بالبيت فقد حل فقال سنة نبيكم وإن رغمتم وصدق ابن عباس كل من طاف بالبيت ممن لا هدي معه من مفرد أو قارن أو متمتع فقد حل إما وجوبا وإما حكما هذه هي قال السنة التي لا راد لها ولا مدفع وهذا كقوله إذا أدبر النهار من هاهنا وأقبل الليل من ها هنا فقد أفطر الصائم إما أن يكون المعنى أفطر حكما أو دخل وقت إفطاره وصار الوقت في حقه وقت إفطار فهكذا هذا الذي قد طاف بالبيت إما أن يكون قد حل حكما وإما أن يكون ذلك الوقت في حقه ليس وقت إحرام بل هو وقت حل ليس إلا ما لم يكن معه هدي وهذا صريح السنة وفي صحيح مسلم عن ابن أيضا عن عطاء قال كان ابن عباس يقول لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاح إلا حل وكان يقول هو بعد المعرف وقبله وكان يأخذ ذلك من امر النبي حين أمرهم ان يحلوا في حجة الوداع وفي صحيح مسلم بن عباس ان النبي قال هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن معه الهدي فليحل الحل كله فقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال من جاء مهلا بالحج فإن الطواف بالبيت يصيرة إلى عمرة شاء أو أبى قلت إن الناس ينكرون ذلك عليك قال هي سنة نبيهم وإن رغموا وقد روى هذا عن النبي من سمينا وغيرهم وروى ذلك عنهم طوائف من كبار التابعين حتى صار منقولا نقلا يرفع الشك ويوجب اليقين ولا يمكن أحد أن ينكره أو يقول لم يقع وهو مذهب أهل بيت رسول ومذهب حبر الأمة وبحرها ابن عباس وأصحابة ومذهب أبي موسى الأشعري
ومذهب إمام أهل السنة والحديث أحمد بن حنبل وأتباعه وأهل الحديث معه ومذهب عبد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة ومذهب أهل الظاهر والذين خالفوا هذه الأحاديث لهم أعذار العذر الأول أنها منسوخة العذر الثاني أنها مخصوصة بالصحابة لا يجوز لغيرهم مشاركتهم في حكمها العذر الثالث معارضتها بما يدل على خلاف حكمها وهذا مجموع ما اعتذروا به عنا ونحن نذكر هذه الأعذار عذرا عذرا ونبين ما فيها بمعونة الله وتوفيقه أما العذر الأول وهو النسخ فيحتاج إلى أربعة أمور لم يأتوا منها بشيء يحتاج إلى نصوص أخر تكون تلك النصوص معارضة لهذه ثم تكون مع هذه المعارضة مقاومة لها ثم يثبت تأخثير عنه قال المدعون للنسخ قال عمر بن الخطاب السجستاني حدثنا الفريابي حدثنا أبأن بن أبي حازم قال حدثني أبو بكر بن حفص عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما ولي يا أيها الناس إن رسول الله أحل لنا المتعة ثم حرمها علينا رواه البزار في مسنده عنه قال المبيحون للفسخ عجبا لكم في مقاومة الجبال الرواسي التي لا تزعزعها الرياح بكثيب مهيل تسفيه الرياح يمينا وشمالا فهذا الحديث لا سند ولا متن أما سنده فإنه لا تقوم به حجة علينا عند أهل الحديث وأما متنه فإن المراد بالمتعة فيه متعة النساء التي أحلها رسول الله ثم حرمها لا يجوز فيها غير ذلك البته لوجوه أحدها إجماع الأمة على ان متعة الحج غير محرمة بل إما واجبة أو أفضل الأنساك على الإطلاق او مستحبة أو جائزة ولا نعلم للأمة قولا خامسا فيها بالتحريم الثاني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صح عنه من غير وجه أنه قال لو حججت لتمتعت ثم لو حججت لتمتعت ذكره الأثرم في سننه وغيره وذكر عبد الرزاق في مصنفة عن سالم بن عبدالله انه سئل أنهى عمر عن متعة الحج قال أبعد كتاب الله تعالى وذكر عن نافع أن رجلا قال له أنهى عمر عن متعة الحج قالا لا وذكر أيضا عن ابن عباس أنه قال هذا الذي يزعمون أنه نهى عن المتعة يعني عمر سمعته يقول لو اعتمرت ثم حججت لتمتعت قال ابو محمد بن حزم صح عن عمر الرجوع إلى القول بالتمتع بعد النهي عنه وهذا محال أن يرجع إلى القول بما صح عنده أنه منسوخ الثالث أنه من المحال أن ينهى عنها وقد قال لمن سأله هل هي لعاممهم ذلك أم للأبد فقال بل للأبد وهذا قطع لتوهم ورود النسخ عليها وهذا أحد الأحكام التي يستحيل ورود النسخ عليها وهو الحكم الذي أخبر الصادق المصدوق باستمراره ودوامه فإنه لا خلف لخبره
