سياق حجته 3
فصل
وأما ما في حديث ابي الأسود عن عروة من فعل أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار وابن عمر فقد اجابه ابن عباس فاحسن جوابه فيكتفى بجوابه فروى الأعمش عن فضيل بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس تمتع رسول الله فقال عروة نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس أراكم ستهلكون أقول قال رسول الله وتقول قال ابو بكر وعمر قال عبد الرزاق حدثنا معمر عن أيوب قال قال عروة لابن عباس ألا تتقي الله ترخص في المتعة فقال ابن عباس سل أمك يا عرية فقال عروة أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا فقال ابن عباس والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله أحدثكم عن رسول الله وتحدثونا عن ابي بكر وعمر فقال عروة لهما أعلم بسنة رسول الله وأتبع لها منك
وأخرج أبو مسلم الكجي عن سليمان بن حرب عن حماد ابن زيد عن أيوب السختياني عن ابن أبي مليكة عن عروة بن الزبير قال لرجل من أصحاب رسول الله تأمر الناس بالعمرة في هؤلاء العشر وليس فيها عمرة قال أولا تسأل أمك عن ذلك قال عروة فإن أبا بكر وعمر لم يفعلا ذلك قال الرجل من هاهنا هلكتم ما أرى الله عز وجل إلا سيعذبكم إني أحدثكم عن رسول الله وتخبروني بابي بكر وعمر قال عروة إنهما والله كانا اعلم بسنة رسول الله منك فسكت الرجل ثم أجاب أبو محمد بن حزم عروة عن قوله هذا بجواب نذكره ونذكر جوابا أحسن منه لشيخنا قال أبو محمد ونحن نقول لعروة ابن عباس أعلم بسنة رسول الله وبأبي بكر وعمر منك وخير منك وأولى بهم ثلاثتهم منك لا يشك في ذلك مسلم وعائشة أم المؤمنين أعلم وأصدق منك ثم ساق من طريق الثوري عن ابي إسحاق السبيعي عن عبد الله قال قالت عائشة من استعمل على الموسم قالوا ابن عباس قالت هو أعلم الناس بالحج قال أبو محمد مع أنه قد روي عنها خلاف ما قاله عروة ومن هو خير من عروة وأفضل وأعلم وأصدق وأوثق ثم ساق من طريق البزار عن الأشج عن عبد الله بن إدريس الأودي عن ليث عن عطاء وطاووس عن ابن عباس تمتع رسول الله وأبو بكر وعمر وأول من نهى عنها معاوية ومن طريق عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن طاووس عن ابن عباس تمتع رسول وأبو بكر حتى مات وعمر وعثمان كذلك وأول من نهى عنها معاوية قلت حديث ابن عباس هذا رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي وقال حديث حسن وذكر عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال قال أبي بن كعب وأبو موسى لعمر بن الخطاب ألا تقوم فتبين للناس أمر هذه المتعة فقال عمر وهل بقي أحد إلا وقد علمها أما أنا فأفعلها
وذكر علي بن عبد العزيز البغوي حدثنا حجاج بن المنهال قال حدثنا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان أو حميد عن الحسن ان عمر أراد أن يأخذ مال الكعبة وقال الكعبة غنية عن ذلك المال وأراد أن ينهى أهل اليمن أن يصبغوا بالبول وأراد أن ينهى عن متعة الحج فقال أبي بن كعب قد رأى رسول الله وأصحابه هذا المال وبه وبأصحابه الحاجة إليه فلم يأخذه وأنت فلا تأخذه وقد كان رسول الله وأصحابه يلبسون الثياب اليمانية فلم ينه عنها وقد علم أنها تصبغ بالبول وقد تمتعنا مع رسول الله فلم ينه عنها ولم ينزل الله تعالى فيها نهيا وقد تقدم قول عمر لو اعتمرت في وسط السنة ثم حججت لتمتعت ولو حججت خمسين حجة لتمتعت ورواه حماد بن سلمة عن قيس عن طاووس عن ابن عباس عنه لو اعتمرت في سنة مرتين ثم حججت لجعلت مع حجتي عمرة والثوري عن سلمة بن كهيل عن طاووس عن ابن عباس عنه لو اعتمرت ثم اعتمرت ثم حججت لتمتعت وابن عيينة عن هشام بن حجير وليث عن طاووس عن ابن عباس قال هذا الذي يزعمون أنه نهى عن المتعة يعني عمر سمعته يقول لو اعتمرت ثم حججت لتمتعت قال ابن عباس كذا وكذا مرة ما تمت حجة رجق قط إلا بمتعه وأما الجواب الذي ذكره شيخنا فهو أن عمر رضي الله عنه لم ينه عن المتعة البتة وإنما قال إن أتم لحجكم وعمرتكم أن تفصلوا بينهما فاختار عمر لهما أفضل الأمور وهو إفراد كل واحد منهما بسفر ينشئه له من بلده وهذا أفضل من القران والتمتع الخاص بدون سفره آخرى وقد نص على ذلك أحمد وابو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله وغيرهم وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر رضي عنهما وكان عمر يختاره للناس وكذلك علي رضي الله عنهما وقال عمر وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) البقرة196 قالا إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقد قال لعائشة في عمرتها أجرك على قدر نصبك فإذا رجع الحاج إلى دويرة أهله فأنشأ العمرة منها واعتمر قبل أشهر الحج وأقام حتى يحج أو اعتمر في أشهره ورجع إلى أهله ثم حج فها هنا قد أتى بكل واحد من النسكين من دويرة أهله وهذا إتيان بهما على الكمال فهو أفضل من غيره
