لقاء مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم
الجزء الأول
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( سورة التوبة : ١٢٨ )
{۞ } عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن هشــــام بن سعــد قـــــال : سألت السيدة عائشـــة فقلت : أخبريني يا أم المؤمنين عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كـــان خلقــه القرآن .
( مسند الإمام أحمد برقم 24139 عن عبد الرازق عن معمر عن قتادة )
{۞ }إذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته ونشأته ما يخرج به من عداد الجاهلين به ويدخله في عداد أتباعه وشيعته وحزبه ؛ والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم ؛ والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . " ابن قيم الجوزية "
بك يا ابن عبد الله قامـت سمحة بالحـــق ملــل الهــــدى غــــراء
ومشى على وجه الزمان بنورها كهــــان وادي النيل والعرفـاء
ايزيــــس ذات الملــك تـوحــدت أخــذت قــــوام أمورها الأشياء
لمـا دعـــوت الناس لبى عـاقـل وأضـم منــك الجاهليــن نـــداء
فرسمت بعدك للعباد حكومـة لا ســوقـــه فيهـــا ولا أمـــــراء
الله فـــوق الخلـــق فيهـا وحده والناس تحـت لوائهـــا أكفــــاء
الهمزية النبوية أحمد شوقي
رحلة داخل النفس البشرية
ثـروات وكــــنـوز ..
للنفوس ثروات وكنوز ؛ وكما يختلف الناس في امتلاكهم الثروات المادية التي نعرفها كالذهب والفضة والورق ؛ وعقارات ومنقولات ؛ وبنايات وأطيان وضيعات ؛ وأوراق مالية ومستندات ؛ وأصول ثابتة تقوم بأموال ؛ ومنقولات نفيسة القيمة غالية الثمن ؛ فإن النفوس كذلك تختلف في مجال امتلاكها ثرواتها وكنوزها ومدخراتها وصفاتها وسماتها . فمن الناس من يحصى ثروات طائلة من الأموال ؛ ومنهم من لا يملك إلا القليل النادر ؛ أو هو فقير معدم ؛ فهم متفاوتون في ذلك ؛ وقد رفع الله بعضهم فوق بعض درجات .. وأيضاً من الناس من يحصى ثروات ثمينة قيمة من ثمرات النفوس وكنوزها وحصادها وصفاتها ؛ ومن الناس من هو قليل هذه الثروات النفسية ؛ أو هو يكاد أن يكون معدمها فالناس متفاوتون في هذا أيضاً ؛ كما هم متفاوتون في الثروات المادية .
وتفاوت ثروات النفوس بين الناس واضح جلي الدلالة ؛ فمن الناس من يكون عنده نوع واحد من الثروات يجعله عظيما من العظماء ؛ فيشار إليه بالبنان إذا ذكرت صفة من هذه الصفات ؛ مثل صفة الكرم .. أو صفة الإيثار .. أو صفة الشجاعة .. أو صفة الفصاحة .. أو صفة الحلم ..أو صفة الرحمة .. أو صفة الإقدام ..أو صفة البيان والبلاغة .. إلى أخر هذه الصفات وتلك السمات والمكنات والثروات النفسية التي يتفاوت الناس فيها كتفاوتهم في الثروات المادية درجات ؛ بل إن تحقق الصفة الواحدة التي تمثل ثروة نفسية لصاحبها يتحقق بدرجات مختلفة مع أنهم كلهم تجمعهم هذه الصفة ؛ فقد تكون صفة الكرم محققة في عدة أشخاص كلهم تجمعهم صفة الكرم ولكن المدقق للنظر والدارس يجد أنها متواجدة لدى كل منهم بدرجة تختلف عن الآخر .