فصل
العذر الثاني دعوى اختصاص ذلك بالصحابة واحتجوا بوجوه أحدها ما رواه عبد الله بن الزبير الحميدي حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن المرقع عن أبي ذر أنه قال كان فسخ الحج من رسول الله لنا خاصة وقال وكيع حدثنا موسى بن عبيدة حدثنا يعقوب بن زيد عن أبي ذر قال لم يكن لأحد بعدنا ان يجعل حجته عمرة إنها كانت رخصة لنا أصحاب محمد وقال البزار حدثنا يوسف بن موسى حدثنا سلمة بن الفضل حدثنا محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن الأسدي عن يزيد بن شريك قلنا لأبي ذر كيف تمتع رسول الله وأنتم معه فقالت ما انتم وذاك إنما ذاك شيء رخص لنا فيه يعني المتعة وقال البزار حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن المهاجر عن ابي التمي عن ابيه والحارث بن سويد قال أبو ذر في الحج والمتعة رخصة أعطاناها رسول الله وقال أبو داود حدثنا هناد بن السري عن ابن ابي زائدة أخبرنا محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن سليمان ابو سليم ابن الأسود أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها إلى عمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد وآله وسلم خاصة وفي لفظ كانت لنا رخصة يعني المتعة في الحج وفي لفظ آخر لا تصح المتعتان إلا لنا خاصة يعني متعة النساء ومتعة الحج وفي لفظ آخر إنما كانت لنا خاصة دونكم يعني متعة الحج وفي سنن النسائي بإسناد صحيح عن إبراهيم التيمي عن ابيه عن أبي ذر في متعة الحج ليست لكم ولستم منها في شيء إنما كانت رخصة لنا أصحاب رسول الله وفي سنن أبي داود والنسائي من حديث بلال بن الحارث قال قلت يا رسول الله أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة ام للناس عامة فقال رسول الله بل لنا خاصة ورواه الامام أحمد وفي مسند أبي عوانة بإسناد صحيح عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال سئل عثمان عن متعة الحج فقال كانت لنا ليست لكم هذا مجموع ما استدلوا به على التخصيص بالصحابة قال المجوزون للفسخ والموجبون له لا حجة لكم في شيء من ذلك فإن هذه الآثار بين باطل لا يصح عمن نسب إليه البتة وبين صحيح عن قائل غير معصوم لا تعارض به نصوص المعصوم أما الأول فإن المرقع ليس ممن تقوم بروايته حجة فضلا عن أن يقدم على النصوص الصحيحة غير المدفوعة وقد قال أحمد بن حنبل وقد عورض بحديثه ومن المرقع الأسدي وقد روى أبو ذر عن النبي الأمر بفسخ الحج والعمرة وغاية ما نقل عنه إن صح أن ذلك مختص بالصحابة فهو رأية وقد قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري أن ذلك عام للأمة فرأي أبي ذر معارض برأيهما وسلمت النصوص الصحيحة الصريحة ثم من المعلوم أن دعوى الإختصاص باطلة بنص النبي أن تلك العمرة التي وقع السؤال عنها وكانت عمرة فسخ لأبد الأبد لا تختص بقرن دون قرن وهذا أصح من المروي عن أبي ذر وأولى أن يؤخذ به منه لو صح عنه