قلت فهذا الذي أختاره عمر للناس فظن من غلط منهم أنه نهى عن المتعة ثم منهم من حمل نهية على متعة الفسخ ومنهم من حمله على ترك الأولى ترجيحا للإفراد عليه ومنهم من عارض روايات النهي عنه بروايات الاستحباب وقد ذكرناها ومنهم من جعل في ذلك روايتين عن عمر كما عنه روايتان في غيرهما من المسائل ومنهم من جعل النهي قولا قديما ورجع عنه أخيرا كما سلك أبو محمد بن حزم ومنهم من يعد النهي رأيا رآه من عنده لكراهته أن يظل الحاج معرسين بنسائهم في ظل الأراك قال أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد قال بينما أنا واقف مع عمر بن الخطاب بعرفة عشية عرفة فإذا هو برجل مرجل شعره يفوح منه ريح الطيب فقال له عمر أمحرم أنت قال نعم فقال عمرت ما هيئتك بهيئة محرم إنما المحرم الأشعث الأغبر الأدفر قال إني قدمت متمتعا وكان معي أهلي وإنما أحرمت اليوم فقال عمر عند ذلك لا تتمتعوا في هذه الأيام فإني لو رخصت في المتعة لهم لعرسوا بهن في ألاراك ثم راحوا بهن حجاجا وهذا يبين أن هذا من عمر رأي رآه قال ابن حزم فكان ماذا وحبذا ذلك وقد طاف النبي على نسائه ثم أصبح محرما ولا خلاف أن الوطء مباح قبل الإحرام بطرفة عين والله أعلم
فصل
وقدت سلك المانعون من الفسخ طريقتين أخريين نذكرهما ونبين فسادهما الطريقة الأولى قالوا إذا اختلف الصحابة ومن بعدهم في جواز الفسخ فالاحتياط يقتضي المنع منه صيانة للعبادة عما لا يجوز فيها عند كثير من أهل العلم بل أكثرهم والطريقة الثانية أن النبي أمرهم بالفسخ ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج وكانوا يقولون إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر فأمرهم النبي بالفسخ ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج وهاتان الطريقتان باطلتان أما الأولى فلأن الاحتياط إنما يشرع إذا تتبين السنة فإذا تبينت فالاحتياط هو اتباعها وترك ما خالفها فإن كان تركها لأجل الأختلاف احتياطا فترك ما خالفها واتباعها فإن كان تركها لأجل الاختلاف احتياط فتركت ما خالفها واتباعها أحوط وأحوط فالاحتياط نوعان احتياط للخروج من خلاف العلماءواحتياط للخروج من خلاف السنة ولا يخفى رجحان أحدهما على الاخر وأيضا فإن الاحتياط ممتنع هنا فإن للناس في الفسخ ثلاثة أقوال أحدهما أنه محرم الثاني أنه واجب وهو قول جماعة من السلف والخلف الثالث أنه مستحب فليس الاحتياط بالخروج من خلاف من حرمه أولى بالاحتياط بالخروج من خلاف من أوجبه وإذا تعذر الاحتياط بالخروج من الخلاف تعين الاحتياط بالخروج من خلاف السنة
فصل
وأما الطريقة الثانية فأظهر بطلانا من وجوه عديدة أحدها أن النبي اعتمر قبل ذلك عمرة الثلاث في أشهر الحج في ذي القعدة كما تقدم ذلك وهو أوسط أشهر الحج فكيف يظن أن الصحابة لم يعلموا جواز الاعتمار في أشهر الحج إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة وقد تقدم فعله لذلك ثلاث مرات الثاني أنه قد ثبت في الصحيحين أنه قال لهم عند الميقات من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ومن شاء ان يهل بحجة فليفعل ومن شاء أن يهل بحج وعمرة فليفعل فبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج عند الميقات وعامة المسلمين معه فكيف لم يعلموا جوازها إلا بالفسخ ولعمر الله إن لم يكونوا يعلمون جوازها بذلك فهم أجدر أن لا يعلموا جوازها بالفسخ الثالث أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل وأمر من ساق الهدي أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله ففرق بين محرم ومحرم وهذا يدل على أن سوق الهدي هو المانع من التحلل لا مجرد الإحرام الأول والعلة التي ذكروها لا تختص بمحرم ومن محرم فالنبي جعل التأثير في الحل وعدمه للهدي وجودا وعدما لا لغيره
الرابع أن يقال إذا كان النبي قصد مخالفة المشركين كان هذا دليلا على أن الفسخ أفضل لهذة العلة لأنه إذا كان إنما أمرهم بذلك لمخالفة المشركين كان يكون دليلا على أن الفسخ يبقى مشروعا إلى يوم القيامة إما وجوبا وإما استحبابا فإن ما فعله النبي وشرعه لأمته في المناسك مخالفة لهدي المشركين هو مشروع إلى يوم القيامة إما وجوبا او استحبابا فإن المشركين كانوا يفيضون من عرفة قبل غروب الشمس وكانوا لا يفيضون من مزدلفة حتى تطلع الشمس وكانوا يقولون أشرق ثبير كيما نغير فخالفهم النبي وقال خالف هدينا هدي المشركين فلم نفض من عرفة حتى غربت الشمس وهذه المخالفة إما ركن كقول مالك وإما واجب يجبره دم كقول أحمد وأبي حنيفة والشافعي فيأحد القولين وإما سنة كالقول الآخر له والإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سنة باتفاق المسلمين وكذلك قريش كانت لا تقف بعرفة بل تفيض من جمع مخالفهم النبي ووقف بعرفات وأفاض منها وفي ذلك قوله تعالى ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) البقرة 199 وهذه المخالفة من أركان الحج باتفاق المسلمين فالأمور التي نخالف فيها المشركين هي الواجب أو المستحب ليس فيها مكروه فكيف يكون فيها محرم وكيف يقال إن النبي أمر أصحابه بنسك يخالف المشركين مع كون الذي نهاهم عنه أفضل من الذي أمرهم به أبو يقال من حج كما حج المشركون فلم يتمتع فحجه أفضل من حج السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بأمر رسول الله الخامس أنه قد ثبت في الصحيحين عنه أنه قال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة وقيل له عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد فقال لا بل لأيد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة وكان سؤالهم عن عمرة الفسخ كما جاء صريحا في حديث جابر الطويل قال حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال لو استقبلت من امري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة فقام سراقة بن مالك فقال يا رسول الله ألعامنا وليجعلها عمرة فقام هذا أم للأبد فشبك رسول الله أصابعه واحدة في الأخرة وقال دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد الأبد وفي لفظ قدم رسول صبح رابعة مضت من ذي الحجة فأمرنا أن نحل فقلنا لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نقضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني فذكر الحديث وفيه فقال سراقة بن مالك لعامنا هذا أمر للأبد فقال لأبد