والتاريخ يمدنا بأسماء عظماء في شتى مجالات الحياة تميز كل منهم بمزية واحدة فكـتب له التاريخ بحروف من نور صفحات الخلد ذكراً ؛ ولا زالت الأجيال تذكرهم وتمجدهم وتعلى من شأنهم وقدرهم على الرغم من رحيلهم عن دنيانـا منذ سـنين طويلة ؛ وقـد تجتمع أكـثر من صفـة من الصفات في نفـس واحـدة فيجتمـع لهـذه النفـس الخـير الكثير . ولا زالت هذه الصفات ترتقي وترتفع ببعض النفوس برعاية من الله حتى تكون في مقدمتها الصالحون في كل زمان ومكان الذين أحسنواْ العمل .. ثم ترتقي وتسمو حتى تكون في المصلحون .. فالصالحون يبنون أنفسهم .. أما المصلحون فإنهم يبنون الجماعات والشعوب والأمم .. ولا زالت ترتفع حتى تكون في أسمى درجاتها ؛ وأعلى معانيها في الأنبياء والمرسلين ؛ ولا تزال ترتفع ؛ حتى يشار بالبنان إلى واحد فقط على انه كليم الله .. وآخر كونه روح الله .. وثالث كونه خليل الله .. وأخر على انه سيد ولد أدم أجمعين وكونه حبيب الرحمن وأول شافع وأول مشفع وأول من يحلق في حلق الجنة ومن بيده لواء الشفاعة الكبرى يوم القيامة وصاحب الوسيلة وهى الدرجة الرفيعة بإذن الله .. وما زالت تسمو وترتقي وتحلق حتى يكون للنبي أو الرسول الواحد خصائص أمة بأكملها ألم تقرأ قول الحق تبارك وتعالى عن إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام : " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " (سورة النحل 120 )
ولا تزال ترتفع وتسمو حتى تكون في واحد ليس كمثلها في غيره ؛ فيقول هو عن نفسـه أدبني ربى فأحسـن تأديبي ؛ ويقـول عنه ربه الذي خلقه فسواه وزكاه ورزقه مكانته :" وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ " ( سورة القلم 4) وما من مقام من مقامات الدين ومقوماته والسمو وثروات وكنوز النفوس إلا ويزينه محمد صلى الله عليه وسلم بعلو همته ؛ فقد كان سيد العابدين ؛ وسيد الخاشعين ؛ وسيد الصابرين ؛ وسيد المجاهدين ؛ وسـيد العادلين ؛ وسيد الصــائمين ؛ وسيد العــافين عن الناس ؛ وسيد الآمرين بالمعروف ؛ وسيد الناهين عن المنكر ؛ وسيد المتقين ؛ وسيد الأبرار ؛ وسيد المقربين ؛ وسيد البشر في شتى المجالات . كان أعلى الناس توكلاً .. وأوفر الناس نصيباً من الشكر والحمد والدعاء .. وأرحم الناس .. وأشد الناس حياء .. وأكثر الناس صبراً .. وأحسن الناس خلقاً .. وأحسن الناس مروءة وتواضعاً .. وأكثر الناس مراقبة لله .. وأكثر الناس إيثارا لغيره .. وأكثر الناس براً .. وأعظم الناس وداً .. وأكرم البشر جميعاً كالريح المرسلة كما وصف كرمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما .. وكان أعلى الناس خشوعاً .. وأشد الناس عبادة لربه .. وكان أطول الناس صلاة .. وكان محمد صلى الله عليه وسلم أعلى الناس والأنبياء والمرسلين يقيناً ؛ وحسبك من أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام الذي قال عنه الحق تبارك وتعالى انه كان أمة قانتاً لله انه طلب أية عينية مادية يراها حتى يطمئن قلبه بالإيمان فينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين ؛ قال الله تعالى :
((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ))سورة البقرة 260
فاطمئنان قلب إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام كان بناء على هذه الآية التي انتقل بها من علم اليقين إلى عين اليقين ؛ فأعطاه الله إياها بناء على طلبه ..
وحسبك من موسى كليم الله أيضاً طلب رؤية الله تعالى : ((قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)) سورة الأعراف
لكن الله تعالى لم يشاء أن يعطيها لموسى عليه السلام لحكمه يعلمها الله العليم الخبير ؛ لكنه عليه السلام طلبها من الله ؛ وكانت الإجابة من المولى سبحانه عليه : ((لَنْ تَرَانِي))
وحسبك أيضاً انه بدون هذه الآية العينية المادية التي طلب أن ينتقل بها إبراهيم أبو الأنبياء من علم اليقين إلى عين اليقين ؛ وبدون طلب الرؤية من موسى كليم الله ؛ عليهما السلام ؛ كان قلب محمد عبد الله ورسوله مطمئن بالإيمان .. علم يقين وعين يقين معاً ؛ فلم يكن بحاجه لهذه الآية العينية المادية ؛ أو طلب الرؤية ؛ لينتقل بها من علم يقين إلى عين يقين ليطمئن قلبه ؛ فقد كان قلب محمد صلى الله عليه وسلم مطمئنا ابتداء بإذن الله يتنعم في عين اليقين ؛ في حين انتهى غيره إلى عين اليقين بأية مادية ؛ فقد ابتدأ محمد صلى الله عليه وسلم بعين اليقين بدون هذه الآية المادية ..
وحسبك كما جاء في السنة النبوية أن يطلب موسى كليم الله أن تكون أمته هي أمة أخر الزمـان ؛ فيقـول الله تعالى له أنهـا أمة محمد ؛ فيطلب موسى أن يكـون هو من أمة محمد ؛ لكن الله تعالى يقول له استقدمت واستأ خر ؛ ولكن أجمع بينك وبينه في الجنة .
وحسبك من عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم عليه السلام أن ينزل آخـر الزمان قاتلاً للمسيخ الدجـال ؛ ومتبعاً ملة الإسـلام .. حاكماً بهـدى القرآن والسنة وسـائراً مقتـدياً بأخيه محمـد عليهمـا السـلام ؛ ومتبعـاً ما نـزل على محمد صلى الله عليه وسلم من مشكاة واحدة ..إنها شمائل محمدية في شتى المجالات..
وكتب الشمائل المحمدية للترمذي وغيره مملئة مفعمة بالأحاديث التي تكشف عن هذا النور الذي أرسله الله تعالى ليضيء للبشـرية طريقـاً خطـه الله تعالى الخالق العليم الحكيم لعباده إلى قيام الساعة ؛ مرشد البشرية فيه محمد صلى الله عليه وسلم . (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ )) سورة المائدة 15
والتاريخ بعد مجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم مرهون متصل به وبعمله ؛ فقد كان التاريخ شيئاً ؛ فأصبح شيئاً آخر ؛ فقد كان لعلو همته أثر في الأحداث العظام في تاريخ بني الإنسان .. بمقدار ما في الأحداث من فتوح للروح .. لا بمقدار ما فيها من فتوح للبلدان فقد تفتحت للإنسان أفاق جديدة في عالم الضمير ؛ ارتفع بها الإنسان فوق طباق الحيوان السائم ؛ واقترب بها إلى مرتبة الملائكة ورضي ربه .. لقد كانت فتوح الرسول صلى الله عليه وسلم في المقام الأول فتوح للروح والإيمان تسمو بالروح وترتفع أعلى عليين . وقد حكم التاريخ لرسول الله صلى الله عليه وسلم انه كان في نفسه قدوة المهذبين ؛ وكان في علمه أعظم الرجال أثراً في الدنيا ؛ وكان في عقيدته أفضل الناس إيماناً ؛ وصاحب الدين الحق ؛ الذي يبقى ما بقى في الأرض دين .
بناء القرى وبناء الرجال
ربما كانت عظمة الرجل في مزية واحدة من المزايا تمثل نوع من أنواع ثروات النفوس ؛ فأحاط به الأصدقاء والمريدون من النابغين في تلك المزية .. كإحاطة الحكماء بسقراط .. بل ربما أحاط الصالحون بالنبي العظيم كما أحاط الحواريون بالمسيح عليه السلام .. وكلهم من معدن واحد وبيئة واحدة .. أما عظمة العظمات فهي تلك التي تجذب إليها الأصحاب النابغين من كل معدن وطراز ؛ بل تربى الأصحاب وتستشف قدرات كل منهم وتؤهله لإبراز هذه المزية ؛ تربية تخرج رجالاً يتفاوتون في مزاياهم التفاوت الذي بين أبى بكر وعمر ؛ وبين عثمان وعلى ؛ وبين خالد ومعاذ ؛ وبين أسامة وابن العاص .. وكل منهم مع ذلك في وصف العبقرية مخالف لسواه . تلك العظمة المحمدية التي اتسعت آفاقها وتعددت نواحيها ؛ حتى أصبحت قطباً جاذباً لكل معادن الرجال ؛ وأصبحت تجمع في تربيتها لأصحابها بين البأس والحلم ؛ وحنكة المسن وحمية الشباب . لقد كان من صفاء بصيرة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أن بغوص في رحلة داخل نفوس أصحابة ليستخرج مكنونات وذخائر ثروات وكنوز نفوس الصحابة كل على قدره ؛ صدق الصديق ؛ وحياء عثمان ؛ وصراحة وهيبة وشدة الفاروق ؛ وزهد وعلم على ؛ وشجاعة الزبير ؛ وأمانة أبى عبيدة ؛ وسخاء طلحة ؛ وتواضع وقوة وصدق لهجة أبى ذر ؛ وحكمة أبى الدرداء ؛ وعلم معاذ ؛ وإيمان عمار .. وكل خصلة من هذه الخصال خــير من الدنيا وما فيهــا ؛ لقد رباهــم رســول الله صلى الله عليه وسلم وهو أدرى بالرجــال ومعادنهــم وما يملكون من ثروات وكنوز النفوس التي ربما كانواْ هم أنفسهم يجهلون امتلاكها ؛ فاستشفها الرسول فيهم ؛ وأخرجها لتستفد منها البشرية فظهر من هؤلاء الرجال الجيل القرآني العبقري الفريد ..