وأيضا فإذا رأينا أصحاب رسول الله قد اختلفوا فيأمر قد صح عن رسول الله وسلم أنه فعله وأمر به فقال بعضهم أنه منسوخ أو خاص وقال بعضهم هو باق إلى الأبد فقول من ادعى نسخه أو اختصاصه مخالف للأصل فلا يقبل إلا ببرهان وإن أقل ما في الباب معارضته بقول من ادعى بقاءه وعمومه والحجة تفصل بين المتنازعين والواجب الرد عند التنازع إلى الله ورسوله فإذا قال أبو ذر وعثمان إن الفسخ منسوخ او خاص وقال ابو موسى وعبد الله بن عباس إنه باق وحكمه عام فعلى من ادعى النسخ والاختصاص الدليل وأما حديثه المرفوع حديث بلال بن الحارث فحديث لا يكتب ولا يعارض بمثله تلك الأساطين الثابته قال عبد الله بن أحمد كان أبي يرى للمهل بالحج أن يفسخ حجة إن طاف بالبيت وبين الصفا والمروة وقال في المتعة هي آخر الأمرين من رسول الله وقال اجعلوا حجكم عمرة قال عبد الله فقلت لأبي فحديث بلال بن الحارث في فسخ الحج يعني قوله لنا خاصة قال لا أقول به لا يعرف هذا الرجل هذا حديث ليس إسناده بالمعروف ليس حديث بلال بن الحارث عندي يثبت هذا لفظه قلت ومما يدل على صحة قول الإمام أحمد وأن هذا الحديث لا يصح أن النبي أخبر عن تلك المتعة التي أمرهم أن يفسخوا حجهم إليها أنها لأبد الأبد فكيف يثبت عنه بعد هذا أنها لهم خاصة هذا من أمحل المحال وكيف يأمرهم بالفسخ ويقول دخلت العمرة في الحج إلي يوم القيامة ثم يثبت عنه أن ذلك مختص بالصحابة دون من بعدهم فنحن نشهد بالله أن حديث بلال بن الحارث هذا لا يصح عن رسول الله وهو غلط عليه وكيف تقدم رواية بلال ابن الحارث على روايات الثقات الأثبات حملة العلم الذين رووا عن رسول الله خلاف روايته ثم كيف يكون هذا ثابتا عن رسول الله وابن عباس رضي الله عنه يفتي بخلافه ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاص والعام وأصحاب رسول الله متوافرون ولا يقول له رجل واحد منهم هذا كان مختصا بنا ليس لغيرنا حتى يظهر بعد موت الصحابة أن أبا ذر كان يرى اختصاص ذلك بهم وأما قول عثمان رضي الله عنه في متعة الحج إنها كانت لهم ليست لغيرهم فحكمه حكم قول أبي ذر سواء على أن المروي ْعن أبي ذر وعثمان يحتمل ثلاثة أمور أحدها اختصاص جواز ذلك بالصحابة وهو الذي فهمه من حرم الفسخ
الثاني اختصاص وجوه بالصحابة وهو الذي كان يراه شيخنا قدس الله روحه يقول إنهم كانوا قد فرض عليهم الفسخ لأمر رسول الله لهم به وحتمه عليهم وغضبه عندما توقفوا في المبادرة إلى امتثاله وأما الجواز والاستحباب فللأمة إلى يوم القيامة لكن أبي ذلك البحر ابن عباس وجعل الوجوب للأمة إلى يوم القيامة وأن فرضا على كل مفرد وقارن لم يسق الهدي أن يحل ولا بد بل قد حل وإن لم يشأ وأنا إلى قوله أميل مني إلى قول شيخنا الاحتمال الثالث أنه ليس لأحد من بعد الصحابة ان يبتدىء حجا قارنا أو مفردا بلا هدي بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ لكن فرض عليه أن يفعل ما أمر به النبي أصحابه في آخر الأمر من التمتع لمن لم يسق الهدي والقران لمن ساق كما صح عنه ذلك وأمات أن يحرم بحج مفرد ثم يفسخه عند الطواف إلى عمرة مفردة ويجعله متعه فليس له ذلك بل هذا إنما كان للصحابة فإنهم ابتدؤوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبي بالتمتع والفسخ إليه فلما استقر أمره بالتمتع والفسخ إليه لم يكن لأحد أن يخالفه ويفرد ثم يفسخه وإذا تأملت هذين الأحتمالين الأخيرين رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأول او مساويين له وتسقط معارضة الأحاديث الثابتة الصريحة به جملة وبالله التوفيق وأما ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر ان المتعة في الحج كانت لهم خاصة فهذا إن أريد به أصل المتعة فهذا لا يقول به أحد من المسلمين بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة وإن أريد به متعة الفسخ احتمل الوجوه الثلاثة المتقدمة وقال الأثرم في سننه وذكر لنا احمد ابن حنبل أن عبد الرحمن بن مهدي حدثه عن سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن ابي ذر في متعة الحج كانت لنا خاصة فقال أحمد بن حنبل رحم الله أبا ذر في كتاب الله عز وجل ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ) البقرة قال المانعون من الفسخ قول أبي ذر وعثمان إن ذلك منسوخ و خاص بالصحابة لا يقال مثله بالرأي فمع قائلة زيادة علم خفيت على من ادعى بقاءه وعمومه فإنه مستصحب لحال النص بقاء وعموما فهو بمنزلة صاحب اليد في العين المدعاة ومدعي فسخه واختصاصه بمنزلة صاحب البينة التي تقدم على صاحب اليد
