الحمد لله الذي خصنا بشهر الطاعات، وأجزل لنا فيه المثوبة ورفع الدرجات، وَعَدَ من صامه إيمانًا واحتسابًا بتكفير الذنوب والسيئات، وشرّف أوقاته على سائر الأوقات، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير البريات، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد، وبعد:
من أجلّ معاني شهر رمضان؛ التجرد والاستجابة والاستسلام للعزيز الديان، فكما أننا نسارع للإمساك عن أشياء مباحة بالأصل، لأن الله حرمها علينا لفترة محددة في هذا الشهر، وأيضًا فإن نظام الحياة والعادات اليومية تتغير وتتبدل في هذا الشهر؛ من حيث أوقات الطعام والنوم وتنوع العبادات.
الله سبحانه وتعالى غني عن تجويعنا لعدة ساعات! لكن لو تأملنا لوجدنا فوائد جمة وحكم عديدة ومنافع كثيرة، فإذا ما استشعرنا هذه الحقيقة وفقهنا مراد الله من هذا التغيير في عدة جوانب إيمانية تعبدية وحياتية صحية معنوية وحسية، وأحسنا الاستجابة والخضوع والاستسلام لتلك الأوامر في فترة محددة؛ سيسهل علينا المداومة والاستمرار لاتباع ما أمر الله ورسوله في أحكام أخرى وأوقات مستمرة فتأمل.
شهر رمضان معسكر تدريبي ومدرسة تأهيلية، تعين العبد على إتقان الاستسلام والإحسان في الطاعة والعبادة، وأن لا تخضع قلوبنا وأنفسنا وأبداننا، لعادات وتقاليد وأهواء وقوانين دنيوية وأحوال طارئة ومؤثرات مخالفة لشرع الله، فالصوم الحقيقي هو صوم الروح والقلب والعقل والجوارح وانقيادها لله عز وجل دون حرج أو ملل أو كلل أو تلكؤ.
يقول ابن الجوزي: "وَالصَّوْم ثَلَاثَة: صَوْم الرّوح وَهُوَ قصر الأمل، وَصَوْم الْعقل وَهُوَ مُخَالفَة الْهوى، وَصَوْم الْجَوَارِح وَهُوَ الْإِمْسَاك عَن الطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع" (بستان الواعظين ورياض السامعين).
نحن بحاجة لأن تصوم جوارحنا عن المحرمات وليس فقط بطوننا عن المأكولات والمشروبات! يقول ابن الجوزي: "مَا من جارحة فِي بدن الْإِنْسَان إِلَّا وَيلْزمهُ الصَّوْم فِي رَمَضَان وَفِي غير رَمَضَان، فصوم اللِّسَان ترك الْكَلَام إِلَّا فِي ذكر الله تَعَالَى، وَصَوْم السّمع ترك الإصغاء إِلَى الْبَاطِل وَإِلَى مَا لَا يحل سَمَاعه، وَصِيَام الْعَينَيْنِ ترك النّظر والغض عَن محارم الله تَعَالَى" (بستان الواعظين).
وذم أعرابي قومًا فقال: طيصومون عن المعروف، ويفطرون على الفواحش"!
في إشارة لعدم استفادتهم من هذا الشهر الاستفادة المطلوبة، وترك الاستجابة والخضوع لعلام الغيوب.
يقول ربنا سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، "يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة لله وللرسول، أي: الانقياد لما أمرًا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه" (السعدي).
فالاستجابة حياة القلوب والأبدان دومًا وبالأخص في زمن ماتت فيه القلوب، وارتضى الناس الانغماس بالشهوات والملذات والتمتع بالدنيا الفانية ولسان حالهم (أنها دار الخلود)!، حتى أصبح الهم الأكبر والغاية العظمى، المأكل والمشرب والملبس والمركب، مع ضعف الوازع الإيماني ومقياس الحلال والحرام.
من معاني الاستسلام وسرعة الاستجابة، الدقة والانضباط في امتثال أوامر الله دون زيادة أو نقصان، فعندما يربط دخول الشهر برؤية الهلال، ونبدأ بعزم النية من الليل لصيام النهار، وفق آية كونية واضحة وبرهان جلي للإيذان بالإمساك وهو الفجر الصادق، ثم نفطر عند غروب الشمس وغياب القرص.
دقة متناهية وتفصيل دقيق عجيب، يلزمنا منه الانضباط والخضوع بما شرع الله لنا، من أحكام الصيام في هذا الشهر، ومن سائر الأحكام في بقية الشهور دون إضافة أو زيادة أو ابتداع واجتهاد غير مسوغ!