إنها عظمة ما غرسه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم لتسمو وتتألق بهم هذه الصفات ؛ لا بقدر ما يريد لها الكتاب والواصفون ؛ بل بمقدار ما أراد لها أصحابها وذووها ؛ وبقدر ما بذلواْ في سبيل التفوق والكمال والجهد الخارق الذي بذلوه . ولم يشهد التاريخ - ولن يشهد - رجالاً مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ رباهم نبيهم ومعلمهم على غايات تناهت في العدالة والسمو ؛ وعقدواْ على ذلك عزمهم ونواياهم ؛ ونذرواْ لها حياتهـم على نسـق تناهى في الجسـارة والتضحية ؛ والبذل ومكـارم الأخـلاق .. لقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحياة الدنيا وجاءواْ معه في أوانهم المرتقب ويومهم الموعود ؛ وأنجز الرسول صلى الله عليه وسلم تربيتهم في بضع سنين ؛ ليكون كل منهم أينما وجد عظيما من العظماء يشار إليه بالبنان ؛ ويدخل تاريخ العظمة الإنسانية من أكبر أبوابه .. تلك هي معجزة نبيهم وكرامتهم الحق
رد الاعتبار
ولازالت البشرية تسير عبر الأيام والسنين ؛ حتى يأتي ما يسمى بعصر العلم ؛ والعلم هذا زكاة الإسلام وحث عليه ؛ ورفع الإسلام العلماء إلى مراتب سامية ؛ ودرجات عظيمة ؛ وجعل العلماء أكثر الناس خشية لله تعالى :
((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)) سورة فاطر 28
وتمر الأيام ؛ وتنقضي السنين .. وجاء أناس يعتقدون وهماً وجهلاً أن الدين عائق للعلم ؛ فيهاجمون الدين أشرس هجوم ؛ وهو مذهب العلمانية التي تأثرت بمسلك الكنيسة التي حاربت الوثبات العلمية في كثير من الأوقات في العصور الوسطى . ثم تسير البشرية ؛ وتأتى عصور ما يسمى بعصور الحرية والديمقراطية ؛ ويسيء بعض الناس فهمها ؛ كما أساءواْ فهم النزاع الصوري بين العلم والدين ؛ فظنواْ أن معنى الحرية أن يتطاول الصغير على الكبير ؛ وظنواْ أن المساواة القانونية من الممكن أن تلغى الفوارق الطبيعية ؛ وأن الثورة على الرؤساء والحكام الطغاة والمستبدين تعنى الثورة على العظماء ؛ والإساءة إلى الأنبياء والمرسلين ومحاولة هدم الدين ؛ ومحاولة تسفيه ما جاءواْ به وإلصاق كل مشين بهم ونسبته إليهم ؛ وهو وهم ظاهر البطلان ؛ لكنه على أي حال سرى مسراه إلى كثير من الأذهان ؛ ومن ثم كثر التطاول على كل عظمة إنسانية ؛ وفشت بدعة الاستخفاف والزراية بالعظماء تحت اطلاقات الحرية ؛ حتى أوشك التوقير لمن يستحق التوقير أن يعاب ويلام المتمسك به ..!
ثم جاءت الشيوعية - والمذاهب التي تدور في فلكها – وهى تزعم كعقيدة ومبدأ أن العظماء هم صنائع المجتمع ؛ وليسواْ بأصحاب الفضل عليه ؛ وان تعظيم الأبطال الغابرين يصرف الناس عن عيوبهم وعيوب النظم الاجتماعية ؛ وهو ما جعل الشيوعية تتبنى وتلتحف – ولا زال متبعيها – بالعمل على تلويث كل عظمة يؤدى توقيرها إلى نقض المبادئ الشيوعية ؛ أو حتى مخالفة مذهبهم أو مبادئهم ؛ حتى وجد من بين المسلمين من قام باعتقاد هذه المبادئ فنسبواْ لبعض الرموز الإسلامية الكبيرة والشخصيات المحترمة المبجلة عبر الزمان ؛ وفى كثير وقت من الأوقات حينما وجدواْ أن الناس قد التفواْ من حول هؤلاء المصلحون كرموز يحبونهم بعض الأشياء التي يستحى المرء منا أن يذكرها .. لكن ذهب المفترون الكاذبون الذين بثواْ آلافك والبهتان إلى مزبلة التاريخ ؛ وقضت الشيوعية نحبها في عقر دارها ؛ ولا يزال هؤلاء يتبعون طريقتهم مع كل عظمة إنسانية .. وبقيت الرموز العظيمة الشامخة في ذاكرة التاريخ في صفحات من نور ؛ وما كان الافتراء إلا كسحابة صيف انقشعت مع سطوع شمس الحقيقـة ؛ وإعمال العقـل البشـرى ؛ حيث انبرى أصحـاب الأقـلام الطاهـرة ؛ والعقـول النييرة للذود عن العظمـة الإنسانية في شتى المجـالات ؛ ومحـاولة رد اعتبارها للعظمة الإنسانية .
وبلغ من سخفهم وغيهم - وسخف الشيوعية والمذاهب التي تدور في فلكها تحت مسميات اليسار – أنهم غيروا صورة أبطال الروايات في مسرحيات شكسبير وأمثاله ؛ فعرضواً " هملت " في صورة غير تلك الصورة التي صورها الشاعر ؛ لان تصوير أمير من أمراء القرون الوسطى في صورة حسنة ؛ يخل بما قرروه ورسخوه في أذهان الناس عن فساد تلك العصور الوسطى .. هكذا كانت رؤيتهم العقائدية .. هدم كل عظمة إنسانية تخالف المبادئ الشيوعية .. وتكاثرت على هذا النحو في العصر الحديث أسباب الغض من العظماء والنيل منهم فتارة يتم التجرؤ على عيسى عليه السلام ؛ بل ويقوم سفيه من السفهاء بتأليف كتاب صـدر في أوربا في العصر الحديث عن العظماء ؛ فتجد عجباً ؛ حيث تجد هذا الكاتب يقدم " اينشتاين " في مجال العظمة الإنسانية على عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله ؛ حيث جعل عيسى عليه السلام في مرتبة أدنى من بعض العلماء ؛ وهو وهم ظاهر البطلان ؛ وقياس مختمر في الضلال البعيد . وما أحداث الدنمارك ؛ وبعض البلاد الأخرى المتكررة ؛ وما تم نسبته إلى الإسلام ونبيه إلا باب من هذه الأبواب ؛ في محاولات دائبة ؛ ومستمرة ؛ ولسوف تستمر ؛ محاولات لهدم العظمة الإنسانية ؛ وتحطيم رموز العظمة الإنسانية في شتى المحالات ؛ حتى أصبحت العظمة الإنسانية في حاجة " لرد الاعتبار " كما يقال عندنا في لغة القانون في العصر الحديث ..
نعم " رد اعتبار " فإن الإنسانية لن تعرف أبداً حق من الحقوق إن لم تعرف حق عظمائها ؛ وإن الإنسانية ليست على شيء إن كانت العظمة الإنسانية في قديمها وحديثها ليست على شيء ..
وقد يقول قائل أن العصمة لله وحده .. نعم .. فقد نتفق على هذا ولا نختلف عليه ؛ لكن نحن نتحدث عما يمكن أن يسمى بحد الكمـــال البشرى .. وهو معنى ارتفاع صفات وكنوز ثروات النفوس لدى البشر ؛ فيما يملكون من ثروات وكنوز نفسية نفيسة سامية رفعتهم إلى مراتب العظماء ؛ وليس معنى هذا انه من الممكن أن يرفع بشر فيعظم بلا حدود ؛ كما فعل المغضوب عليهم أو الضالون .. معاذ الله .. لكن في ذات الوقت لابد أن ينال العظماء حقهم الذي يستحقونه بلا إفراط أو تفريط ؛ فالأنبياء والمرسلين جديرون وحقيق بهم ؛ وواجب علينا أن نصـل بهـم في ذاكـرة التاريخ والواقع العملي إلى مصطلح ما يمكـن أن يسمى " حد الكمال البشرى " ..
