لقاء مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم
الجزء الثاني
محمد الإنسان الكامل ..
انه بشر ..
نعم .. بشر ككل البشر ؛ يأكل الطعام ؛ ينام ويصحو ؛ يأكل ويشرب ؛ ويتزوج النساء ؛ يبكـى ويضحـك .. ما يستطيع عـاقـل متزن أن ينكـر هـذا أو يجـادل فيـه ؛ وهـو في ذلك الشـأن ما يزيد أو ينقـص عن إخـوانه النبيين والمرسلين ؛ ولا عـن باقي أهـل الأرض جميعاً . لكن هـذا البشـر ظـل يتأدب بآداب الله ؛ حتى ارتقى في مدارج الكمـال البشـرى فبلغ شـأواً من سـناء القلب واللـب ؛ وجـلال الخُـلق والعمـل لـم يعـرف لأحـد مـن المستقدمين والمتأخرين .. انه إنسان من لحم ودم ؛ مشى على أديم الأرض كملك كريم ؛ فياض النفس بالإيمان والبر والود ؛ وحب الحق ؛ والتفاني في أداء رسالته ؛ والعطف على الأحياء ؛ والجرأة على مقاومة الباطل .. إن خيالات الفلاسفة والأدباء في أقصى رقيها وأسمى معانيها ؛ قد تنسج مثل عليا يبرزواْ معالمها للناس ليتبعوها ؛ كأن يكون إنسان حسن الخلق ؛ عابد راهب ؛ زوج رقيق ؛ قاض مقسط ؛ حاكم منصف ؛ تاجر أمين شريف ؛ صديق وفى ؛ سمح إذ ملك ؛ القادر العافي ؛ المهيب إذا اقترب ؛ العظيم في كل أحواله ما ظهر منها وما بطن . ربما أبرز الفلاسفة والأدباء المثل وهم في أبراجهم العاجية ؛ وصوامعهم القاصية بعيداً عن أرض الواقع .. لكن محمداً مشى على الثرى ؛ وخالط الناس وضراء العيش ؛ وخالط من يحب ومن يكره ؛ وأحـس الجوع والسهر ؛ وعاش الفقد والقلق ؛ وعانى الغربة والوحشة ؛ ومحاربة الآخرين له ..
وفى مكابدته لأسوأ ما تمر به الإنسانية من ظروف ؛ بقى هذا الإنسان الضخم المتزن الخطو ؛ متقد الفكر يضرب به المثل العليا مخلوطة بعرق الجبين ؛ واغبرار القدم ؛ فهو القدوة الحسنة لكل حي في جميع الشئون المادية والأدبية . فهو القدوة الحسنة في رضاه وغضبه ؛ نومه ويقظته ؛ طعامه وشرابه ؛ مع الكبار ومع الصغار ؛ مع الأصحاب ومع الخصوم ؛ في الصحة والمرض ؛ في السلم والحرب ؛ في الحل والترحال ؛ هذه الحياة التي تتبعتها ألاف الأعين ؛ وسجلت صفاتها ألوف الألسن ؛ فما كان منها إلا ما يسر وما يعجب ؛ يخط للناس طريق الخير والهدى والرشاد ؛ كان يصف الكمال ويدرب الناس على بلوغه ؛ لقد عرف بالصادق الأمين حتى قبل مبعثه قبل الإسلام .. وهو إنسان مثل سائر البشر ؛ وليس يمتاز عنهم إلا بأمرين :
الأمر الأول :
أن أمجاد الجنس البشرى جميعها تلاقت في شخصه ؛ فإذا كانت الأمانة والفطنة والوفاء والرحمة والصدق والحب والعفة والعدل وأمثالها .. فضائل تتألق بها سير بعض الناس وتجعلهم بين بالنسبة لمن حولهم هامات شماء ؛ وقمم شامخة ؛ فان محمداً في هذا المضمار سبق المستقدمين والمتأخرين . فهو بشهادة الواقع المستفيض من سيرته ؛ بطل الأبطال ؛ وأجود الجواد ؛ وسيد الخلق همة وشهامة ؛ ونجدة وبراً ؛ ووفاء وود ؛ وشجاعة وإقدام ؛ وإيثار وتفانى .. ومن هذه السيرة يستخلص الناس ؛ العامة والخاصة ؛ أضواء الكمال البشرى في شتى مناحي الحياة .
ونماذج الكمال البشرى التي تحققت في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم تبدو وكأنها أعمال بشرية مضيئة فحسب ؛ أو كأنها أعمال ميسورة الأداء ؛ وقد شاء الله أن تبدو كذلك لتتم بها الأسوة المنشودة ؛ وإلا فهي تشبه الشمس ؛ يحسبها ويظنها الناظر إليها أنها على بعد أميال منه ؛ مع أنها بينها وبينه أبعاد وأبعاد ..
لقد جاهد هذا النبي صلى الله عليه وسلم جهاداً كبيراً ؛ ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم ليس بشر وإنما ملك لم تتحقق الأسوة الحسنة في قليل أو كثير ؛ وإنما الصفات الإنسانية فيه هي التي جعلت من جهاده أسوة حسنة . لقد كان محمداً عظيما في شتى نواحي الحياة ؛ فبما كانت عظمته ..؟ السر في ذلك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كلف أن يغرس في قلوب من حوله إيماناً لا تستخدم في غرسه إلا الوسائل المقدرة والمحددة لقدرات البشر .. ولقد استطاع ذلك من غير أن تتبدل الأرض غير الأرض ؛ وذلك على عكـس ما حدث في زمن موسى عليه السـلام مثلاً ؛ إذ رفع الله جبل الطـور فوق رؤوس الناس ليؤمنواْ ويعطواْ على ذلك المواثيق ؛ قال الله :" وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" سورة البقرة 63
وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم بشرا بين أتباعه ؛ فقد كان كذلك بين أعدائه ؛ لم تسخر ضدهم قوى السماء ؛ رغم ما لاقى من العنت والشدة ضده ؛ وهو أيضاً على خلاف ما حدث لموسى عليه السلام ؛ فقد نكل الله بأعدائه تنكيلاً قاهراً ؛ إذ مسخهم قردة : " وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ " سورة البقرة .
وليس يفهم من ذلك أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت خلواً من الخوارق ..!
كلا .. ثم كلا .. فان النبوات قائمة على أن تقترن بالخوارق في كثير من مظاهرها .. وهذه الخوارق موجودة ؛ ومن الممكن أن يقرأها أحدنا لوشاء ؛ ولقد ذكر بعضها في القرآن الكريم ؛ والكتب المتخصصة مفعمة مملئه بها .. إنما المهم في هذا الشأن أن تأسيس اليقين في قلوب الموقنين ؛ وإرساء الإيمان في قلوب المؤمنين ؛ واعتناق الدين ؛ واستئصال العدوان من نفوس المعتدين ؛ كان العامل الفعال فيه بشراً اكتملت في خلقه عناصر الكمال الإنساني ؛ وانتهت إلى شخصيته أمجاد الفطرة البشرية الناصعة ؛ فكان أتباعه من أعمق الناس حباً له ؛ لأنه أهل لكل حب ؛ وكان أعداؤه من أشد الناس تهيباً له لأنهم يدركون ويوقنون بطولة يعز تناولها ويصعب الكيد لها . وكـان هو في محبـة المؤمنين بـراً ودوداً تنبثـق من فـؤاده النبيل عواطف جياشة لا ينضب معينها ؛ ولا يعكر صفوها ؛ واتسعت للسابقين واللاحقين من أمته ؛ من رآهم ومن لم يراهم . حتى سمعه أصحابه يقول : " وددت أنا قد رأينا إخواننا " قالوا: أوولسنا إخوانك يارسول الله ..؟ قال : أنتم أصحابي ؛ أما إخواناً الذين لم يأتواْ بعد . فأي حب هذا الذي يمتد مع العصور المستقبلة ليرتبط بقلوب لا يزال بنوها في ضمير الغيب . أما أعداؤه فحسبك من نقاء صدره أن ابن أبى – الذي طعن الرسول صلى الله عليه وسلم في شرفه وافترى آلافك على أهله – كفن يوم مات في قميص الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وان النبي السمح لم يرفض الاستغفار له حتى أمره الله بالكف عن ذلك ..