قال المجوزون للفسخ هذا قول فاسد لا شك فيه بل هذا رأي لا شك فيه وقد صرح بانه رأي من هو أعظم من عثمان وأبي ذر عمران بن حصين ففي الصحيحين واللفظ للبخاري تمتعنا مع رسول الله ونزل القرآن فقال رجل برأيه ما شاء ولفظ مسلم نزلت آية المتعة في كتاب الله عز وجل يعني متعة الحج وأمرنا بها رسول الله ثم لم تنزل آية تنسخ متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله حتى مات قال رجل برأيه ما شاء وفي لفظ يريد عمر وقال عبد الله بن عمر لمن سأله عنها قال له إن أباك نهى عنها أأمر رسول الله أحق أن يتبع أو أمر أبي وقال ابن عباس لمن كان يعارضه فيها بأبي بكر وعمر يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله وآله وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر فهذا جواب العلماء لا جواب من يقول عثمان وأبو ذر أعلم برسول الله منكم فهلا قال ابن عباس وعبد الله بن عمر أبو بكر أعلم برسول الله وآله منا ولم يكن أحد من الصحابة ولا أحد من التابعين يرضى بهذا الجواب في دفع نص عن رسول الله وهم كانوا أعلم بالله ورسوله وأتقى له من أن يقدموا على قول المعصوم رأي غير المعصوم ثم قد ثبت النص عن المعصوم بأنها باقية إلى يوم القيامة وقد قال ببقائها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس وأبو موسى وسعيد بن المسيب وجمهور التابعين ويدل على ان ذلك رأي محض لا ينسب إلى أنه مرفوع إلىالنبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نهىعنها قال له ابو موسى الأشعري يا أمير المؤمنين ما أحدثت في شأن النسك فقال إن نأخذ بكتاب ربنا فإن الله يقول ( وأتموا الحج والعمرة لله ) البقرة وإن نأخذ بسنة رسول الله فإن رسول الله لم يحل حتى نحر فهذا اتفاق من ابي موسى وعمر على أن منع الفسخ إلى المتعة والإحرام بها ابتداء إنما هو رأي منه أحدثه في النسك ليس عن رسول الله وإن استدل له بما استدل وأبو موسى كان يفتي الناس بالفسخ في خلافة أبي بكر رضي الله عنه كلها وصدرا من خلافة عمر حتى فاوض عمر رضي الله عنه في نهيه عن ذلك واتفقا على أنه راي أحدثه عمر رضي الله عنه في النسك ثم صح عنه الرجوع عنه
فصل
وأما العذر الثالث وهو معارضة أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها فذكروا منها مارواه مسلم في صحيحه من حديث الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله في حجة الوداع فمنا من اهل بعمرة ومنا من أهل بحج حتى قدمنا مكة فقال رسول الله من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل ومن احرم بعمرة وأهدي فلا يحل حتى ينحر هدية ومن أهل بحج فليتم حجه وذكر باقي الحديث ومنها ما رواه مسلم في صحيحة أيضا من حديث مالك عن ابي الأسود عن عروة عنها خرجنا مع رسول الله عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من اهل بالحج وأهل رسول الله بالحج فاما من اهل بعمرة فحل وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر ومنها ما رواه ابن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر العبدي عن محمد بن عمرو بن علقمة حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله للحج على ثلاثة أنواع فمنا من أهل بعمرة وحجة ومنا من أهل بحج مفرد ومنا من أهل بعمرة مفردة فمن كان أهل بحج وعمرة