تغيير نظام الحياة في رمضان، مع استحضار نية الاستسلام والاستجابة، من علامات الإيمان ودلالات الخضوع للرحمن، دون اعتراض أو بحث بشكل تفصيلي بالحِكَم من جراء ذلك.
إن اغتنام الفرصة في هذا الشهر، لتأهيل النفس وتطويعها وتهيئة القلب وخضوعه، وجاهزية الجوارح لامتثال أوامر الله بفعل الطاعات وترك المنهيات؛ ثمرة عظيمة وأثر كبير من آثار حسن الاستسلام وطيب الاستجابة، لتكون دافع قوي ومحفز كبير لديمومة هذه المنافع والفوائد.
كم نحن بحاجة لأن نخضع ونستسلم لتعاليم ديننا، ونستثمر نفحات هذا الشهر، في زمن تعيش فيه الأمة حالة من التيه المعنوي، والتخبط والضعف والانهزام والهوان، وربنا سبحانه وتعالى يقول: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]، "أي: خُذ بالقرآن المُنَزَّل على قلبك، فإنه هو الحق، وما يَهدي إليه هو الحق المُفضي إلى صراط الله المستقيم، المُوصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المُقيم" (ابن كثير).
ويقول سبحانه: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، "أي: شرفكم وفخركم وارتفاعكم، إن تذكرتم به ما فيه من الأخبار الصادقة فاعتقدتموها، وامتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من النواهي، ارتفع قدركم، وعظم أمركم." (السعدي).
فلو حققنا هذه الثمرة في هذا الشهر، نكون قد وفقنا لتحقيق المعنى الشمولي للإسلام، وهو الاستسلام والإذعان والانقياد لأمر الله تعالى، بالذل والحب والطاعة لله والرغبة والرهبة.
ولو استعرضنا بعض الصور المشرقة والنماذج العجيبة، من سير سلفنا الصالح من الصحابة وأتباعهم، في سرعة الاستجابة والاستسلام لدين الله، دون تردد أو تأويل؛ لرأينا العجب العجاب، نذكر منها:
قصة الخاتم من الذهب:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا في يد رجل فنزعه فطرَحه، وقال: «يعمِدُ أحدُكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعلُها في يدِه»، فقيل للرجل بعدما ذهَب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفِع به، قال: لا والله، لا آخُذه أبدًا؛ قد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم (صحيح مسلم [2090]).
أبو مسعود البدري يضرب غلامًا:
عن أبي مسعود البدري قال: كنتُ أَضرِب غلامًا لي بالسوط، فسمعتُ صوتًا مِن خلفي: «اعلمْ، أبا مسعودٍ»، فلم أفهم الصوت مِن الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: «اعلمْ، أبا مسعودٍ، اعلم، أبا مسعودٍ» قال: فألقيتُ السَّوط من يدي، فقال: «اعلمْ، أبا مسعودٍ! أنَّ اللهَ أقدرُ عليك منك على هذا الغلامِ»، قال: فقلت: لا أَضرِب مملوكًا بعده أبدًا (صحيح مسلم [1659]).
الشجاعة في الاستجابة:
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفًا يوم أُحد فقال: «مَن يأخذ مني هذا؟» فبَسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا أنا، قال: «فمَن يَأخُذه بحقِّه؟» فأحجَم القوم، فقال سِماك بن خرَشة أبو دُجانة: "أنا آخُذه بحقِّه"، قال: فأخَذه ففلَق به هام المشركين (صحيح مسلم [2470]).
سرعة الاستجابة في المألوفات:
عن أنس رضي الله عنه قال: "كنتُ أسقي أبا عُبيدة وأبا طَلحة وأُبيَّ بن كعب مِن فَضيخ زهر وتمْر، فجاءهم آتٍ فقال: إن الخمر قد حُرِّمتْ، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأَهرِقها، فأهرَقتُها" (صحيح البخاري [5582]).
الاستجابة بالجلوس:
عن أبي ثعلبة الخُشَني قال: كان الناس إذا نزَلوا مَنزلاً تفرَّقوا في الشِّعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ تَفرُّقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم مِن الشيطان»، فلم يَنزل بعد ذلك مَنزلاً إلا انضمَّ بعضهم إلى بعض، حتى يُقال: لو بُسط عليهم ثوب لعمَّهم. (صحيح أبي داود [2628]).
اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا.