مسك الختام
كان المرسلون الأولون مصابيح تضىء فى جوانب الليل الذى ألقى بظلامه وأرخى سدولة على أنحاء الدنيا .فلما بدأ فجر الإسلام ينشق عنه الظلام ؛ وبدأت أشعة الرسالة العامة تتهادى فى الأفق انتقل من عهد إلى عهد :
لاتذكروا الكتب الـسوالـف قبلـه *** طـلع الصبـاح فـأطـفــأ القـنديلا
والكلام عن عظمة الشخصية التى حملت عبء الرسالة يطول ؛ وحسبنا أن الله عز وجل جمع فى خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم من شارات السيادة والنبالة ما تفرق فى النبيين من قبل ؛ ففى سورة الانعام ذكر الله تعالى أسماء ثمانية عشر نبياً فيهم أولوا العزم وأصحاب الرسالات الأولى ؛ ثم قال :( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) )
فان خصال الكمال التى توزعت فى الانبياء أطرافها قد تجمعت فى شخصه الكريم . كان نوح صاحب احتمال وجلد وصبر على الدعوة . وكان ابراهيم صاحب بذل وكرم ومجاهدة فى الله . وكان داوود من أصحاب الشكر والنعمة وتقدير ألاء الله . وكـان زكـريا ؛ ويحـيى ؛ وعيسـى ؛ من أصحاب الزهادة فى الدنيا والاستعلاء والبعد عن الشهوات . وكان يوسف ممن جمع بين الشكر فى السراء ؛ والصبر فى الضراء . وكان يونس صاحب تضرع واخبات وابتهال . وكان موسى صاحب شجاعة وبأس وابتهال . وكان هارون ذا رفق . ثـم ننظـر إلى سيرة محمد صلى الله عليه وسلم بعد هذه السير السابقة فتراها كالبحر الخضم تصب الأنهار فيه :
فمبلغ العلم فيه انه بشر ***وأنه خير خلق الله كلهم
موئل البطولات
من ذوى المواهب من يعيشون فى عزلة قصية عن الجماهير ؛ ويؤثرون البقاء فى أبراجهم العاجية عما تستتبعه مخالطة الناس من سخط وتبرم . ومن الناس من يلقى بنفسه فى معترك الحياة ومعه عدة النجاح ؛ مع عمق النظرة وذكاء الفكرة ؛ والبصر الناقد الى أداء الشعوب وأدويتها . ومن العظماء من أوتى امتداداً فى شخصيته ؛ وبسطة فى مشاعره تجرف الناس اليه وتعلق القلوب به . ولسنا نقصد بهذا قوة السيطرة على العامة ؛ والقدرة على تحريكهم وتسخيرهم .. كلا .. انما نقصد هذا النوع من العظماء الذى يلتف به أصحاب الكافيات الكبيرة ؛ ويرمقونه بالاجلال ويقدمونه على أنفسهم عن طواعية واختيار . ولقد ظهر أفراد قلائل من زعماء الشعوب على هذا الغرار الفذ ؛ وتركوا فى تاريخهم أثراً لا يمحى . على أن الإنسانية لم تعرف في ماضيها الطويل – ولن تعـرف – رجـلاً وقره الأبطال وكـرمه العظمـاء ؛ وانطبعت محبتـه في شغـاف القلوب كمـا عـرف ذلك في النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم .فقد كان أصحاب الشجاعة والإقدام والبسالة فى القتال يحبونه لانه أشجع منهم حين تحمر الحدق ويشتد البأس .وكان أصحاب الحذق فى السياسة والتدبير يحبونه ؛ لانهم يرونه أكثر منهم مرونة وأرحب أفقاً . وكان الأجواد الاسخياء يحبونه ؛ ويرونه أجود منهم ؛ ويرونه وقد أمتلك وادياً من الابل والغنم ؛ فما غربت الشمس عليه إلا وهو منح وهدايا للطالبين والراغبين . وكان العباد يرونه صواماً قواماً . وكان الزهاد يرونه عفيفاً مترفعاً . وكان أصحاب البلاغة والبيان واللسان الفصيح يرونه أفصح منهم معرباً .
وهكذا ما عرف أحد من العظماء ميزه فى نفسه يفخر بها إلا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلق أعرق منها وأرقى . لذلك كان الجميع يرفعون اليه أبصارهم ؛ مثلما يرفع الناس أبصارهم إلى القمم الشواهق والجبال الرواسى .. ومع هذا الإجلال والتقدير الفارع ؛ وذلك الامتياز الرائع ؛ فقد كان هذا الرسول الامين قريباً بسهولة طبعه من كل فرد . فما يعزله مناله عن أرملة أو مسكين . بلغ من اتساع عواطفه وتدفق مشاعره ؛ أن كل فرد كان يحس فى نفسه أنه أثر الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وأقربهم اليه ؛ وأعزهم عليه . كالشمس ترسل أشعتها فيستمتع بها الجميع ؛ ويأخذ كل امرىء حظه منها من الدفء والحرارة والمتعة ؛ لا يحس بأن أحداً يشاركه فيها أو يزاحمه عليها .. كذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم مع صحابته ؛ يأوون اليه من نفسه الكبيرة إلى كنف رحيم .
الوصف بالعبقرية
يقولون أن النبوة هبة لا كسب ؛ وفضل يغدق ؛ لا نصيب يطالب به ؛ أو يسعى اليه ؛ واصطفاء من الله واختيار ؛ قال الله تعالى : " وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)" سورة القصص 68
( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) سورة الزخرف الاية 32
( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) سورة الطور 37 – 38
بيد أن هذا الخير لا ينزل اتفاقاً ؛ ولا يدرك اعتباطاً . وقد حاول شاعر فى الجاهلية – بكثرة الكلام فى الالهيات – أن يكون نبياً ففشل .. وتوقع نفر من الأحبار والرهبان أن يصيبوا هذا الشرف ؛ ففاتهم ؛ مع تشوقهم اليه ؛ ورغبتهم الشديدة فيه . ان الله - سبحانه وتعالى – يختار لهذا المنصب العظيم أهله ..! ومن ظن أن العصمة تمنع المحنة والابتلاء ؛ أو أن الرسل الكرام ليسوا أكثر من حملة وحى ؛ وان وظيفتهم مجرد التبليغ ؛ كأنهم مكبر صوت تنفخ من ورائه الملائكة ؛ وأنهم ليســوا لهم مواهب ؛ أو قــدرات خاصة ؛ وليس لديهم اسـتعداد خاص و امتيازات رفيعة .. من ظن ذلك فقد ضل ضلالاً بعيداً فى فهم المرسلين ؛ وجهل ما حباهم وأعطاهم الله من صفات ومميزات تجعل أعظم فلاسفة الأرض لا يصل الى مصاف أقدامهم ..! ان الكتاب الذين ألفوا وكتبوا فى سيرة النبى صلى الله عليه وسلم ووصفوة بالعبقرية ؛فان هذا الوصف يجب التعامل معه بحذر شديد ؛ فمن الممكن أن نقبله من جانب ؛ ونرفضه من جانب أخر ؛ يمكننا أن نقبل منهم هذا على حذر وبقدر ..! نقبله اذا كان القصد منه كشف النقاب عن معالم العظمة الشخصية والقاء الضوء على البطولات الأدبية لاؤلئك المصطفين الأخيار . ونقبله اذا كان القصد منه الاعتراف بمبدأ الوحى الذى يصل المادة بما وراء المادة ؛ وهذا هو أساس النبوة . لكن نرفضه اذا كانوا يقصدون به وصفاً لعظمة انسانية معتادة تسلك صاحبها مع غيره من رجال التاريخ البارزين .. ذلـك هــو موقـف المسـلم من جمهــرة المؤلفـين المؤرخـين ممـن كـتبوا فى حـياة النبـى الأمين صلى الله عليه وسلم .
الإيمان بالنبوات كلها
جعل الله – سبحانه وتعالى – التصديق برسله كلهم ركناً فى الدين وقرن اسماءهم بذاته المقدسة ؛ فأصبح الايمان بهم متمماً للايمان به .
( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) سورة البقرة الاية 285
والإيمان بمحمد رسول الله هو الشطر الثانى من شهادة الإسلام لا يصح الايمان الا به ؛ وانما كان للايمان بالنبوات هذه المنزلة ؛ لان معرفة الله على وجهها الصحيح وفهم ما يريد لعبادة ويطالبهم به انما يكون عن طريق أحدهم . والارتباط بالرسل ليس تعلقاً بأشخاصهم من الناحية البشرية البحتة ؛ بل هو ارتباط بالوحى الذى شرفوا به ؛ والأسوة التى تؤخذ منهم . ومن ثم يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " لايؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " ويقول الله تعالى :( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ) سورة الاعرف 6-7
وسريان الفسـاد إلى الديانتين الكبيرتين السابقتين على الإسلام ؛ اليهودية ؛ والنصرانية وما طرأ عليهما من تغيير ؛ ودخل كتبهما من تحريف ؛ جعل الاسلام هو الطريق الفذ للايمان السليم ؛ فمن كتاب محمد صلى الله عليه وسلم وحده ؛ ومن سنته وحدها يفضى الناس إلى الحق . والابواب الى الله فى عصرنا هذا ؛ مهما وقفت عليها اليهودية والنصرانية ؛ فلن تفتح مغاليقها ؛ أما فى الاسلام وباسم نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فستنفذ وراء النبى صلى الله عليه وسلم العابد ونهجه الخالد ؛ وقرآنه المحفوظ ؛ وسنته المصونه . من أجل ذلك كان الايمان بمحمد شرطاً لصحة الايمان بالله :
( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) ) سورة محمد
ولا تحسبن هذا غلو فى تزكية مخلوق ؛ أو اقتياتاً على حق الخالق ؛ أو تجنياً على أتباع الرسل الأولين . فان عيسى وموسى صلوات الله عليهما سارا الى الله على بصيرة وهم لايدرون ما فعل اشياعهم من بعدهم . ولو عادوا الينا احياءاً لكانوا أول من يبرأ من الكتب المدسوسة عليه ؛ وأول من يستمع لايات الذكر الحكيم ويبادر الى تنفيذ أحكامها ووصياها . ثم ان الله تعالى لما أضم برسله الى الايمان به ؛ جعل الكفر بواحد منهم كفراً به – جل شأنه – وبهم جميعاً :( أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) )سورة النساء الاية 151 - 152
خاتم النبيين
ومحمد خاتم المرسلين أكمل الله به صرح النبوات وأتم به حقيقة الرسالات : " ان مثلى ومثل الانبياء قبلى كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنه من زاوية من زوياه ؛ فجعل الناس يطوفون ويتعجبون له ؛ ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة ؛ فأنا اللبنة ؛ وأنا خاتم النبيين " على فترة من الرسل ؛ ضاعت فيها معالم الحق ؛ وضل البشر سواء السبيل ؛ بعث الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله :( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )سورة الصف الاية 9
( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً )سورة الفتح الاية 28
ففتح الله به للانسانية فتحاً جديداً ؛ عرفت على أضوائه الانسانية طريق الرشاد ؛ ودخلت الحياة مدخلهـا الصحيح ؛ فتحــررت من قيود الذل ؛ وحطمت أغــلال العبوديـة وتقدمت باسم الله وعلى بركة الله ؛ وتحت راية الاسلام ؛ تنشىء حضارة سامقة ؛ وتكتب تاريخاً عبق بأطيب الشذى . ومن كان فى ريب من ذلك ؛ فليس عليه إلا أن يتجرد من الهوى ؛ ويلزم الحياد ؛ ويتحرى قواعد العدل ؛ ليقرأ تاريخ ما قبل الاسلام وما بعده فى مشرق الأرض ومغاربها ؛ وسيجد بعد الجولا ت النزيهة أن دعوة الاسلام وليس سواها هى التى فتحت القلوب والأذان ؛ والعقول والأبصار ؛ وان كان كل ما نراه اليوم من حركات إصلاحية ؛ أو وثبات علمية ؛ فإنها قامت على قواعد الفكر الإسلامى . فإذا احتفل المسلمون اليوم بمولد الرسول أو رأس السنة الهجرية ؛ أو أى مناسبة يتخذوها قربة لله ؛ فليكن احتفالهم عوداً إلى المعين الذى لا ينضب ؛ يجددون العهد والميثاق أن يكونواْ حيث يرضى الله ؛ وتهدف إليه رسالة الإسلام ؛ استجابة صادقة واستلهاماً أميناً ؛ يفتح الله بهما الطريق الى العزة والكرامة ؛ ويهدى بهما الله إلى الصراط الذى لا يضل عليه المسار .
أستأذنك يا رسول الله ..
ما تفقدت البشرية فضيلة إنسانية نادرة إلا وجدتها نفحة من أدبك ؛ أو لمحة من خُلقك ؛ أو ومضة من نورك ؛ أو خطوة من سلوكك ؛ أو لفتة من هديك ؛ أو إشعاعاً من توجيهك ؛ أو عبرة من تاريخك ؛ أو قبساً كنت تبعث به لتعلم الناس فى اليالى الحالكة ؛ لتزيل السبل الملتوية ؛ وتعالج المعالم المغلوطة المشتتة ؛ وتزيل الاوقات الكالحة الحرجة ؛ وتحذف المحن الصارخة ؛ والظروف البغيضة ؛ والشدائد الكريهة ..
وسيظل هديك وتاريخك يا حبيبى - يارسول الله - خالداً خلود الأبد ؛ باقياً بقاء الدهر ؛ مدوياً دوى الاذان ؛مضيئاً كالصبح ؛ يتحدى الفناء ؛ ويصارع الاحداث ؛ ويغـالب الأيام ؛ ويكافح الزمن ؛ ويحـارب الطغيان ؛ ويُخضـع الجـبابرة ؛ ويقضــى على الفساد ؛ ويعلن المساوة ؛ وينادى بالحب ؛ ويتعقب الفساد ؛ ويشرع الاشتراكية ؛ ويقصم ببطشة ؛ ويعتز ببأسه ؛ ويقاتل بسيفه ؛ وينطلق بإذنه ؛ فيصونه من بغى المتسلطين ؛ وعدوان المفسدين ؛ والذى لا يتغافل عن الملحوظين بعنايته ؛ المشمولين بلطفه ؛ المحفوفين برضوانه ؛ المغمورين برحمته ؛ ولقد كنت المثل الأعلى الذى ترتقى إليه البشرية عند نموها ؛ وتتطلع له فى تقدمها ؛ وتحاول أن تحتذيه ؛ كلما ثاب اليها الرشد ؛ أو عاودها الحلم ؛ ويتعظ فيها العقل ؛ وتحرت أسباب الفقه والمعرفة ؛ والهمها ربها السداد والتوفيق .
والحديث فيك ياحبيبى يارسول الله حبيب الى النفس ؛ ينعشها ويسمو بها إلى عنان السماء ؛ فهو حديث خفيف على السمع ؛ لذيذ رجعه ؛ كأنه الموسيقى للقلوب الظامئة ؛ والأفئدة الملتاعة ؛ والجوانح الحر ؛ والأكباد المحترقة ؛ والأرواح المشتاقة ؛ لا ينهى له مدى ؛ ولا ينقطع له جرس ؛ ولا ينضب له معين ؛ ينشده الاديب فيجد في حديثك الحكمة الغالية ؛ والبلاغة الرائعة ؛ والأسلوب القوى ؛ والتصوير الدقيق ؛ والألفاظ الفخمة ؛ والمنطق الحلو ؛ والبيان العذب ؛ والوجدان الصادق ؛ والنمط الذى لا يصل اليه أساطين الكلام ؛ ودهاقين القول والكلم والبلاغة والفصاحة ؛ وجهابذة الحـديث ؛ وأساتذة الأدب . ويتصفحه المصلح الاجتماعى فلا يعثر إلا على هدى نافع ؛ ودستور قويم ؛ وتهذيب صحيح ؛ وتقويم واضح ؛ وتوجيه سديد .. ويؤمه بارعى السياسة والمحنكين ؛ فلا يخرجون إلا بدروس متقنه يتعلموها ؛ وريادة مفعمة ؛ وتخطيط محكم ؛ وتدبير منضبط فى كل جوانحه ؛ واهتمام بصغائر الأمور لايقل عن كبيرها ؛ ان كانت هذه الامور الصغيرة تشكل أدنى لبنه فى بناء المجتمع والدولة ..
نعم ياحبيبى يارسول الله .. نجد حديثنا عنك لذة النفس ؛ ومتعة الخاطر ؛ وغذاء الروح ؛ وضيــاء القلب ؛ وشفــــاء لما فى الصــدور ؛ وإرواء للضمير ؛ فــلا أسلك فى الكتابة فيك التاريخ الجامد ؛ ولا طريق الحوادث المألوفة ؛ ولا نهج السيرة المعروفة ؛ ولا ما تعود الناس أن يرددوه عنك ؛ أو يذكروه لك ؛ أو ينسبوه إليك ؛ أو يذيعوه عنك . وليس هذا تخيلاً يتخيله الشعراء ؛ ولا وهماً يدور بخلد الفلاسفة ؛ لأن الخليقة لم تعرف رجلاً لفت جيد الزمن ؛ وشغل أذهان الناس ؛ وحير الباب المفكرين ؛ وتطلعت الدنيا الى ما فيه من أخلاق نبيلة ؛ وسجايا عظيمة ؛ وخلال طيبة ؛ وسلوك حميد ؛ وأدب جم ؛ قبل أن تُعرف أنت ياحبيبى يارسول الله ؛ فتعرف طبها وعلاجها ؛ وشفاءها ودواءها ؛ ومثلها العليا . والدراسة التى تناولتك يارسول الله ؛ والآداب التى أخذت عنك ؛ والسلوك الذى رسمته ؛ والمنهج الذى بنيته ؛ والأخلاق التى رغبت فيها ؛ ودعوت إليها هى الدستور الذى كانت البشرية بحاجة اليه لينير لها الطريق إلى مستقبل أفضل ؛ وغاية أكرم ؛ ومجد أنبل ؛ وسعادة أعظم ؛ وأمن أشمل ؛ وعدالة اكمل ؛ وإصلاح أعمق ؛ وبخاصة إذا نظرنا إلى تلك البلبلة التى كان عليها العرب حينئذ ؛ والى تلك الجهالة التى كانت تضرب بجرانها فى الجزيرة ؛ ولا سيما فى المسائل الدينية ؛ وقد كانواْ فيها أشبه ببحر يموج ؛ أو بركان يغلى ؛ لاهدف يصح لهم أن يتجهواْ إليه ؛ ولا غاية يمكن أن يقفواْ عندها ؛ ولكنهم كانواْ يعبدون الأصنام والكواكب ؛ ويؤلهون القوة ؛ ويعظمون الجماد ؛ ولا يدينون للحق ؛ أو يفتحون قلوبهم للهداية ؛ أو ينظرون بعيونهم نحو النور أو يوجهون أفئدتهم إلى الصواب ؛ بل يشتغلون بالخرافة ؛ ويتعلقون بالباطل ؛ ويهتمون الاهتمام كله بالأخذ بالثأر ؛ ومعاقرة الخمر ؛ وإشباع الشهوات النازلة ؛ والميول الساقطة ؛ وليس لهم من المعارف ما يساعدهم على أن تكون لهم حضارة تجعلهم في صفوف الدول الناهضة أو الأمم المتقدمة المتطلعة إلى الإصلاح والعمران ؛ والانتعاش واليقظة ؛ والسير إلى الغايات المحمودة ..
وفى الحق .. حقيق للدهر أن يطأطئ رأسه لك يارسول الله إجلالاً ؛ لما كان من تاريخك ؛ وإعجاباً بما كان من خلالك ؛ وإكباراً لما كنت عليه من خُلق عظيم ؛ تجاوز حدود التقدير والاحترام .. ونحن لانشك فى أن أصحاب الدعاوى ؛ وارباب المبادىء ؛ وحملة المشاعل ؛ وقادة الأمم ؛ وزعماء الإصلاح - في كل زمان ومكان – لا يصلون إلى غاياتهم ؛ أو يبلغون أهدافهم بنصاعة بيانهم ؛ وقوة حجتهم ؛ وسداد رأيهم ؛ واستقامة نهجهم ؛ وخلابة منطقهم ؛ وروعة بلاغتهم ؛ بمقدار ما يساعدهم على ذلك سلطانهم المرهوب ؛ وقوته المخيفة ؛ وبأسهم المسلط ؛ أو نصرة تقف إلى جانبهم ؛ من قرابة قريبة ؛ أو ولاء مسعف ؛ أو عصبية تدفع ؛ أو مال يغرى بالإقبال والرغبة ؛ ويعمل على تمكين النفوذ والجاه ؛ وإشاعة الإرهاب والخوف .. وأنت لم تنصرك يارسول الله عصبية ؛ ولم يساعدك مال كان في يديك ؛ ولا نفوذ أتيح لك ؛ غير أن سيرتك كانت قرآناً ؛ وحياتك كانت برهاناً ؛ وقد استقبلت الإنسانية حديثك الطيب استقبالها للإحداث الهامة ؛ وألامور الغريبة ؛ والمعجزات الكبرى ؛ وآمنت بسبب ما عرفت منك ؛ أن لله سر يخفى على الفطنة ؛ ويدق على الفهم ؛ ويتسامى على المنطق ؛ ويتجاوز حدود العادات ؛ ويأبى أن يخضع للمألوف ولا يسع الناس أمامه إلا أن يردوه إلى خالق السموات والأرض ومدبر الكون الواسع والملك الفسيح العريض . وفيك - ياحبيبى يارسول الله - تحكم الفقر ؛ وتمكن اليتم ؛ واستبد بك الجوع والحرمان ؛ الذى جرت به العادة مع الاطفال الذين تحيط بهم تلك الحياة ؛ وتلعب بهم الإحداث ؛ وتهز كيانهم الأعاصير ؛ أن يموت فيعهم النزوع الى المجد ؛ والرغبة فى الكمال ؛ والتطلع الى الأهداف البعيدة ؛ والأغراض النبيلة ؛ والغايات السامية .. وأنت – يارسول الله – أبداً لم يقل عنك : أن همتك كانت واهنة ؛ أو أن عزيمتك كانت فاترة ؛ أو أن نهوضك كان كسيحاً ؛ أو أن نوزعوك كان ضعيفاً ؛ أو أن طموحك كان ميتاً ؛ أو أن قناتك لانت لغامز ؛ أو أن نفسك ذلت لجبار ؛ أو أن عودك انحنى لمتسلط ؛ أو أن جهادك للإصلاح وقف منتصف الطريق أو حولته عن القصد الغايات ؛ أو منعته عن نهايته موانع .. معاذ الله .. وفى سلوكك منذ كنت ناعم الاظفار ؛ غض الاهاب ؛ صغير السن ؛ من سمت طيب وخلق قويم ؛ وعقل بصير ؛ وفكر ناضج ؛ ورجولة مبكرة ؛ وعظمة لا تصنع فيها و لا احتيال ؛ ما يدل على أن مستقبلاً باسماً كان ينتظرك ؛ ومجداً تالداً كان يترقبك ؛ وجاهاً عظيماً كان على موعــد معك ؛ وان الارهـاص الذى يسبق المعجزة يسارع إليك ؛ ليؤذن بالنهــاية الكريمــة ؛ والمصير العزيز ؛ والختام الحميد ؛ والتاريخ الذى يرويه الاباء للابناء .. فلما بلغت مبلغ الرجال ؛ كنت تقرى الضيف ؛ وتحمل الكل ؛ وتؤازر الحق ؛ وتنطق بالصدق ؛ وتعين على المعروف ؛ وتنصر المظلوم ؛ وتخفف ويلات المكروبين وتمتلىء نفسك الكبيرة بالمعانى النبيلة ؛ والعواطف السامية ؛ والامانى الطيبة ؛ والنوايا الصادقة ؛ والغرائز المهذبة ؛ والخلال الكريمة ؛ والسجايا المحببة ؛ حتى هالهم أمرك ؛ وعناهم شأنك ؛ وظنوا أن الايام سوف تتمخض فيك لا محالة عن قيصر الروم ؛ أو كسرى الفرس ؛ أو فرعون مصر ؛ أو حاكم مستبد ؛ أو قاهر ممن كانواْ يسمعون عنهم من الأساطير والأخبار ؛ إلا أنك حين جهرت بدينك الصحيح ؛ ويقينك السـليم ؛ وكشفـت بذلك كله عن الحــق المبين ؛ والسـلوك الســوى ؛ والعـدل المحض ؛ والنهج القويم ؛ تضاءل فى أنظارهم كبرياء الظالمين ؛ وغطرسة أولئك المتعالين المتكبرين ؛ وتهاوت تيجان الملوك والسلاطين ؛ وآمنواْ أن هذه الدنيا التى كانت لهؤلاء لا تزيد إلى جانب ما أعطاك الله إياه جناح بعوض ؛ ولا قلامة اظافر ؛ ولكنها غبار يتطاير ؛ أو سراب يخدع ؛ أو وهم لا ينطلى الا على الاغرار البله .
والغريب أن تكون يارسول الله مع هذه المكانة السامية ؛ والدرجة العالية التى كنت عليها ؛ من العظمة والمجد والسؤدد والشرف ؛ والجاه والرفعة ؛ والسيادة والعزة والسلطان والنفوذ ؛ متواضعاً غاية التواضع ؛ حليماً إلى اقصى غايات الحلم ؛ جامعاً للمكارم كلها ؛ تبذل وتعطى ؛ وتسخو وتجود ؛ وتنقذ من يتورط فى شدة ؛ أو يشرف على هلكه ؛ أو يعانى حرجاً ؛ وربما نسيت اساءة المسيىء ؛ وآثرت غيرك على نفسك وقابلت الشر بالخير ؛ والأذى بالصفح والعفو ؛ واللؤم بالكرم .. وكم أعلنت ياحبيبى يارسول الله فى كل مناسبة أنك بشر ؛ تأكل الطعام ؛ وتمشى فى الأسواق ؛ وناديت فى القاصى والدانى بهذا ألادب الرفيع : " انكم لا تسعون الناس بأرزاقكم وأموالكم ؛ فسعوهم بأخلاقكم " لتعطيهم الأمثال منك ؛ والقدوة بك ؛ والأتباع لك ؛ وحاشا لخُلقك أن يكون إلا كذلك .
وما عاب أحد لك صنيعاً ؛ أو انتقد لك سلوكاً ؛ ولم تكن جباراً فى الارض ؛ ولا قاسياً على الناس ؛ بل كانت دعايتك بالحسنى وهدايتك بالرفق ؛ وإصلاحك بالحزم ؛ وارشادك بالحجة ؛ وتوجيهك بالمنطق ؛ وسياستك بالحلم ؛ ومعاملتك بالادب ؛ وحكومتك بالقسطاس ؛ وغضبك لله ؛ وغيرتك للحق ؛ وانحيازك الى جانب الفضيلة ؛ وجهادك للاصلاح ؛ وحياتك للخير ؛ وهدفك أن تعلوا كلمة السماء . وهكذا تكون العظمة التى لم يفرضها أصحابها بالباطل ؛ أو ينتهبها أهلوها بسلطان السيف ؛ أو رهبة الملك وحكم القانون . وصلى الله عليك – يارسول الله – كلما جرى ذكرك على لسان ؛ أو خطر طيفك ببال انسان ؛ أو ترسم أحد خطاك ؛ أو التمس مسلم هدايتك ؛ وسار على نهجك ؛ فانك بحق سيد الناس ؛ وخير الخلق على الاطلاق ؛ ولا ينكر ذلك الا جاحد ؛ ولا يمارى فيه الا مكابر ينكر الحق .. ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) سورة القلم الاية 4