الأمر الثاني :
أما الأمر الثاني الذي يمتاز به محمد صلى الله عليه وسلم من حيث هو إنسان هو الوحي الذي اصطفاه الله له ؛ وهو وحى يتضمن الدين كله من أزل العالم إلى أبده .. فإن القرآن الكريم جمع كل ما ينبغي أن يعرف عن الله ؛ ونزهه عن كل ما لا يليق بجلالة ؛ والذي أمر الناس بأوامر الله تعالى وبلغ الوحي إليهم هو محمد صلى الله عليه وسلم ؛ أوامر و نواهي ؛ قصص قرآني يستخلص منه العبرة والعظة ؛ فالقرآن هو الدستور السماوي المنزل لتسير عليه البشرية إلى قيام الساعة ؛ وقد بلغه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس ؛ فمنهم من ءامن ؛ ومنهم من كفر ؛ والحديث عن القرآن يطول .. ومن ثم فان الرسول صلى الله عليه وسلم بشر يزينه كما الخلق ؛ ويعصمه وحى الله ؛ بشر تلتمس القدوة الصالحة من مسالكه في السر والعلن . ولقد رأيت هدى الكمال البشرى في عبادته وقيادته جميعاً . ويبين القرآن الكريم الحكمة من جعل الرسول إنساناً لا ملاكاً ؛ فيذكر أن ذلك يرجع إلى حاجة البشر لمن يستطيعون التلقي منه والسير وراءه ؛ حيث قال الله : " وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) ) " سورة الإسراء
ومكان الأسوة في حياة الرسول ظاهر ؛ فمن تقاليده أخذت أركان الإسلام من صلاة وصيام وحج وزكاة .. وعن محبته واقتفاء أثره تخرج من الصحابة من لا تعرف الحياة لهم نظير . وحياة الأنبياء ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم تحلق في مستوى الكمال الانسانى ؛ لا تهبط عنه أبداً ؛ والمؤمن من عامة الناس تتذبذب حرارته في مدارج الارتقاء ؛ ويعتبر الحد الأسمى له هو مقام الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه ؛ فان لم تكن تراه فهو يراك . بيد أن مقام الإحسان وهو أخر ما يصل إليه الناس بعد الجهد الجهيد والمران الشديد ؛ لكنه هو المرتبة الدنيا للأفق الذي يعيش فيه الأنبياء ؛ إذ يستحيل أن يسقطواْ دونه ؛ أما مايرقون فيه من الرقى - بعـد – من معاني الصلة بالله فأمر لا ندرك كنهه ولا نعرف قدره .. وما عليه علماء المسلمين أن العصمة واجبة لرسل الله كافة . ولا يمكن أن تصدر من أحدهم كبيرة ؛ لا قبل الوحي ؛ ولا بعد الوحي . ولا تصدر من أحدهم صغيرة تخل بالمروءة أو تسقط الاعتبار . ولكن قد تقع من بعضهم أخطاء يعاتبون من الله عليها ويوفقون إلى الصواب ؛ لكن هذه الأخطاء لاتصل إلى أمور اعتقاديه أو خلقية مما يعد الوقوع فيها أمراً شائناً ؛ لكنها في حقيقتها هي أمور تقديرية تتفاوت فيها الأنظار عادة من شئون الدنيا وسياسات الأمم ؛ فهي ليست تقصير إذا نسبت للبشر العادي ؛ لكنها بالنسبة للمقربين نوع من أنواع القصور الذي لا يجب أن يكون . وقد يعتبر الأنبياء والمرسلين أنفسهم مقصرين في حق الله ؛ لأنهم أعرف الناس به وبجلال ذاته وعظمة حقوقه على عباده ؛ وبقصور الهمم مهما بذلت عن الوفاء بما ينبغي أن يكون . وإذا كانوا يعدون بعض الأمور أخطاء أو ذنوباً تتطلب الاستغفار ؛ فليس هذا الاستغفار من الأنبياء عن مثل ما نقترف نحن من خطايا وسيئات ..! فمن اعتقد ذلك فانه واهم ..! لكنهم لأنهم أعرف الناس بعظمة الله وجلاله ؛ هم دائماً لديهم شعور بالتقصير .. وتستطيع أن تفهم ذلك تماماً ممـا ورد في السـنة من أنه ؛ ما من موضع في السـماء إلا به ملك ساجد أو راكع أو مستغفر حتى تقوم الساعة ؛ فإذا قامت الساعة تقول الملائكة : ربنا اغفر لنا ما عبدناك حق عبادتك .. لأنهم أعرف بجلال الله .