وإذا كان العظماء متفاوتون في درجة العظمة والعبقرية .. لكن هذه العظمة والعبقرية إن توافرت في بشر عبر الزمان ؛ إلا أن صفها الأول والمميز هم الأنبياء والمرسلين ؛ وحتى هؤلاء الأنبياء والمرسلين رفع الله بعضهم فوق بعض درجات ؛ وربك يخلق ما يشاء ويختار ؛ كما قال الحق تبارك وتعالى :(( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) سورة القصص 68
وقال الله تعالى ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ))سورة البقرة 253
وفى مجال رد الاعتبار للعظمة الإنسانية من الممكن للمرء إن كانت قدراته وإمكانياته وثقافته تساعده ؛ أن يذهب بعيداً في مؤلفات يضيق عن سعتها عمر المرء كاملاً ؛ لكن حسبنا أن ندلى بدلونا على قدر استطاعتنا ؛ ولن نستحي أن نشارك في هذا ولو بكلمـة ؛ أو جملـة ؛ أو صفحـة ؛ أو كتيب ؛ قـد يكون صحيحـاً وصفـه بالعمل البسـيط المتواضـع ؛ لكنـه مهما قـل فانـه نـوع من أنواع المعروف الذي لا يجب أن نحقر منه شيئاً .. وان قل ..
وقد يتوقف الدارس طويلاً ؛ إن كان محايد ؛ مع كثير من العظماء عبر التاريخ ؛ لكن إذا بلغ العقل مبلغه السامي ؛ وكان في مكانه الطبيعي من الإنسان قائد له كما اختاره الله ليكون من بني أدم ؛ وتمكنت الحكمة من القلوب ؛ فسيجد الباحث العاقل الحكيم الدارس المحايد أن العظمة في أسمى درجاتها للأنبياء والمرسلين ؛ فهم الذين فضلهم الله تعالى في الدرجات ؛ ورفع بعضهم فوق بعض درجات ؛ ومنهم الخمسة أولى العزم من الرسل ؛ نوح و إبراهيم و موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام ؛ قال الله تعالى :((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)) سورة الاحقاف 35
فمنهم من اتخذه الله خليلاً ؛ ومنهم من كلم الله ؛ ومنهم من قرن اسمه باسمه سبحانه وتعالى إلى يوم الدين ؛ وأياً من هؤلاء الأنبياء والمرسلين جميعاً ؛ جدير أن يشار إليه بالبنان على انه احد الواقفون في صفوف العظمة الإنسانية الأولى ؛ وبارزيها ونابغين صفوف العظمة الإنسانية على مر الأيام والسنين . ولكن من عظمة العظمات وحد الكمال البشرى من رفعه الله تعالى بأن يكون أبو الأنبياء وخليله .. ومن عظمة العظمات وحد الكمال البشرى من اتخذه الله كليما .. ومن عظمة العظمـات وحد الكمـال البشـرى من رفعـه الله إليه لينزل أخـــر الزمان وقبل يوم القيامة ليقتل المسيخ الدجال ويتبع هدى أخيه محمد ويحكم بشريعة الإسلام .. ومن عظمة العظمات وحد الكمال البشرى من اختصه الله تعالى ليكون خاتم أنبياؤه والمرسلين للبشرية جميعاً ؛ وأمره أن يكون جميع ما نزل إليهم في شريعته ؛ لأنه إنما يأتي من مشكاة واحدة ؛ فقال له :(( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)) سورة الأنعام الآية 90
فقد جعل الله تعالى الرسالة الخاتمة للبشرية ؛ هي رسالة جامعة لذلك النور الذي نزل من السماء لجميع البشر ؛ وصاحبها ختامهم الذي تحكم شرعته إلى قيام الساعة ؛ ليكون كذلك من بيده لواء الشفاعة الكبرى يوم القيامة ؛ وان يكون هو أول من يحلق في حلق الجنة ؛ وان تكون أمته هي أول الأمم دخولاً للجنة ؛ وان يكون بيده لواء الشفاعة الكبرى يوم القيامة بإذن الله تعالى ؛ وان يذهب الأنبياء جميعاً في الموقف يوم القيامة فيقول كل منهم : نفسي .. نفسي .. بينما هو يقول : أنا لها .. أنا لها .. ويسجد لله سجده .. يعلمه الله خلالها محامد لم يكن يعلمها من قبل .. حتى يرضى الله .. فيقول له سبحانه وتعالى : يا محمد .. ارفع رأســك .. سل تعطى .. واشفع تشفع .. وإذا دخل الجنة بلغ أسمى منزلة ؛ وكان مكانه بإذن الله أسمى مكانه وأرقى وأعظم مقام ؛ انه صاحب الشفاعة الكبرى بإذن ربه .. وصاحب مقام الوسيلة .. انه محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين ..