لقاء مع أكرم البشر صلى الله عليه وسلم
لم يشغف العرب فى الجاهلية والإسلام بأكثر من شفغهم بالشجاعة والكرم ؛ فكان الأمراء والملوك أشد حرصاً على أن يذيع الناس ويتناقلواْ كرمهم وشجاعتهم ؛ وكان شعراؤهم يشيدون بأفعالهم ؛ ويختصون هاتين الفضيلتين بالتنويه ؛ محقين حيناً ؛ ومبطلين حيناً ؛ ومبالغين أحياناً كثيرة ..
لكن كرم النبى صلى الله عليه وسلم كان لوناً أخر جديداً لم تعرفه العرب ؛ ولم يألفه غيره ؛ فلم يكن جوده لكسب محمدة ؛ أو اتقاء منقصة ؛ ولم يكن للمباهاة أو اجتلاب المادحين ؛ بل كان فى سبيل الله وابتغاء مرضاته .
كان هذا الكرم فى حماية الدين ؛ وفى مؤازرة الدعوة ؛ وفى محاربة الذين يصدون عن سيبيل الله .
وكان هذا الكرم والانفاق على الفقراء والمساكين الذين فقدواْ أموالهم فى سبيل الله أو عجزواْ عن الكسب ؛ وكان هذا الكرم فى رعاية اليتامى والايامى ؛ وكان هذا الانفاق فى تحرير الارقاء الذين كاتبواْ مالكيهم على مال ؛ وكان أيضاً فى اجتذاب من يرى تأليف قلوبهم من غير المسلمين ؛ ليقوى باجتذابهم الى الاسلام .
وكان من كرم النبى صلى الله عليه وسلم ايثاراً على نفسه وأهله ؛ فهو يعطى أحوج ما يكون الى ما يعطيه ؛ ويبذل الكثير ؛ وهو محتاج الى القليل ؛ لانه لا يستطيع أن يصبر ؛ ولانه يحيا حياة الزهاد ؛ ولانه الملاذ الرفيق ؛ والاب الشفيق ؛ الذى تشغله حاجات بنيه أضعاف ما تشغله حاجات نفسه ؛ وهذه هى الدرجـات العليا من الكـرم التى امتدحها الله فى قوله :
( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (1) سورة الحشر الاية 9
لهذا قالت السيدة عائشة : " ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا ولو شئنا لشبعنا ؛ ولكن كنا نؤثر على أنفسنا " (2) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث رقم 1871 .
وكان ينفق فى سبيل الله ما استطاع أن ينفق ؛ وهو يستقل ما نفق ؛ وكان يعطى العطاء الجزل ؛ فلا يستكثر ما أعطى ؛ وما سُئل عن شىء قط على الاسلام الا اعطاه ؛ وما سُئل شيئاً قط وقال لا .
- أتاه رجل فسأله ؛ فأعطاه غنما سدت ما بين جبيلن ؛ فرجع الى قومه وقال : اسلمواْ فان محمداً يعطى عطاء من لايخشى الفاقه (3) صحيح مسلم – كتاب الفضائل 4/1806 رقم 2312 .
- وحُمل اليه تسعون ألف درهم ؛ فوضعها على حصير ؛ ثم قام اليها فقسمها ؛ فما رد سائلاً حتى فرغ منها .
ولما قفل من حنين جاءه الاعراب يسألونه ؛ فأعطاهم ؛ واضطروه الى شجرة خطفـت رداءه ؛ فوقف يقـول : " أعطونى ردائى ؛ ولو أن لى عدد هذه العضاة (4) العضاة : شجر كثير جداً شائك فى الصحراء نعماً لقسمتها بينكم ؛ ثم لاتجدونى بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً
"(5) صحيح البخارى – كتاب الجهاد والسير
- .
وبلغ من الكرم ان كان يستحى أن يرد سائله خالى اليدين معتذرا بالفاقه ؛ فقد جاءه رجل فسأله ؛ فقال : ما عندى شىء ؛ ولكن ابتع على ؛ فاذا جاءنا شىء قضيناه ؛ فقال عمر بن الخطاب : يارسول الله قد أعطيته من قبل ؛ فما كلفك الله ما تقدر عليه ؛ فكره النبى صلى الله عليه وسلم ؛ فقال رجل من الانصار : يارسول الله: أنفق ولا تخشى من ذى العرش إقلالاً ؛ فابتسم النبى صلى الله عليه وسلم وعرف البشر فى وجهه ثم قال : بهذا أمرت (6) مختصر الشمائل المحدية – للترمذى – صفحة 381 .
وكان جوده فى رمضان كالريح المرسلة ؛ لايمسك شيئاً ؛ قال ابن عباس : كان النبى صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير ؛ وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل ؛ وكان جبريل عليه السلام يلقاه فى رمضان حتى ينسلخ ؛ يعرض عليه النبى صلى الله عليه وسلم القرآن ؛ فاذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة (1) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث برقم 1490 .
قال ابن الزبير : وجه التشبيه بين أجوديته صلى الله عليه وسلم بالخير والريح المرسلة ؛ ان المراد بالريح ريح الرحمة الى يرسلها الله تعالى لانزال الغيث العام الذى يكون سبباً لاصابة الارض الميتة ؛ أى فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة ومن هو بصفة الغنى والكفاية ؛ أكثر مما يعم القيم الناشئة من الريح المرسلة .
يامن له الأخـلاق ما تهـوى العـلا
منهــــا ومــا يتعشـــق الكــــرمـــــاء
زانتك فى الخلق العظيـم الشـمائل
يغــــرى بهـــــن ويولــــع الكبــــراء
فاذا سخوت بلغت بالجـود المدى
وفعـلــت مـا لا تفعـــــــــل الأنـــــواء
واذا عـفــــوت فـقـــادر ومقـتـدر
لا يســــتهيـــن بعفــــوك الجهـــــلاء
واذا رحمـــت فأنــــــت أم أو أب
هــذان فـــى الدنيـــا همــا الرحمـــاء
واذا أخــــذت العهــد أو اعطيتــه
فجميــــع عهــــدك ذمـــــة ووفـــــاء
واذا خطبــــــت فللمنــــابر هــزة
تعــرو النـــدى وللقـلــــــوب بكـــــاء
ولطالما حض النبى صلى الله عليه وسلم على الكرم بمعناه الذى يرتضيه الإسلام ؛ من بذل فى تقوية الجيش ؛ أو فى الدفاع عن الدعوة ؛ أو فى البر بالفقراء .
قال رجل للنبى صلى الله عليه وسلم : أى الصدقة أفضل ..؟ قال " أن تتصدق وأنت صحيح حريص ؛ تأمل الغنى وتخشى الفقر ؛ ولا تمهل حتى اذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ؛ ولفلان كذا ؛ وقد كان لفلان " (1) اللؤلؤ والمرجان فيما تفق عليه الشيخان حديث رقم 611
سـأل رجـل النبى صلى الله عليه وسلم أى الاســلام خير ..؟ يريد أن يعرف أى خصال الاسلام خير ؛ فقال له صلى الله عليه وسلم : " تطعم الطعام ؛ وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف "(2) صحيح البخارى – كتاب الايمان 1511
عد النبى صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله فى ظله يوم القيامة رجلاً تصدق فأخفى ؛ حتى لاتعلم شماله ما أنفقت يمينه (3) متفق عليه & اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث رقم 610
قال صلى الله عليه وسلم لاسماء بنت أبى بكر الصديق : أنفقى ولا تحصى فيحصى الله عليك ؛ ولا توعى فيوعى الله عليك(4) متفق عليه & اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث برقم 608
قال صلى الله عليه وسلم ما من يوم يصبح العباد فيه الا ملكان ينزلان ؛ فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ؛ ويقول الاخر : اللهم عط ممسكاً تلفاً(5) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث رقم 591
وقال صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يؤذ جاره ؛ ومن كان يؤمن بالله واليو الاخر فليكرم ضيفه ؛ ومن كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيراً أو ليصمت (6) مسند الامام أحمد 2/174
وقال صلى الله عليه وسلم اذا طبختم اللحم فأكثروا المرق ؛ فانه أوسع وابلغ للجيران(7) الجامع الصغير للسيوطى 1/397 رقم 741