المعجزة بين الرسالة الخاتمة والرسالات الأولى
جرت سنة الله في أنبيائه جميعاً أن يؤيدهم بالمعجزات الواضحة ؛ وأن يسوق بين أيديهم من الخوارق ما يلفت الأنظار ويستهوى الأفئدة ؛ ثم يبنى سبحانه وتعالى بعد ذلك اليقين وعناصر الاستقرار ودواعي الطمأنينة فى النفوس . ومن ثم كـان طـب عيسى معجـزة غـير إنجيله ؛ وكـانت عصـا موسى معجـزة غير توارته ؛ إلا ان الله تعـالى شـاء أن يجعـل معجزة الرسـالة الخاتمـة شيئـاً لا ينفصـل عن جوهرها . وجعل من أصول الدعوة وأساليب عرضها البرهان الأكبر لدعوى الرسالة ؛ والسند الأعظم لصدق صاحبها .. فان القرآن الكريم - بما تضمن من دساتير العدالة الخُلقية والاجتماعية والسياسية التى تغرس فى الطبائع من أثار الادب والتربية والاستقامة هو رسالة الاسلام ومعجزته فى ذات الوقت .. وأعظم مافى هذه الآيات أن الفطرة الانسانية تجد فيها معالها الحيوى فى جوها المتنفس الطلق الحر . ومن ثم كان القرآن الكريم كتاباً انسانياً ؛ وكان نبى القرآن إنساناً كاملاً ؛ وكانت رسالة الاسلام فى موضوعها وأهدافها إنسانية بحتة ؛ تهتم فى المقام الأول بالانسان وكيف يعيش منسجماً مع الكون حوله الذى خلقه الله من أجله . ولئن كان القرآن الكريم هو الكتاب الذى يصور للانسانية أفاق كمالها ؛ فإن محمداً صلوات الله وسلامه عليه هو الرجل الذى حقق فى شخصه وفى أثاره أعلى ما تنشده الإنسانية من مثل . فقد رفع شأن الضمير عندما أعلن ان التقوى تستقر فى القلوب الذكية ولا تغنى عنها قشور العبادات ؛ وثبت قيمة العقل وجعله أصل دينه ؛ فقد وردت فى القرآن الكريم العديد من الآيات ؛ وجاء فى السنة النبوية المطهرة فى غير موضع ما يجزم بذلك ويرسى من شأنه . وهـو ما أســس عليه المسلمـون حضــارة متشعبـة الثقـافـات والفنـون ؛ وصلت ما انقطـع من تراث الانسـانية الفكـرى ؛ وكـانت البذور المنتجة التى أورثت العالم حضارته الحديثة ..! ثم ان هذا النبى صلى الله عليه وسلم هو المحرر الأول للانسان ؛ والمقرر الأول لحرية العقل والضمير ؛ لقد جعل الكون كله مسخراً لنشاط الإنسان الذهنى والبدنى ؛ وجعل الانسان سيد نفسه ؛ سيد لعناصر العالم ؛ عبد لله فقط ؛ فلا سلطة ألبته لدهاقين الساسيات والديانات عليه . وإذا كـان نبى الإسـلام عربى ؛ فـإن الدين الذى جـاء به لا جنسيـة له ؛ وأى جنسية لدين يخاطب العقل حيث كان ؛ يحترمه ؛ ويبنى أدلته على النظر فى فجاج الأرض والسموات .
بين العقل والنبوة
إن تاريخ البشر حافل بأسماء الكثيرين من أصحاب المواهب الرفيعة والكافيات الضخمة ؛ ولقد وعتهم الإنسانية فى ذاكرتها ؛ وسجلت لهم صحائف الخلود فيما قاموا به من أعمال جليلة أضافت إلى سجل البشرية .. وهذه الذاكرة الانسانية ؛ وتلك الصحائف روت للأجيال التالية مجدهم ؛ وكيف كان نبوغهم لتكون منه عبرة حافزة .. والعظمة قدر مشترك بين ألوف من الناس الذين ظهروا فى شتى الاعصار والامصار ؛ ودفعهم امتيازهم المعنوى إلى اعتلاء القمة .. إلا ان العظماء يتفاوتون فيما بينهم تفاوتاً بعيد المدى ؛ فدرجة القمة والامتياز والتفوق ذاتها تجمع فى طياتها مراتب عدة ؛ فكلهم متفوقون ؛ لكنهم مثل فصل أو طابور مدرسي ؛ الكل يوصف بالتفوق ؛ لكنهم صفوف ؛ يأتى بعضها بعد البعض ..! ألا ترى كواكب السماء ونجومها ..؟ أن بعضها أكبر من الآخر ألاف المرات ..! ومع ذلك كلها توصف بانها كواكب .. ! وكلها توصف بأنها فى السماء ..! وكلها توصف بأنها فى السماء شامخة . ومع ذلك فالدرارى الصغيرة ليست من الحصى والجندل ..! فاذا محصنا تاريخ العظماء ؛ وفيهم الانبياء من مبلغى الوحى ؛ وفيهم الفلاسفة من قادة الفكر ؛ وفيهم المخترعون من علماء الكون ؛ وفيهم الزعماء من قادة الجماهير ؛ وفيهم الأدباء من حملة القلم ؛ وفيهم .. وفيهم .. فإن هذا التمحيص وما يستتبعه من موازنه وترجيح ؛ لا يميل بقدر أحد من أولئك إلى الحد الذى يهوى به إلى منازل السوقة ؛ ولكن يبقى فرق بين العباقرة والانبياء .
العباقرة
كثيراً ما تكون العظمة امتداد فى موهبة من مواهب النفس . بل كثيراً ما يكون هذا الامتداد فى موهبة معينة على حساب المواهب أو القدرات الإنسانية الأخرى . فقد يصيب هذا التمييز فى موهبة معينة نواحى أخرى بالضمور والشلل ؛ أو على الأقل يكــون العبقـرى ذو موهبة فى مجال ؛ أما بقية المجـالات الأخــرى فهو فيها مثل ســائر الناس . بل فى كثير من الأحيان تكون بالنسبة للنواحى الأخرى أشد سقوطاً من عوام الناس وأكثر ضراوة ؛ وأبعد شهوة . ومن هـنا لا تعـدم ســيرة كل عظيم من أولئك المشهورين نقطة أو نقاط سوداء وجوانب مشينة . فقد كان " نابليون " قائداً محنكاً مسعر حروب ؛ وقائد ماهراً فى فنون القتال والانتصار ؛ فذ التخطيط والدهاء والمكر الحربى ؛ وصاحب دهاء سياسى ؛ ولكنه كان ساقط الخُلق ؛ فاحش الغدر ؛ يتبع كل الوسائل الغير أخلاقية من أجل الوصول إلى هدفه لا يتوانى عن فعل أى شىء غير أخلاقى من أجل تحقيق النصر ؛ مهما كانت المبادىء التى تطأها قدمه ؛ ومهما كان ما ينال أعداؤه أو خصومه من ألم والاطاحة بمقومات الانسانية ؛ كل ذلك يهون لديه فى مقابل ما يشعر هو به كقائد منتصر .
كان " جاك رسو " سياسياً وأديباً ثائراً من أعظم واضعى دساتير الحرية فى العالم ؛ لكنه كان معوج السلوك ؛ هزيل الشرف ؛ زهيد الأخلاق ؛ رزيل فى كثير من التصرفات التى قد تتعجب من كونه يأتيها . وكان أيضاً " بسمارك " داهية سياسية فى فنون السياسة ؛ لا يبارى ولا يجارى فى دهائه ؛ لكنه كان أيضاً كذاباً خداعاً ؛ لا يفى بعهد ولا ميثاق ؛ تحت بند ومزاعم أن هذه هى السياسة . وهناك من الفلاسفة والشعراء والمفكرين والمخترعين والحكام والامرء والسلاطين من تفجعك أحوالهم وأعمالهم وأخبارهم وتصرفاتهم الشائنة فى كثير من الجوانب ؛ حتى إنك تستعجب كثيراً وتتساءل : كيف يصدر عنهم مثل هذه الأفعال ..؟ والذين طهرت سيرهم من هذه الشوائب ؛ تراهم مبرزين فى ناحية ؛ لكنهم معتادين فى نواحى أخرى . ومنهم من تجده مريض مرض معين بما يفسد عليه أفكاره .. " فأبى العلاء " الرقيق المتشائم لو وهب معدة قوية أو بصراً حاداً لكان لفلسفته اتجاه أخر غير التبرم بالدنيا ؛ وشدة تسخطه عليها ومن أعظم زعماء العالم من تراه أسير عقدة نفسية ؛ أو شذوذ جنسى ؛ أو أثرة حادة ؛ ومنهم المصابون بجنون العظمة وتقديس الذات ؛ وكراهية شىء معين أو محبته بجنون .
ولذلك تتسم حياتهم بالنقائص الموزعة على جانب مستور منهم ؛ وجانب أخر مكشوف للجماهير لا غبار عليه . ولقد اعتبرت الحضارة الاوربية هذا التناقض فى شخصياتهم هو شىء طبيعى ومألوف عادى ؛ ومن ثم اباحت للعظماء أن تكون شخصيتهم مزدوجة . ورأت أن تنتفع الأمم بمواهبهم وأن تتجاوز لهم عن سقطاتهم . فالانجليز يعرفون لأن " نلسن " الذى يعدونه أحد عباقرة زمانه مات وهو يختلس عرض غيره من أصحابه ومعارفه وجيرانه فى علاقات غير شرعيه ؛ لكنهم يغضون الطرف عن ذلك . ويعرفون أيضاً أن " تشرشل " خان عهود شخصية واجتماعية ؛ لكنهم يتعامون ويلتفتواْ عن ذلك . فلندع هذا الفريق المعدود من زعماء العالم إذن ولنرتفع إلى مستوى الطيب والكرم .