وفي صحيح البخاري عنه أن سراقة قال للنبي ألكم خاصة هذه يا رسول قال بل للأبد فبين رسول الله أن تلك العمرة التي فسخ من فسخ منهم حجة إليها للأبد وأن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة وهذا يبين أن عمرة التمتع بعض الحج وقد أعترض بعض الناس على الاستدلال بقوله بل لأبد الأبد باعتراضين أحدهما أن المراد أن سقوط الفرض بها لا يختص بذلك العام بل يسقطه إلى الأبد وهذا الاعتراض باطل فإنه لو أراد ذلك لم يقل للأبد فإن الأبد لا يكون في حق طائفة معينة بل إنما يكون لجميع المسلمين ولأنه قال دخلت العمرة في الحج إلي يوم القيامة ولأنهم لو أرادوا بذلك السؤال بذلك عن تكرار الوجوب لما اقتصروا على العمرة بل كان السؤال عن الحج ولأنهم قالوا له عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ولو أرادوا تكرار وجوبها كل عام لقالوا له كما قالوا له في اللحج أكل عام يا رسول الله ولأجابهم بما أجابهم به في الحج بقوله ذروني ما تركتكم لو قلت نعم لوجبت ولأنهم قالوا له هذه لكم خاصة فقال بل لأبد الأبد فهذا السؤال والجواب صريحان في عدم الاختصاص الثاني قوله إن ذلك إنما يريد به جواز الاعتمار في اشهر الحج وهذا الأعتراض أبطل من الذي قبله فإن السائل إنما سأل النبي فيه عن المتعة التي هي فسخ الحج لا عن جواز العمرة في أشهر الحج لأنه إنما سأله عقب أمره من لا هدي معه بفسخ الحج فقال له سراقة حينئذ هذا لعامنا أم للأبد فأجابه عن نفس ما سأله عنه لا عما لم يسأله عنه وفي قوله دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة عقب أمره من لا هدي معه بالإحلال بيان جلي أن ذلك مستمر إلى يوم القيامة فبطل دعوى الخصوص وبالله التوفيق
السادس أن هذه العلة التي ذكرتموها ليست في الحديث ولا فيه إشارة إليها فإن كانت باطلة بطل اعتراضكم بها وإن كانت صحيحة فإنها لا تلزم الاختصاص بالصحابة بوجه من الوجوه بل إن صحت اقتضت دوام معلولها واستمراره كما أن الرمل شرع ليري المشركين قوته وقوة أصحابه واستمرت مشروعيته إلى يوم القيامة فبطل الاحتجاج بتلك العلة على الاختصاص بهم على كل تقدير السابع أن الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يكتفوا بالعلم بجواز العمرة في أشهر الحج على فعلهم لها معه ثلاثة أعوام ولا بإذنه لهم فيها عند الميقات حتى أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فمن بعدهم أحرى أن لا يكتفي بذلك حتى يفسخ الحج إلى العمرة اتباعا لأمر النبي واقتداء بأصحابه إلا أن يقول قائل إنا نحن نكتفي من ذلك بدون ما اكتفى به الصحابة ولا نحتاج في الجواز إلى ما احتاجوا هم إليه وهذا جهل نعوذ بالله منه الثامن أنه لا يظن برسول الله أن يأمر أصحابه بالفسخ الذي هو حرام ليعلمهم بذلك مباحا يمكن تعليمه بغير ارتكاب هذا المحظور وبأسهل منه بيانا وأوضح دلالة وأقل كلفة فإن قيل لم يكن الفسخ حين أمرهم به حراما قيل فهو إذا إما واجب أو مستحب وقد قال بكل واحد منهما طائفة فمن الذي حرمه بعد إيجابه أو استحبابه وأي نص أو إجماع رفع هذا الوجوب أو الاستحباب فهذه مطالبة لا محيص عنها التاسع أنه قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة أفترى تجدد له عند ذلك العلم بجواز العمرة في أشهر الحج حتى تأسف على فواتها هذا من أعظم المحال العاشر أنه أمر بالفسخ إلى العمرة من كان أفرد ومن قرن ولم يسق الهدى ومعلوم أن القارن قد اعتمر في أشهر الحج مع حجته فكيف يأمره بفسخ قرانه إلى عمرة ليبين له جواز العمرة في أشهر الحج وقد أتى بها وضم إليها الحج الحادي عشر أن فسخ الحج إلى العمرة موافق لقياس الأصول لا مخالف له ولو لم يرد به النص لكان القياس يقتضي جوازه فجاء النص به على وفق القياس
قاله شيخ الإسلام وقرره بأن المحرم إذا التزم أكثر مما كان لزمه جاز باتفاق الأئمة فلو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليه الحج جاز بلا نزاع وإذا أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يجز عند الجمهور وهو مذهب مالك وأحمد والشافعي في ظاهر مذهبه وأبو حنيفة يجوز ذلك بناء على أصله في أن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين قال وهذا قياس الرواية المحكية عن أحمد في القارن أنه يطوف طوافين ويسعى سعيين وإذا كان كذلك فالمحرم بالحج لم يلتزم إلا الحج فإذا صار متمتعا صار ملتزما لعمرة وحج فكان ما التزمه بالفسخ أكثر مما كان عليه فجاز ذلك ولما كان أفضل كان مستحبا وإنما أشكل هذا على من ظن أنه فسخ حجا إلى عمرة وليس كذلك فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى عمرة مفردة لم يجز بلا نزاع وإنما الفسخ جائز لمن كان من نيته أن يحج بعد العمرة المتمتع من حين يحرم بالعمرة فهو داخل في الحج كما قال النبي دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ولهذا يجوز له أن يصوم الأيام الثلاثة من حين يحرم بالعمرة فدل على أنه في تلك الحال في الحج وأما إحرامه بالحج بعد ذلك فكما يبدأ الجنب بالوضوء ثم يغتسل بعده وكذلك كان النبي يفعل إذا اغتسل من الجنابة وقال للنسوة في غسل ابنته ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها فغسل مواضع الوضوء بعض الغسل فإن قيل هذا باطل لثلاثة أوجه أحدها أنه إذا فسخ استفاد بالفسخ حلا كان ممنوعا منه بإحرامه الأول فهو دون ما التزمه الثاني أن النسك الذي كان قد التزمه أولا أكمل من النسك الذي فسخ إليه ولهذا لا يحتاج الأول إلى جبران والذي يفسخ إليه يحتاج إلى هدي جبرانا له ونسك لا جبران فيه أفضل من نسك مجبور
