اكتفاؤه صلى الله عليه وسلم بالتعريض والإشارة في تعليم ما يُستحيا منه
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يكتفي بالتعريض والإشارة في تعليم ما يُستحيا منه .
روى البخاري ومسلم1، واللفظ له ، عن عائشة رضي الله عنها : ((أنَّ أسماء بِنْتَ شَكَل ، سألَتْ النبي صلى الله عليه وسلم عن غُسْلِ المَحيض2؟ فقال : تأخُذُ إحْداكُنَّ ماءها وسِدْرَتَها3فتَطَهَّرُ ، فتُحسن الطُّهور ،ثم تصُبُّ على رأسها ، فتَدْلُكُه دلْكاً شديداً حتى تبْلُغَ شؤونَ رأسِها4، ثم تصُبُّ عليها الماء ، ثم تأخذ فِرْصةً مُمَسَّكَةً فتطهَّرُ بها5.
فقالت أسماء : وكيف تطهَّرُ بها؟ قال : سبحان الله تطهَّرين بها6.
فقالت عائشة ـ وكأنها تُخفي ذلك7ـ : تتبَّعي أثر الدم8.
وسألته عن غسل الجنابة؟ فقال : تأخذ ماء فتطهَّرُ فتُحسِنُ الطُّهور ، أو تُبلِغُ الطُّهور ، ثم تَصُبّ على رأسها فتدْلُكُه حتى تبلُغ شؤون رأسها ، ثم تُفيض عليها الماء9.
فقالت عائشة : نِعْمَ النساء نساء الأنصار ، لم يمنعهنَّ الحياءُ أن يتفقَّهنَ في الدين))10.
--------------------------------------
1 ـ البخاري 1 :353 و354 في كتاب الحيض (باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض) ، ، ومسلم 4 :15 في كتاب الحيض أيضاً .
2 ـ أي عن الغُسْلِ بعد انتهاء الحَيْض .
3 ـ السِّدْرة : واحدةُ ورق السِّدر ، وهو شجرٌ معروف ينبُت في الأرياف والجبال والرَّمْل ، ويُسْتَنْبَتُ فيكون أعظمَ ورقاً وثمراً . وثمرةُ الرّيفيِّ منه طيبةُ الرائحة ، وورقُه يَقلَعُ الأوساخ ويُنقّي البشرة ويُنعِّمُها ، ويشُدُّ الشعر . وإذا أُطلِقَ (السِّدر) في (باب الغُسل) فالمراد به الورق المطحون منه . أفاده الفيومي في ((المصباح المنير)) والحكيم داود الأنطاكي في ((تذكرته)) .
4 ـ شؤون الرأس : مَواصِلُ قبائل قُرون الشعر ومُلتَقاه . والمراد : طلبُ إيصال الماء إلى منابت الشعر ، مُبالغة في الغسل والنظافة .
5 ـ الفِرْصة بكسر الفاء : قِطعة من القُطن أو نحوه . و(مُمَسَّكةً) أي مُطيَّبةً بالمِسْك وهو من أفضل أنواع الطيب : أي تأخُذُ قطعة قطنٍ أو نحوِه مطيَّبةً تتطيَّبُ بها في موضع خروج الدم ، لدفع الرائحة الكريهة .
وهذا الفعل من المرأة أمرٌ مستحبٌّ شرعاً ، أخذاً من هذا الحديث الشريف .
6 ـ لم يُفصِح لها رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تتطهَّرُ بتلك القِطعة الممسَّكة ، إذْ كان موضع ذلك مما يُستحيا من ذكره ، واكتفى بالتسبيح إيذاناً أن ذلك ينبغي أن يكون معلوماً لديها من أمثالِها من النساء .
7 ـ معناه : قالت لها عائشة كلاماً خَفِيّاً تَسمعُهُ المخاطَبة وحدها ، ولا يسمعه الحاضرون في المجلس . وجملة (كأنها تُخفي ذلك) مُدرجةٌ من كلام الراوي في الحديث ، وليست من كلام عائشة رضي الله عنها .
8 ـ أي موضعه الذي يخرُج منه ، فادلُكيه بتلك القُطنة المطيَّبةِ الممسَّكة ، لتزول الرائحة المُنفِّرة من بقايا الحيض .
9 ـ أرشدها صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف إلى أن الغسل من الحيض ، يزيد على غُسل الجنابة ، باستحباب وضع السِّدر في مائه ، ثم بتطييب موضع الدم بعد الفراغ من الاغتسال منه .
10 ـ في هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية الشيءُ الكثير :
*التسبيحُ من المعلِّم عند التعجُّب . ومعناه هنا : كيف يخفى عليكِ هذا الظاهرُ الذي لا يُحتاجُ في فهمه إلى فكر .
*واستحبابُ الكنايات عند تعليم ما يتعلَّق بالعَوْرات .
*وسؤالُ المرأةِ العالم عن أحوالها التي يُحتشَمُ منها .
*والاكتفاءُ بالتعريض والإشارة في الأمور المستهجَنة .
*وتكريرُ الجواب لإفهام السائل . وإنما كرَّره عليه الصلاة والسلام ، مع كونها لم تفهمه أوَّلاً ، لأن الجواب به يؤخذُ من إعراضه صلى الله عليه وسلم بوجهه عند قولِه للسائلة : (تطهَّري) ، أي في المحلِّ الذي يُستحيا التصريحُ به في مواجهة المرأة . فاكتفى بلسانِ الحال عن لسانِ المقال . وفهمَتْهُ عائشة رضي الله عنها ، فتَولَّتْ تعليمَ السائلة .
*وفيه أيضاً من الأمور التعليمية : سَواغِيَةُ تفسير كلام العالم بحضرتِهِ ووجودِه لمن خَفِيَ عليه ، إذا عَرَف أن ذلك يُعجِبُه .
*وجوازُ الأخذِ عن المفضولِ ـ وهو عائشة ـ بحضرة الفاضل وهو سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
*وصحّةُ العَرْضِ ـ أي القراءة من الطالب ـ على (المُحَدِّث) إذا أَقَرَّه، ولو لم يَقُل عَقِبَ ما عرَضه عليه : (نَعَمْ) .
*وأنه لا يُشترَطُ في صحة تحميل العلم فهم السامع لجميع ما يسمعُه .
*والرِّفْقُ بالمتعلِّم ، وإقامةُ العُذْر لمن لا يفهم . =
*وأنَّ المرءَ مطلوبٌ منه ستر عيوبِه ، وإن كانت مما جُبِلَ عليها ، وذلك من جهة أمرِهِ صلى الله عليه وسلم للمرأة بالتطيُّبِ ، لإزالة الرائحة المكروهة .
*وعدم مواجهة السائل بجوابه في مثل هذه الأمور المُستحيا منها ، فإنه قال لها : (تأخُذُ إحداكُنَّ) ولم يقل لها : (تأخذين) رعايةً لزيادةِ الأدب في هذا المقام .
*وحُسْنُ خُلُق المعلِّم الأعظم صلى الله عليه وسلم ، وعظيم حاله وحَيائِه ، زاده الله تشريفاً وتكريماً وتعظيماً بأبي هو وأمي .