الحمد لله الذي خصنا بشهر الطاعات، وأجزل لنا فيه المثوبة ورفع الدرجات، وَعَدَ من صامه إيمانا واحتسابا بتكفير الذنوب والسيئات، وشرّف أوقاته على سائر الأوقات، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير البريات، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات،والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد، وبعد:
لهذا الشهر العظيم ثمار عديدة ومزايا فريدة؛ من ذلك أنه يعينك على دوام الطاعة والإيمان والاستقامة، فأن تستمر ثلاثين يوما على عبادات وأعمال صالحة متنوعة، يوطن نفسك ويثبت قلبك ويسدد جوارجك، لأن تكون هذه صفات راسخة وملكة دائمة بعد رمضان.
شهر رمضان شهر استقامة وإيمان وثبات على دين الله، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:158]، ففيه هداية وتسديد وإذعان، فيزيد الإيمان وتتنوع عبادات القلب والأركان، من التقوى والصبر والذكر والدعاء والصدقة وتلاوة القرآن، فهنا هداية مضاعفة؛ هداية القرآن وهداية شهر رمضان فتأمل.
عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قال: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، فَاسْتَقِمْ» (صحيح مسلم).
ماذا نريد من هذا الشهر الكريم؟ أن تُعتق رقابنا من النار، ولله في كل يوم وليلة عتقاء، وأن تكفر عنا السيئات، فمن دخل عليه هذا الشهر ثم مات ولم يغفر له أبعده الله! ودخول الجنان، فللصائم باب الريان في الجنة.
من ثمار شهر رمضان تكفير السيئات ودخول الجنان، وهذا لا يتحقق إلا بالاستقامة على أوامر العزيز الرحمن، كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ؛ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ؛ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}[فصلت:30-32]، فقال: لم يروغوا روغان الثعلب.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] قال: استقاموا على أداء فرائضه.
وعن أبي العالية، قال: ثم أخلصوا له الدين والعمل.
وعن قتادة قال: استقاموا على طاعة الله، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة؛ (جامع العلوم والحكم).
والاستقامة كما يعرفها ابن حجر: "الاستقامة كناية عن التّمسّك بأمر اللّه تعالى فعلا وتركا".
والاستقامة: هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها؛ (جامع العلوم والحكم).
وحقيقة الاستقامة السداد والهداية والتوفيق لما فيه مرضاة الله، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد، وقال عليه الصلاة والسلام: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا»(رواه مسلم).
وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان، فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه؛ (جامع العلوم والحكم).
ويقول عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الحسن من حديث أبي سعيد الخدري: «إذا أصبح ابنُ آدمَ فإنَّ الأعضاءَ كلَّها تُكفِّرُ الِّلسانَ فتقول: اتَّقِ اللهَ فينا، فإنما نحن بك، فإن استقَمتَ استقَمْنا، وإن اعوَجَجْتَ اعْوجَجْنا»؛ (صحيح الجامع)، ما يشير إلى ديمومة العمل والاستمرار في الطاعة لما بعد رمضان.
فالاستقامة المطلوبة هي ثبات الإيمان وزيادته ودوام الطاعات والصالحات، والإيمان قول وعمل واعتقاد، وشهر رمضان فيه من تنوع العبادات وتباعد الملهيات والمغريات والصوارف ما يهيئ للصادق تجديد إيمانه وتقويته واستقامة العبد على ذلك.