الثالث أنه إذا لم يجز إدخال العمرة على الحج فلأن لا يجوز إبدالها به وفسخه إليها بطريق الأولى والأحرى فالجواب عن هذه الوجوه من طريقين مجمل ومفصل أما المجمل فهو أن هذه الوجوه اعتراضات على مجرد السنة والجواب عنها بالتزام تقديم الوحي على الآراء وأن كل رأي يخالف السنة فهو باطل قطعا وبيان بطلانه لمخالفة السنة الصحيحة الصريحة له والآراء تبع للسنة وليست السنة تبعا للآراء وأما المفصل وهو الذي نحن بصدده فإنا التزمنا أن الفسخ على وفق القياس فلا بد من الوفاء بهذا الالتزام وعلى هذا فالوجه الأول جوابه بأن التمتع وإن تخلله التحلل فهو أفضل من الإفراد الذي لا حل فيه لأمر النبي من لا هدي معه بالإحرام به ولأمره أصحابه بفسخ الحج إليه ولتمنيه أنه كان أحرم به ولأنه النسك المنصوص عليه في كتاب الله ولأن الأمة أجمعت على جوازه بل على استحبابه واختلفوا في غيره على قولين فإن النبي غضب حين أمرهم بالفسخ إليه بعد الإحرام بالحج فتوقفوا ولأنه من المحال قطعا أن تكون حجة قط أفضل من حجة خير القرون وأفضل العالمين مع نبيهم وقد أمرهم كلهم بأن يجعلوها متعة إلا من ساق الهدي فمن المحال أن يكون غير هذا الحج أفضل منه إلا حج من قرن وساق الهدي كما اختاره الله سبحانه لنبيه فهذا هو الذي اختاره الله لنبيه واختار لأصحابه التمتع فأي حج أفضل من هذين ولأنه من المحال أن ينقلهم من النسك الفاضل إلى المفضول المرجوح ولوجوه أخر كثيرة ليس هذا موضعها فرجحان هذا النسك أفضل من البقاء على الإحرام الذي يفوته بالفسخ وقد تبين بهذا بطلان الوجه الثاني وأما قولكم إنه نسك مجبور بالهدي فكلام باطل من وجوه أحدها أن الهدى في التمتع عبادة مقصودة وهو من تمام النسك وهو دم شكران لادم جبران وهو بمنزلة الأضحية للمقيم وهو من تمام عبادة هذا اليوم فالنسك المشتمل على الدم بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية فإنه ما تقرب إلى الله في ذلك اليوم بمثل إراقة دم سائل
وقد روى الترمذي وغيره من حديث أبي بكر الصديق أن النبي سئل أي الحج أفضل فقال العج والثج والعج رفع الصوت بالتلبية والثج إراقة دم الهدي فإن قيل يمكن المفرد أن يحصل هذه الفضيلة قيل مشروعيتها إنما جاءت في حق القارن والمتمتع وعلى تقدير استحبابها في حقه فأين ثوابها من ثواب هدي المتمتع والقارن الوجه الثاني أنه لو كان دم جبران لما جاز الأكل منه وقد ثبت عن النبي أنه أكل من هديه فإنه أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل من لحمها وشرب من مرقها وإن كان الواجب عليه سبع بدنة فإنه أكل من كل بدنة من المائة والواجب فيها مشاع لم يتعين بقسمة وأيضا فإنه قد ثبت في الصحيحين أنه أطعم نساءه من الهدي الذي ذبحه عنهن وكن متمتعات احتج به الإمام أحمد فثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه أهدى عن نسائه ثم أرسل إليهن من الهدي الذي ذبحه عنهن وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال فيما يذبح بمنى من الهدي ( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) ( الحج 28 ) وهذا يتناول هدي التمتع والقران قطعا إن لم يختص به فإن المشروع هناك ذبح هدي المتعة والقران ومن هاهنا والله أعلم أمر النبي من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر امتثالا لأمر ربه بالأكل ليعم به جميع هديه الوجه الثالث أن سبب الجبران محظور في الأصل فلا يجوز الإقدام عليه إلا لعذر فإنه إما ترك واجب أو فعل محظور والتمتع مأمور به إما أمر إيجاب عند طائفة كابن عباس وغيره أو أمر استحباب عند الأكثرين فلو كان دمه دم جبران لم يجز الإقدام على سببه بغير عذر فبطل قولهم إنه دم جبران وعلم أنه دم نسك وهذا وسع الله به على عباده وأباح لهم بسببه التحلل في أثناء الإحرام لما في استمرار الإحرام عليهم من المشقة فهو بمنزلة القصر والفطر في السفر وبمنزلة المسح على الخفين وكان من هدي النبي وهدي أصحابه فعل هذا وهذا والله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته فمحبته لأخذ العبد بما يسره عليه وسهله له مثل كراهته منه لارتكاب ما حرمه عليه ومنعه منه والهدي وإن كان بدلا عن ترفهه بسقوط أحد السفرين فهو أفضل لمن قدم في أشهر الحج من أن يأتي بحج مفرد ويعتمر عقيبه والبدل قد يكون واجبا كالجمعة عند من جعلها بدلا وكالتيمم للعاجز عن استعمال الماء فإنه واجب عليه وهو بدل فإذا كان البدل قد يكون واجبا فكونه مستحبا أولى بالجواز وتخلل التحلل لا يمنع أن يكون الجميع عبادة واحدة كطواف الإفاضة فإنه ركن بالاتفاق ولا يفعل إلا بعد التحلل الأول وكذلك رمي الجمار أيام مني وهو يفعل بعد الحل التام وصوم رمضان يتخلله الفطر في لياليه ولا يمنع ذلك أن يكون عبادة واحدة ولهذا قال مالك وغيره إنه يجزىء بنية واحدة للشهر كله لأنه عبادة واحدة والله أعلم
فصل
وأما قولكم إذا لم يجز إدخال العمرة على الحج فلأن لا يجوز فسخه إليها أولى وأحرى فنسمع جعجعة ولا نرى طحنا وما وجه التلازم بين الأمرين وما الدليل على هذه الدعوى التي ليس بأيديكم برهان عليها تم القائل بهذا إن كان من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله فهو غير معترف بفساد هذا القياس وإن كان من غيرهم طولب بصحة قياسه فلا يجد إليه سبيلا ثم يقال مدخل العمرة قد نقص مما كان التزمه فإنه كان يطوف طوافا للحج ثم طوافا آخر للعمرة فاذا قرن كفاه طواف واحد وسعي واحد بالسنة الصحيحة وهو قول الجمهور وقد نقص مما كان يلتزمه وأما الفاسخ فإنه لم ينقص مما التزمه بل نقل نسكه إلى ما هو أكمل منه وأفضل وأكثر واجبات فبطل القياس على كل تقدير ولله الحمد
فصل
عدنا إلى سياق حجته ثم نهض إلى أن نزل بذي طوى وهي المعروفة الآن بآبار الزاهر فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة وصلى بها الصبح ثم اغتسل من يومه ونهض إلى مكة فدخلها نهارا من أعلاها من الثنية العليا التي تشرف على الحجون وكان في العمرة يدخل من أسفلها وفي الحج دخل من أعلاها وخرج من أسفلها ثم سار حتى دخل المسجد وذلك ضحى وذكر الطبراني أنه دخله من باب بني عبد مناف الذي يسميه الناس اليوم باب بني شيبة وذكر الامام أحمد أنه كان إذا دخل مكانا من دار يعلى استقبل البيت فدعا وذكر الطبراني أنه كان إذا نظر إلى البيت قال اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وروي عنه أنه كان عند رؤيته يرفع يديه ويكبر ويقول اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من حجة أو اعتمره تكريما وتشريفا وتعظيما وبرا وهو مرسل ولكن سمع هذا سعيد بن المسيب من عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوله فلما دخل المسجد عمد إلى البيت ولم يركع تحية المسجد فإن تحية المسجد الحرام الطواف فلما حاذى الحجر الأسود استلمه ولم يزاحم عليه ولم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني ولم يرفع يديه ولم يقل نويت بطوافي هذا الأسبوع كذا وكذا ولا افتتحه بالتكبير كما يفعله من لا علم عنده بل هو من البدع المنكرات ولا حاذى الحجر الأسود بجميع بدنه ثم انفتل عنه وجعله على شقه بل استقبله واستلمه ثم أخذ عن يمينه وجعل البيت عن يساره ولم يدع عند الباب بدعاء ولا تحت الميزاب ولا عند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقت للطواف ذكرا معينا لا بفعله ولا بتعليمه بل حفظ عنه بين الركنين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ورمل في طوافه هذا الثلاثة الأشواط الأول وكان يسرع في مشيه ويقارب بين خطاه واضطبع بردائه فجعل طرفيه على أحد كتفيه وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه وكلما حاذى الحجر الأسود أشار إليه أو استلمه بمحجنه وقبل المحجن والمحجن عصا محنية الرأس وثبت عنه أنه استلم الركن اليماني ولم يثبت عنه أنه قبله ولا قبل يده عند استلامه
وقد روى الدارقطني عن ابن عباس كان رسول الله يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه وفيه عبدالله بن مسلم بن هرمز قال الإمام أحمد صالح الحديث وضعفه غيره ولكن المراد بالركن اليماني هاهنا الحجر الأسود فإنه يسمى الركن اليماني ويقال له مع الركن الآخر اليمانيان ويقال له مع الركن الذي يلي الحجر من ناحية الباب العراقيان ويقال للركنين اللذين يليان الحجر الشاميان ويقال للركن اليماني والذي يلي الحجر من ظهر الكعبة الغربيان ولكن ثبت عنه أن قبل الحجر الأسود وثبت عنه أنه استلمه بيده فوضع يده عليه ثم قبلها وثبت عنه أنه استلمه بمحجن فهذه ثلاث صفات وروي عنه أيضا أنه وضع شفتيه عليه طويلا يبكي وذكر الطبراني عنه بإسناد جيد أنه كان إذا استلم الركن اليماني قال بسم الله والله أكبر
وكان كلما أتى على الحجر الأسود قال الله أكبر وذكر أبو داود الطيالسي وأبو عاصم النبيل عن جعفر بن عبدالله ابن عثمان قال رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه ثم قال رأيت ابن عباس يقبله ويسجد عليه وقال ابن عباس رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه ثم قال رأيت رسول الله فعل هكذا ففعلت وروى البيهقي عن ابن عباس أنه قبل الركن اليماني ثم سجد عليه ثم قبله ثم سجد عليه ثلاث مرات وذكر أيضا عنه قال رأيت النبي سجد على الحجر ولم يستلم ولم يمس من الأركان إلا اليمانيين فقط قال الشافعي رحمه الله ولم يدع أحد استلامهما هجرة لبيت الله ولكن استلم ما استلم رسول الله وأمسك عما أمسك عنه
فصل
فلما فرغ من طوافه جاء إلى خلف المقام فقرأ ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ( البقرة 125 ) فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص وقراءته الآية المذكورة بيان منه لتفسير القرآن ومراد الله منه بفعله فلما فرغ من صلاته أقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم خرج إلى الصفا من الباب الذي يقابله فلما قرب منه قرأ ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) ( البقرة 159 ) أبدأ بما بدأ الله به وفي رواية النسائي ابدؤوا بصيغة الأمر ثم رقي عليه حتى رأى البيت وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده ثم دعا بين ذلك وقال مثل هذا ثلاث مرات وقام ابن مسعود على الصدع وهو الشق الذي في الصفا فقيل له هاهنا يا أبا عبد الرحمن قال هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة ذكره البيهقي ثم نزل إلى المروة يمشي فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا جاوز الوادي وأصعد مشى هذا الذي صح عنه ذلك اليوم قبل الميلين الأخضرين في أول المسعى وآخره والظاهر أن الوادي لم يتغير عن وضعه هكذا قال جابر عنه في صحيح مسلم وظاهر هذا أنه كان ماشيا وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول طاف النبي في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس قد غشوة وروى مسلم عن أبي الزبير عن جابر لم يطف رسول الله ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول قال ابن حزم لا تعارض بينهما لأن الراكب إذا انصب به بعيره فقد انصب كله وانصبت قدماه أيضا مع سائر جسده وعندي في الجمع بينهما وجه آخر أحسن من هذا وهو أنه سعى ماشيا أولا ثم أتم سعيه راكبا وقد جاء ذلك مصرحا به ففي صحيح مسلم عن أبي الطفيل قال قلت لابن عباس أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا أسنة هو فإن قومك يزعمون أنه سنة قال صدقوا وكذبوا قال قلت ما قولك صدقوا وكذبوا قال إن رسول الله كثر عليه الناس يقولون هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت وكان قال رسول الله لا يضرب الناس بين يديه قال فلما كثر عليه ركب والمشي والسعي أفضل
فصل
وأما طوافه بالبيت عند قدومه فاختلف فيه هل كان على قدميه أو كان راكبا ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت طاف النبي في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس وفي سنن أبي داود عن ابن عباس قال قدم النبي مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته كلما أتى على الركن استلمه بمحجن فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين قال أبو الطفيل رأيت النبي يطوف حول البيت على بعيره يستلم الحجر بمحجنه ثم يقبله رواه مسلم دون ذكر البعير وهو عند البيهقي بإسناد مسلم بذكر البعير وهذا والله أعلم في طواف الإفاضة لا في طواف القدوم فإن جابرا حكى عنه الرمل في الثلاثة الأول وذلك لا يكون إلا مع المشي قال الشافعي رحمه الله أما سبعة الذي طافه لمقدمه فعلى قدميه لأن جابرا حكى عنه فيه أنه رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة فلا يجوز أن يكون جابر يحكي عنه الطواف ماشيا وراكبا في سبع واحد وقد حفظ أن سبعه الذي ركب فيه في طوافه يوم النحر ثم ذكر الشافعي عن ابن عيينة عن ابن طاووس عن أبيه أن رسول الله أمر أصحابه أن يهجروا بالإفاضة وأفاض في نسائه ليلا على راحلته يستلم الركن بمحجنه أحسبه قال فيقبل طرف المحجن قلت هذا مع أنه مرسل فهو خلاف ما رواه جابر عنه في الصحيح أنه طاف طواف الإفاضة يوم النحر نهارا وكذلك روت عائشة وابن عمر كما سيأتي وقول ابن عباس إن النبي قدم مكة وهو يتشتكى فطاف على راحلته كلما أتى الركن استلمه هذا إن كان محفوظا فهو في إحدى عمره وإلا فقد صح عنه الرمل في الثلاثة الأول من طواف القدوم إلا أن يقول كما قال ابن حزم في السعي إنه رمل على بعيره فإن من رمل على بعيره فقد رمل لكن ليس في شيء من الأحاديث أنه كان راكبا في طواف القدوم والله أعلم
فصل
وقال ابن حزم وطاف بين الصفا والمروة أيضا سبعا راكبا على بعيره يخب ثلاثا ويمشي أربعا وهذا من أوهامه وغلطه رحمه الله فإن أحدا لم يقل هذا قط غيره ولا رواه أحد عن النبي البتة وهذا إنما هو في الطواف بالبيت فغلط أبو محمد ونقله إلى الطواف بين الصفا والمروة وأعجب من ذلك استدلاله عليه بما رواه من طريق البخاري عن ابن عمر أن النبي طاف حين قدم مكة واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف ومشى أربعا فركع حين قضى طوافه بالبيت وصلى عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أشواط وذكر باقي الحديث قال ولم نجد عدد الرمل بين الصفا والمروة منصوصا ولكنه متفق عليه هذا لفظه قلت المتفق عليه السعي في بطن الوادي في الأشواط كلها وأما الرمل في الثلاثة الأول خاصة فلم يقله ولا نقله فيما نعلم غيره وسألت شيخنا عنه فقال هذا من أغلاطه وهو لم يحج رحمه الله تعالى ويشبه هذا الغلط غلط من قال إنه سعى أربع عشرة مرة وكان يحتسب بذهابه ورجوعه مرة واحدة وهذا غلط عليه لم ينقله عند أحد ولا قاله أحد من الأئمة الذين اشتهرت أقوالهم وإن ذهب إليه بعض المتأخرين من المنتسبين إلى الأئمة ومما يبين بطلان هذا القول أنه لا خلاف عنه أنه ختم سعيه بالمروة ولو كان الذهاب والرجوع مرة واحدة لكان ختمه إنما يقع على الصفا وكان إذا وصل إلى المروة رقي عليها واستقبل البيت وكبر الله وحده وفعل كما فعل على الصفا فلما أكمل سعيه عنه المروة أمر كل من لا هدي معه أن يحل حتما ولا بد قارنا كان أو مفردا وأمرهم أن يحلوا الحل كله من وطء النساء والطيب ولبس المخيط وأن يبقوا كذلك إلى يوم التروية ولم يحل هو من أجل هديه وهناك
قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وقد روي أنه أحل هو أيضا وهو غلط قطعا قد بيناه فيما تقد وهناك دعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثا وللمقصرين مرة وهناك سأله سراقة بن مالك بن جعشم عقيب أمره لهم بالفسخ والإحلال هل ذلك لعامهم خاصة أم للأبد فقال بل للأبد ولم يحل أبو بكر ولا عمر ولا علي ولا طلحة ولا الزبير من أجل الهدي وأما نساؤه فأحللن وكن قارنات إلا عائشة فإنها لم تحل من أجل تعذر الحل عليها لحيضها وفاطمة حلت لأنها لم يكن معها هدي وعلي رضي الله عنه لم يحل من أجل هديه وأمر من أهل بإهلال كإهلاله أن يقيم على إحرامه إن كان معه هدي وأن يحل إن لم يكن معه هدي وكان يصلي مدة مقامه بمكة إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين بظاهر مكة فأقام بظاهر مكة أربعة أيام يقصر الصلاة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء فلما كان يوم الخميس ضحى توجه بمن معه من المسلمين إلى منى فأحرم بالحج من كان أحل منهم من رحالهم ولم يدخلوا إلى المسجد فأحرموا منه بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم فلما وصل إلى منى نزل بها وصلى بها الظهر والعصر وبات بها وكان ليلة الجمعة فلما طلعت الشمس سار منها إلى عرفة وأخذ على طريق ضب على يمين طريق الناس اليوم وكان من أصحابه الملبي ومنهم المكبر وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء فوجد القبة قد ضربت له بنمرة بأمره وهي قرية شرقي عرفات وهي خراب اليوم فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عرنة فخطب الناس وهو على راحلته خطبة عظيمة قرر فيها قواعد الإسلام وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها وهي الدماء والأموال والأعراض ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه ووضع فيها ربا الجاهلية كله وأبطله وأوصاهم بالنساء خيرا وذكر الحق الذي لهن والذي عليهن وأن الواجب لن الرزق والكسوة بالمعروف ولم يقدر ذلك بتقدير وأباح للأزواج ضربهن إذا أدخلن إلى بيوتهن من يكرهه أزواجهن وأوصى الأمة فيها بالاعتصام بكتاب الله وأخبر أنهم لم يضلوا ما داموا معتصمين به ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه واستنطقهم بماذا يقولون وبماذا يشهدون فقالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فرفع أصبعه إلى السماء واستشهد الله عليهم ثلاث مرات وأمرهم أن يبلغ شاهدهم غائبهم
قال ابن حزم وأرسلت إليه أم الفضل بنت الحارث الهلالية وهي أم عبد الله بن عباس بقدح لبن فشربه أمام الناس وهو على بعيره فلما أتم الخطبة أمر بلالا فأقام الصلاة وهذا من وهمه رحمه الله فإن قصة شربه اللبن إنما كانت بعد هذا حين سار إلى عرفة ووقف بها هكذا جاء في الصحيحين مصرحا به عن ميمونة أن الناس شكوا في صيام النبي يوم عرفة فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون وفي لفظ وهو واقف بعرفة وموضع خطبته لم يكن من الموقف فإنه خطب بعرنة وليست من الموقف وهو نزل بنمرة وخطب بعرنة ووقف بعرفة وخطب خطبة واحدة ولم تكن خطبتين جلس بينهما فلما أتمها أمر بلالا فأذن ثم أقام الصلاة فصلى الظهر ركعتين أسر فيهما بالقراءة وكان يوم الجمعة فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة ثم أقام فصلى العصر ركعتين أيضا ومعه أهل مكة وصلوا بصلاته قصرا وجمعا بلا ريب ولم يأمرهم بالإتمام ولا بترك الجمع ومن قال إنه قال لهم أتموا صلاتكم فإنا قوم صسر فقد غلط فيه غلطا بينا ووهم وهما قبيحا وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة حيث كانوا في ديارهم مقيمين ولهذا كان أصح أقوال العلماء أن أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة كما فعلوا مع النبي وفي هذا أوضح دليل على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافة معلومة ولا بأيام معلومة ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة البتة وإنما التأثير لما جعله الله سببا وهو السفر هذا مقتضى السنة ولا وجه لما ذهب إليه المحددون فلما فرغ من صلاته ركب حتى أتى الموقف فوقف في ذيل الجبل عند الصخرات واستقبل القبلة وجعل حبل المشاة بين يديه وكان على بعيره فأخذ في الدعاء والتضرع والابتهال إلى غروب الشمس وأمر الناس أن يرفعوا عن بطن عرنة وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك بل قال وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم ويقفوا بها فإنها من إرث أبيهم إبراهيم وهنالك أقبل ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج فقال الحج عرفة من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع تم حجة أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه
وكان في دعائه رافعا يديه إلى صدره كاستطعام المسكين وأخبرهم أن خير الدعاء دعاء يوم عرفة وذكر من دعائه في الموقف اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيرا مما نقول اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك مآبي ولك ربي تراثي اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح ذكره الترمذي ومما ذكر من دعائه هناك اللهم تسمع كلامي وترى مكاني وتعلم سري وعلانيتي لا يخفي عليك شيء من أمري أنا البائس الفقير المستغيث المستجير والوجل المشفق المقر المعترف بذنوبي أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير من خضعت لك رقبته وفاضت لك عيناه وذل جسده ورغم أنفه لك اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا وكن بي رؤوفا رحيما يا خير المسؤولين ويا خير المعطين ذكره الطبراني وذكر الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان أكثر دعاء النبي يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير وذكر البيهقي من حديث علي رضي الله عنه أنه
قال أكثر دعائي ودعاء الأنبياء من قبلي بعرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم اجعل في قلبي نورا وفي صدري نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأعوذ بك من وسواس الصدر وشتات الأمر وفتنة القبر اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل وشر ما يلج من النهار وشر ما تهب به الرياح وشر بوائق الدهر وأسانيد هذه الأدعية فيها لين وهناك أنزلت علــيه ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ( المائدة 3 ) وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرم فمات فأمر رسول الله أن يكفن في ثوبيه ولا يمس بطيب وأن يغسل بماء وسدر ولا يغطى رأسه ولا وجهه وأخبر أن الله تعالى يبعثه يوم القيامة يلبي وفي هذه القصة اثنا عشر حكما الأول وجوب غسل الميت لأمر رسول الله به الحكم الثاني أنه لا ينجس الموت لأنه لو نجس بالموت لم يزده غسله إلا نجاسة لأن نجاسة الموت للحيوان عينية فإن ساعد المنجسون على أنه يطهر بالغسل بطل أن يكون نجسا بالموت وإن قالوا لا يطهر لم يزد الغسل أكفانه وثيابه وغاسله إلا نجاسة الحكم الثالث أن المشروع في حق الميت أن يغسل بماء وسدر لا يقتصر به على الماء وحده قد أمر النبي بالسدر في ثلاثة مواضع هذا أحدها والثاني في غسل ابنته بالماء والسدر والثالث في غسل الحائض وفي وجوب السدر في حق الحائض قولان في مذهب أحمد الحكم الرابع أن تغير الماء بالطاهرات لا يسلبه طهوريته كما هو مذهب الجمهور وهو أنص الروايتين عن أحمد وإن كان المتأخرون من أصحابه على خلافها ولم يأمر بغسله بعد ذلك بماء قراح بل أمر في غسل ابنته أن يجعلن في الغسلة الأخيرة شيئا من الكافور ولو سلبه الطهورية لنهى عنه وليس القصد مجرد اكتساب الماء من رائحته حتى يكون تغير مجاورة بل هو تطييب البدن وتصليبه وتقويته وهذا إنما يحصل بكافور مخالط لا مجاور
الحكم الخامس إباحة الغسل للمحرم وقد تناظر في هذا عبد الله ابن عباس والمسور بن مخرمة ففصل بينهما أبو أيوب الأنصاري بأن رسول الله اغتسل وهو محرم واتفقوا على أنه يغتسل من الجنابة ولكن كره مالك رحمه الله أن يغيب رأسه في الماء لأنه نوع ستر له والصحيح أنه لا بأس به فقد فعله عمر بن الخطاب وابن عباس الحكم السادس أن المحرم غير ممنوع من الماء السدر وقد اختلف في ذلك فأباحه الشافعي وأحمد في أظهر الروايتين عنه ومنع منه مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية ابنه صالح عنه قال فإن فعل أهدى وقال صاحبا أبي حنيفة إن فعل فعليه صدقة وللمانعين ثلاث علل إحداها أنه يقتل الهوام من رأسه وهو ممنوع من التفلي الثانية أنه ترفه وإزالة شعث ينافي الإحرام الثالثة أنه يستلذ رائحته فأشبه الطيب ولا سيما الخطمي والعلل الثلاث واهية جدا والصواب جوازه للنص ولم يحرم الله ورسوله على المحرم إزالة الشعث بالاغتسال ولا قتل القمل وليس السدر من الطيب في شيء الحكم السابع أن الكفن مقدم على الميراث وعلى الدين لأن رسول الله أمر أن يكفن في ثوبيه ولم يسأل عن وارثه ولا عن دين عليه ولو اختلف الحال لسأل وكما أن كسوته في الحياة مقدمة على قضاء دينه فكذلك بعد الممات هذا كلام الجمهور وفيه خلاف شاذ لا يعول عليه الحكم الثامن جواز الاقتصار في الكفن على ثوبين وهما إزار ورداء وهذا قول الجمهور
وقال القاضي أبو يعلى لا يجوز أقل من ثلاثة أثواب عند القدرة لأنه لو جاز الاقتصار على ثوبين لم يجز التكفين بالثلاثة لمن له أيتام والصحيح خلاف قوله وما ذكره ينقض بالخشن مع الرفيع الحكم التاسع أن المحرم ممنوع من الطيب لأن النبي نهى أن يمس طيبا مع شهادته له أنه يبعث ملبيا وهذا هو الأصل في منع المحرم من الطيب وفي الصحيحين من حديث ابن عمر لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه ورس أو زعفران وأمر الذي أحرم في جبة بعد ما تضمخ بالخلوق أن تنزع عنه الجبة ويغسل عنه أثر الخلوق فعلى هذه الأحاديث الثلاثة مدار منع المحرم من الطيب وأصرحها هذه القصة فإن النهي في الحديثين الأخيرين إنما هو عن نوع خاص من الطيب لا سيما الخلوق فإن النهي عنه عام في الإحرام وغيره وإذا كان النبي قد نهى أن يقرب طيبا أو يمس به تناول ذلك الرأس والبدن والثياب وأما شمه من غير مس فإنما حرمه من حرمه بالقياس وإلا فلفظ النهي لا يتناوله بصريحه ولا إجماع معلوم فيه يجب المصير إليه ولكن تحريمه من باب تحريم الوسائل فإن شمه يدعو إلى ملامسته في البدن والثياب كما يحرم النظر إلى الأجنبية لأنه وسيلة إلى غيره وما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة أو المصلحة الراجحة كما يباح النظر إلى الأمة المستامة والمخطوبة ومن شهد عليها أو يعاملها أو يطبها وعلى هذا فإنما يمنع المحرم من قصد شم الطيب للترفة واللذة فأما إذا وصلت الرائحة إلى أنفه من غير قصد منه أو شمة قصدا لاستعلامه عند شرائه لم يمنع منه ولم يجب عليه سد أنفه فالأول بمنزلة نظر الفجأة والثاني بمنزلة نظر المستام والخاطب ومما يوضح هذا أن الذين أباحوا للمحرم استدامة الطيب قبل الإحرام منهم من صرح بإباحة تعمد شمه بعد الإحرام صرح بذلك أصحاب أبي حنيفة فقالوا في جوامع الفقه لأبي يوسف لا بأس بأن يشم طيبا تطيب به قبل إحرامه
قال صاحب المفيد إن الطيب يتصل به فيصير تبعا له ليدفع به أذى التعب بعد إحرامه فيصير كالسحور في حق الصائم يدفع به أذى الجوع والعطش في الصوم بخلاف الثوب فإنه بائن عنه وقد اختلف الفقهاء هل هو ممنوع من ا