معا لم يحل من شيء مما حرم منه حتى قضى مناسك الحج ومن أهل بحج مفرد لم يحل من شيء مما رحم منه حتى قضى مناسك الحج ومن أهل بعمرة مفردة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة حل مما حرم منه حتى استقبل حجا ومنها ما رواه مسلم في صحيحة من حديث ابن وهب عن عمر بن الحارث عن محمد بن نوفل أن رجلا من أهل العراق قال له سل لي عروة بن الزبير عن رجل أهل بالحج فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا فذكر الحديث وفيه قد حج رسول الله فأخبرتني عائشة ان أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضا ثم طاف بالبيت ثم حج أبو بكر ثم كان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم عمر مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم معاوية وعبد الله بن عمر ثم حججت مع ابي الزبير بن العوام فكان أول بشيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك ثم لم تكن عمره ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك ثم لم تكنت عمرة ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها بعمرة فهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدؤون بشء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت ثم لا يحلون وقد رأيت أمي وخالتي تقدمان لا تبدآن بشيء أول من الطواف بالبيت تطوفان به ثم لا تحلان فهذا مجموع ما عارضوا به أحاديث الفسخ ولا معارضة فيها بحمد الله ومنه
أما الحديث الأول وهو حديث الزهري عن عروة عن عائشة فغلط فيه عبد الملك بن شعيب أو أبوه شعيب أو جده الليث أو شيخه عقيل فإن الحديث رواه مالك ومعمر والناس عن الزهري عن عروة عنها وبينوا أن النبي أمر أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى أن يحل فقال مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عنها خرجنا مع رسول الله لخمس ليال بقين لذي القعدة ولا نرى إلاالحج فلما دنونا من مكة أمر رسول الله من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل وذكر الحديث قال يحيى فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد فقال أتتك والله بالحديث على وجهه وقال منصور عن إبراهيم عن الأسود عنها خرجنا مع رسول الله ولا نرى إلا الحج فلما قدمنا تطوفنا بالبيت فأمر النبي من لم يكن ساق الهدي أن يحل فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن فاحللن وقال مالك ومعمر كلاهما عن ابن شهاب عن عروة عنها خرجنا مع رسول الله عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ولا يحل حتى يحل منهما جميعا وقال ابن شهاب عن عروة عنها بمثل الذي أخبر به سالم عن أبيه عن النبي ولفظه تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج فأهدي فساق معه الهدي من ذي الحليفة
وبدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدي فساق معه الهدي ومنهم من لم يهد فلما قدم النبي مكة قال للناس من كان منكم أهدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجة ومن لم يكن أهدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة ليقصر وليحل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهلة وذكر باقي الحديث
وقال عبد العزيز الماجشون عن عبد الرحمن بن القاسم عن ابيه عن عائشة خرجنا مع رسول الله لا نذكر إلا الحج فذكر الحديث وفيه قالت فلما قدمت مكة قال رسول الله لأصحابه اجعلوها عمرة فأحل الناس إلا من كان معه الهدي وقال الأعمش عن إبراهيم عن عائشة خرجنا مع رسول الله لا نذكر إلا الحج فلما قدمنا أمرنا أن نحل وذكر الحديث وقال عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة خرجنا مع رسول الله ولا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف طمثت قالت فدخل علي رسول الله وأنا أبكي فقال ما يبكيك قالت فقلت والله لوددت أني لا أحج العام فذكر الحديث وفيه فلما قدمت مكة قال النبي اجعلوها عمرة قالت فحل الناس إلا من كان معه الهدي وكل هذه الألفاظ في الصحيح وهذا موافق لما رواه جابر وابن عمر وأنس وأبو موسى وابن عباس وأبو سعيد وأسماء والبراء وحفصة وغيرهم من أمره أصحابه كلهم بالأحلال إلا من ساق الهدي وأن يجعلوا حجهم عمرة وفي اتفاق هؤلاء كلهم على أن النبي أمر اصحابه كلهم أن يحلوا وأن يجعلوا الذي قدموا به متعة إلا من ساق الهدي دليل على غلط هذه الرواية ووهم وقع فيها يبين ذلك أنها من رواية الليث عن عقيل عن الزهري عن عروة والليث بعينه هو الذي روى عن عقيل عن الزهري عن عروة عنها مثل ما رواه عن الزهري عن سالم عن أبيه في تمتع النبي وأمره لمن لم يكن أهدي أن يحل ثم تأملنا فإذا أحاديث عائشة يصدق بعضها بعضا وإنما بعض الرواة زاد على بعض وبعضهم اختصر الحديث وبعضهم اقتصر على بعضه وبعضهم رواه بالمعنى والحديث المذكور ليس فيه منع من أهل بالحج من الإحلال وإنما فيه أمره أن يتم الحج فإن كان هذا محفوظا فالمراد به بقاؤه على إحرامه فيتعين أن يكون هذا قبل الأمر بالإحلال وجعله عمرة ويكون هذا أمرا زائدا قد طرأ على الأمر بالإتمام كما طرأ على التخيير بين الإفراد والتمتع والقران ويتعين هذا ولا بد وإلا كان هذا ناسخا للأمر بالفسخ والأمر بالفسخ ناسخا للإذن بالإفراد وهذا محال قطعا فإنه بعد ان أمرهم بالحل لم يامرهم بنقضه والبقاء على الإحرام الأول هذا باطل قطعا فيتعين إن كان محفوظا أن يكون قبل الأمر لهم بالفسخ ولا يجوز غير هذا البتة والله أعلم
فصل
وأما حديث أبي الأسود عن عروة عنها وفيه وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر وحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنها فمن كان أهل بحج وعمرة معا لم يحل من شيء مما حرم منه حتى يقضي مناسك الحج ومن أهل بحج مفرد كذلك فحديثان قد أنكرهما الحفاظ وهما اهل أن ينكرا قال الأثرم حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بن أنس عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة خرجنا مع رسول الله فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالعمرة ومنا من اهل بالحج والعمرة وأهل بالحج رسول الله فأما من اهل بالعمرة فاحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة وأما من أهل بالحج والعمرة فلم يحلوا إلى يوم النحر فقال أحمد بن حنبل أيش في هذا الحديث من العجب هذا خطأ فقال الأثرم فقلت له الزهري عن عروة عن عائشة بخلافه فقال نعم وهشام بن عروة وقال الحافظ ابو محمد بن حزم هذان حديثان منكران جدا قال ولابي الأسود في هذا النحو حديث لا خفاء بنكرته ووهنه وبطلانه والعجب كيف جاز على من رواه ثم ساق من طريق البخاري عنه ان عبد الله مولى أسماء حدثه انه كان يسمع أسماء بنت ابي بكر الصديق رضي الله عنهما تقول كلما مرت بالحجون لقد نزلنا معه هاهنا ونحن يومئذ خفاف قليل ظهرنا قليلة أزوادنا فاعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان فلما مسحنا البيت أحللنا ثم أهللنا من العشي بالحج قال وهذه وهلة لا خفاء بها ْعلى أحد ممن له أقل علم بالحديث لوجهين باطلين فيه بلا شك أحدهما قوله فاعتمرت أنا وأختي عائشة ولا خلاف بين أحد من أهل النقل في أن عائشة لم تعتمر في أول دخولها مكة ولذلك أعمرها من التنعيم بعد تمام الحج ليلة الحصبة هكذا رواه جابر بن عبد الله ورواه عن عائشة الأثبات كالأسود بن يزيد وابن ابي مليكة والقاسم ابن محمد وعروة وطاووس ومجاهد الموضع الثاني قوله فيه فلما مسحنا البيت أحللنا ثم اهللنا من العشي بالحج وهذا باطل لا شك فيه لأن جابرا وأنس بن مالك وعائشة وابن عباس كلهم رووا أن الإحلال كان يوم دخولهم مكة وأن إحلالهم بالحج كان يوم التروية وبين اليومين المذكورين ثلاثة أيام بلا شك
قلت الحديث ليس بمنكر ولا باطل وهو صحيح وإنما أتي ابو محمد فيه من فهمه فإن أسماء أنها اعتمرت هي وعائشة وهكذا وقع بلا شك وأما قولها فلما مسحنا البيت أحللنا فإخبار منها عن نفسها وعمن لم يصبه عذر الحيض الذي أصاب عائشة وهي لم تصرح بإن عائشة مسحت البيت يوم دخولهم مكة وأنها حلت ذلك اليوم ولا ريب ان عائشة قدمت بعمره ولم تزل عليها حتى حاضت بسرف فأدخلت عليها الحج وصارت قارنة فإذا قيل اعتمرت عائشة مع النبي أو قدمت بعمرة لم يكن هذا كذبا وأما قولها ثم أهللنا من العشي بالحج فهي لم تقل إنهم أهلوا من عشي يوم القدوم ليلزم ما قال ابو محمد وإنما أرادت عشي يوم التروية ومل هذا لا يحتاج في ظهوره وبيانه إلى أن يصرح فيه بعشي ذلك اليوم بعينه لعلم الخاص والعام به وانه مما لا تذهب الأوهام إلى غيره فرد أحاديث الثقات بمثل هذا الوهم مما لا سبيل إليه قال ابو محمد أسلم الوجوه للحديثين المذكورين عن عائشة يعني اللذين أنكرهما أن تخرج روايتهما على أن المراد بقولها إن الذين اهلوا بحج أو بحج وعمرة لم يحلوا حتى كان يوم النحر حين قضوا مناسك الحج إنما عنت بذلك من كان معه الهدي وبهذا تنتفي النكرة عن هذين الحديثين وبهذا تأتلف الأحاديث كلها لأن الزهري عن عروة يذكر خلاف ما ذكره أبو الأسود عن عروة والزهري بلا شك أحفظ من ابي الأسود
وقد خالف يحيى بن عبد الرحمن عن عائشة في هذا الباب من لا يقرن يحيى بن عبد الرحمن إليه لا في حفظ ولا في ثقة ولا في جلالة ولا في بطانة لعائشة كالأسود بن يزيد والقاسم بن محمد بن أبي بكر وأبي عمرو ذكوان مولى عائشة وعمرة بنت عبد الرحمن وكانت في حجر عائشة وهؤلاء هم أهل الخصوصية والبطانة بها فكيف ولو لم يكونوا كذلك لكانت روايتهم أو رواية واحد منهم لو انفرد هي الواجب أن يؤخذ بها لأن فيها زيادة على رواية أبي الأسود ويحيى وليس من جهل أو غفل حجة على من علم وذكر وأخبر فكيف وقد وافق هؤلاء الجلة عن عائشة فسقط التعلق بحديث أبي الأسود ويحيى اللذين ذكرنا قال وأيضا فإن حديثي أبي الأسود ويحيى موقوفان غير مسندين لأنهما إنما ذكرا عنها فعل من فعل ما ذكرت دون ان نذكر أن النبي أمرهم أن لا يحلوا ولا حجة في أحد دون النبي فلو صح ما ذكراه وقد صح امرالنبي من لا هدي معه بالفسخ فتمادى المأمورون بذلك ولم يحلوا لكانوا عصاة الله تعالى وقد أعاذهم الله من ذلك وبرأهم منه فثبت يقينا أن حديث ابي الأسود ويحيى إنما عني فيهما من كان معه هدي وهكذا جاءت الأحاديث الصحاح التي أوردناها بأنه أمر من معه الهدي بأن يجمع حجا مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا ثم ساق من طريق مالك عن ابن شهاب عن عروة عنها ترفعه من كان معه هدي فليهلل بالحج والعمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا قال فهذا الحديث كما ترى من طريق عروة عن عائشة يبين ما ذكرنا انه المراد بلا شك في حديث ابي الأسود عن عروة وحديث يحيى عن عائشة وارتفع الآن الإشكال جملة والحمد لله رب العالمين قال ومما يبين أن في حديث ابي الأسود حذفا قوله فيه عن عروة أن أمة وخالته والزبير أقبلوا بعمرة فقط فلما مسحوا الركن حلوا ولا خلاف بين أحد أن من أقبل بعمرة لا يحل بمسح الركن حتى يسعى بين الصفا والمروة بعد مسح الركن فصح ان في الحديث حذفا بينه سائر الأحاديث الصحاح التي ذكرنا وبطل التشغيب به جملة وبالله التوفيق