الأنبياء
لئن كانت العبقرية هى تميز فى موهبة واحدة أو عدة مواهب ؛ فإن النبوة هى امتداد هذا التمييز والعبقرية فى شتى المواهب ؛ وهى إكتمال عقلى وعاطفى وبدنى ؛ وعصمة من الدنايا ورسوخ فى الفضائل ؛ وعراقة فى النبل والفضل :
هـم الرجــال المصـــابيـح هـم *** كأنهـــم مــن نجــوم حيــة صنعـــوا
أخلاقهم نورهم من أى ناحية ***أقبلت تنظـر فى أخلاقهــم سـطــعوا
فالذين يرشحون للنبوة يصطفون لها اصطفاء .قلوب نقية تربطها بالملأ الأعلى أواصر الطهر والصفاء .وعقول حصيفة ناضجة لا تنخدع عن حقائق الاشياء ؛ ولا يصيبها ما أصاب كبار الفلاسفة من شرود وعماء . وأجسامهم مبرئة من العلل الخبيثة ؛ والأمراض المشوهة المنفرة ؛ وصلة بالناس قوامها البر والخير . فليس يتصور فى حق نبى أنه أخل بحق المروءة والتفضل ؛ أو جاء بما يخدش الحياء والعصمة ؛ أو يخدش الحياء والشرف . ثم أن الرسل أمناء على الوحى السماوى والهداية الإسلامية ؛ فكلامهم حكمة ؛ وحياتهم أسوة ؛ وسريرتهم وعلانيتهم سواء ؛ فليست لأحدهم صفحة مطوية وصفحة مكشوفة معلنه ؛ بل الظاهر كالباطن ؛ طرائق معيشتهم الخاصة كمنهاج دعوتهم العامة تنضح عفافاً واستقامة . ظلوا بين الناس ما شاء الله لهم أن يعيشوا فكانت مجتمعاتهم خير وبركة ؛ فلما قبضوا خلفوا للناس أقدس المواريث ؛ وأقدس تركة . وحسبك أنهم خيرة من خيرة . قال تعالى : ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) سورة الانعام 124
و قال ايضا : ( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (76) ) سورة الحج
وقال أيضا : " وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ " سورة القصص 68
أقدار الرسل ومكانتهم تتفاوت سناءاً وسمواً .
فالرسول فى قبيلة محدودة أفضل منه الرسول إلى مدينة فيها مائة ألف أو يزيدون ؛ وأفضل منهما الرسول لشعب بأسره . وصاحب الكتاب المستقل أفضل ممن يحكم بشريعة سابقة . ولا نزال نرتقى فى مراتب السمو والعظمة . ولا نزال نحلق صعوداً نحو القمة . ولا نزال نقطع أشواطاً بعد أشواط فى مدارج الكمال البشرى . ولا نزال نرتفع حتى نصل الى مستوى تنحسر دونه أبصار العباقرة مهما طمحت . وتشرئب اليه أعناقهم فلا تصل اليه ؛ وتتطامن عنده أقدار الانبياء مهما عظمت لنجد صاحب الرسالة العظمى الى خلق الله قاطبة ؛ ملتقى الفضائل المشرقة ؛ ومظهر المثل العليا التى صورتها الخيالات فصاغها الله إنساناً يمشى على الأرض مطمئناً . ذلكـم هـو محمـد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . ذلكـم منزلة بين عبـاقرة الأرض وامناء الوحى ..! أفق للمجد يزهو على كل أفق ؛ وتسطع فيه أشعة متموجة تنطلق بالحب والحنان والرحمة والعقل والفراسة والحكمة . انه سماء ما طاولتها سماء . هيهات .. هيهات .. أن يدرك كنهه ذلك أحد ..! فالعظيم لا يعرفه إلا العظيم مثله ..! ومن كمحمد فى الناس ..!
كيف ترتقى رقيـك الأنبيـاء *** ياسـماء ما طاولتهـا سـمـاء
لم يساووك فى علاك وقد *** حـال سـنا منك دونهم سـناء