ذكر حكمه في النفقة على الزوجات
وأنه لم يقدرها ولا ورد عنه ما يدل على تقديرها وإنما رد الأزواج فيها إلى العرف
ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال في خطبة حجة الوداع بمحضر الجمع العظيم قبل وفاته وثمانين يوما واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وثبت عنه في الصحيحين أن هندا امرأة أبي سفيان قالت له إن أبا سفيان رجل شحيح ليس من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال خذي ما يكفيك بالمعروف وفي سنن أبي داود من حديث حكيم بن معاوية عن أبيه رضي الله عنه قال أتيت رسول فقلت يا رسول الله ما تقول في نسائنا قال أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما ولا تضربوهن ولا تقبحوهن
وهذا الحكم من رسول الله مطابق لكتاب الله عز وجل حيث يقول تعالى
المائدة 89 وقال في كفارة (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا)
المجادلة 4 وقال في فدية الأذى ( ففدية صيام أو صدقة أو نسك)
البقرة 196 وليس في القرآن في إطعام الكفارات غير هذا في موضع واحد منها تقدير ذلك بمد ولا رطل
عن النبي أنه قال لمن وطيء في نهار رمضان أطعم ستين مسكينا وكذلك قال ولم يحد ذلك بمد ولا رطل فالذي دل عليه القرآن والسنة أن الواجب في الكفارات والنفقات هو الإطعام لا وهذا هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو خالد عن حجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي ويعشيهم خبزا وزيتا وقال إسحاق عن الحارث كان علي يقول في إطعام المساكين في كفارة اليمين يغديهم خبزا وزيتا أو خبزا وسمنا
وقال ابن أبي شيبة حدثنا يحيى بن يعلى عن ليث قال كان عبدالله بن مسعود رضي الله يقول ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) قال الخبز والسمن والخبز والزيت والخبز وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أوسط ما يطعم الرجل أهله الخبز واللبن والخبز والخبز والسمن ومن أفضل ما يطعم الرجل أهله الخبز واللحم وقال يزيد بن زريع حدثنا يونس عن محمد بن سيرين أن أبا موسى الأشعري كفر عن يمين مرة فأمر بجيرا أو جبيرا يطعم عنه عشرة مساكين خبزا ولحما وأمر لهم بثوب معقد ظهراني وقال ابن أبي شيبة حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا يحيى بن أيوب عن حميد أن أنسا رضي عنه مرض قبل أن يموت فلم يستطع أن يصوم وكان يجمع ثلاثين مسكينا فيطعمهم خبزا أكلة واحدة وأما التابعون فثبت ذلك عن الأسود بن يزيد وأبي رزين وعبيدة ومحمد بن سيرين البصري وسعيد بن جبير وشريح وجابر بن زيد وطاووس والشعبي وابن بريدة والقاسم وسالم ومحمد بن إبراهيم ومحمد بن كعب وقتادة وإبراهيم النخعي عنهم بذلك في أحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق منهم من يقول يغدي ويعشيهم ومنهم من يقول أكلة واحدة ومنهم من يقول خبز ولحم خبز وزيت خبز وهذا مذهب أهل المدينة وأهل العراق وأحمد في إحدى الروايتين عنه والرواية أن طعام الكفارة مقدر دون نفقة الزوجات
فالأقوال ثلاثة التقدير فيهما كقول الشافعي وحده وعدم التقدير فيهما كقول مالك حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين والتقدير في الكفارة دون النفقة كالرواية عنه قال من نصر هذا القول الفرق بين النفقة والكفارة أن الكفارة لا تختلف باليسار ولا هي مقدرة بالكفاية ولا أوجبها الشارع بالمعروف كنفقة الزوجة والخادم فيها حق لله تعالى لا لآدمي معين فيرضى بالعوض عنه ولهذا لو أخرج القيمة يجزه وروي التقدير فيها عن الصحابة فقال القاضي إسماعيل حدثنا حجاج بن المنهال أبو عوانة عن منصور عن أبي وائل عن يسار بن نمير قال قال عمر إن ناسا يأتوني فأحلف أني لا أعطيهم ثم يبدو لي أن أعطيهم فإذا أمرتك أن تكفر فأطعم عني مساكين لكل مسكين صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من بر
حدثنا حجاج بن المنهال وسليمان بن حرب قالا حدثنا حماد بن سلمة عن سلمة بن كهيل يحيى بن عباد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يايرفا إذا حلفت فحنثت فأطعم ليميني خمسة أصوع عشرة مساكين وقال ابن أبي شيبة حدثنا وكيع عن ابن أبي ليلى عن عمر ابن أبي مرة عن عبدالله بن عن علي قال كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع حدثنا عبدالرحيم وأبو خالد الأحمر عن حجاج عن قرط عن جدته عن عائشة رضي الله عنها قالت إنا نطعم نصف صاع من بر أو صاعا من تمر في اليمين وقال إسماعيل حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام بن أبي عبدالله حدثنا يحيى بن أبي عن أبي سلمة عن زيد بن ثابت قال يجزيء في كفارة اليمين لكل مسكين مد حنطة حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنه إذا ذكر اليمين أعتق وإذا لم يذكرها أطعم عشرة مساكين لكل مسكين مد مد وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما في كفارة اليمين مد ومعه أدمه وأما التابعون فثبت ذلك عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومجاهد وقال كل طعام ذكر القرآن للمساكين فهو نصف صاع وكان يقول في كفارة الأيمان كلها مدان لكل مسكين وقال حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أدركت الناس وهم يعطون في اليمين مدا بالمد الأول وقال القاسم وسالم وأبو سلمة مد مد من بر وقال عطاء بين عشرة ومرة قال مد مد قالوا وقد ثبت في الصحيحين أن النبي قال لكعب بن عجرة في كفارة فدية الأذى أطعم مساكين نصف صاع نصف صاع طعاما لكل مسكين فقدر رسول الله فدية الأذى فجعلنا أصلا وعديناها إلى سائر الكفارات ثم قال من قدر طعام الزوجة ثم رأينا والكفارات قد اشتركا في الوجوب فاعتبرنا إطعام النفقة بإطعام الكفارة الله سبحانه قد قال في جزاء الصيد ( أو كفارة طعام مساكين ) المائدة 95 وما الأمة أن الطعام مقدر فيها ولهذا لو عدم الطعام صام عن كل مد يوما
كما أفتى ابن عباس والناس بعده فهذا ما احتجت به هذه الطائفة على تقدير طعام الكفارة قال الآخرون لا حجة في أحد دون الله ورسوله وإجماع الأمة وقد أمرنا تعالى أن نرد تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله وذلك خير لنا حالا وعاقبة ورأينا الله سبحانه إنما في الكفارة ( إطعام عشرة مساكين ) و (إطعام ستين مسكينا ) فعلق الأمر بالمصدر هو الإطعام ولم يحد لنا جنس الطعام ولا قدره وحد لنا جنس المطعمين وقدرهم الطعام وقيد المطعومين ورأيناه سبحانه حيث ذكر إطعام المسكين في كتابه فإنما به الإطعام المعهود المتعارف كقوله تعالى ( وما أدراك ما العقبة فك رقبة *أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) (البلد:14) وقال ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (الانسان:8) وكان من المعلوم يقينا أنهم لو غدوهم أو عشوهم أو خبزا ولحما أو خبزا ومرقا ونحوه لكانوا ممدوحين داخلين فيمن أثنى عليهم سبحانه عدل عن الطعام الذي هو اسم للمأكول إلى الإطعام الذي هو مصدر صريح وهذا في أنه إذا أطعم المساكين ولم يملكهم فقد امتثل ما أمر به وصح في كل لغة وعرف أطعمهم قالوا وفي أي لغة لا يصدق لفظ الإطعام إلا بالتمليك ولما قال أنس رضي الله عنه إن أطعم الصحابة في وليمة زينب خبزا ولحما كان قد اتخذ طعاما ودعاهم إليه على الولائم وكذلك قوله في وليمة صفية أطعمهم حيسا وهذا أظهر من أن نذكر شواهده وقد زاد ذلك إيضاحا وبيانا بقوله ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) المائدة 89 يقينا أن الرجل إنما يطعم أهله الخبز واللحم والمرق واللبن ونحو ذلك فإذا المساكين من ذلك فقد أطعمهم من أوسط ما يطعم أهله بلا شك ولهذا اتفق الصحابة الله عنهم في إطعام الأهل على أنه غير مقدر كما تقدم والله سبحانه جعله أصلا الكفارة فدل بطريق الأولى على أن طعام الكفارة غير مقدر وأما من قدر طعام الأهل فإنما أخذ من تقدير طعام الكفارة فيقال هذا خلاف مقتضى فإن الله أطلق طعام الأهل وجعله أصلا لطعام الكفارة فعلم أن طعام الكفارة لا كما لا يتقدر أصله ولا يعرف عن صحابي ألبتة تقدير طعام الزوجة مع عموم هذه في كل وقت
قالوا فأما الفروق التي ذكرتموها فليس فيها ما يستلزم تقدير طعام الكفارة وحاصلها فروق أنها لا تختلف باليسار والإعسار وأنها لا تتقدر بالكفاية ولا أوجبها بالمعروف ولا يجوز إخراج العوض عنها وهي حق لله لا تسقط بالإسقاط بخلاف الزوجة فيقال نعم لا شك في صحة هذه الفروق ولكن من أين يستلزم وجوب تقديرها ومدين بل هي إطعام واجب من جنس ما يطعم أهله ومع ثبوت هذه الأحكام لا يدل على بوجه وأما ما ذكرتم عن الصحابة من تقديرها فجوابه من وجهين أحدهما أنا قد ذكرنا عن جماعة منهم علي وأنس وأبو موسى وابن مسعود رضي الله عنهم قالوا يجزيء أن يغديهم ويعشيهم الثاني أن من روي عنهم المد والمدان لم يذكروا ذلك تقديرا وتحديدا بل تمثيلا فإن من روي عنه المد وروي عنه مدان وروي عنه مكوك وروي عنه جواز التغدية والتعشية عنه أكلة وروي عنه رغيف أو رغيفان فإن كان هذا اختلافا فلا حجة فيه وإن كان حال المستفتي وبحسب حال الحالف والمكفر فظاهر وإن كان ذلك على سبيل التمثيل فعلى كل تقدير لا حجة فيه على التقديرين قالوا وأما الإطعام في فدية الأذى فليس من هذا الباب فإن الله سبحانه قال( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (البقرة: من الآية196)
والله سبحانه أطلق هذه الثلاثة ولم يقيدها وصح النبي تقييد الصيام بثلاثة أيام وتقييد النسك بذبح شاة وتقييد الإطعام بستة لكل مسكين نصف صاع ولم يقل سبحانه في فدية الأذى فإطعام ستة مساكين أوجب صدقة مطلقة وصوما مطلقا ودما مطلقا فعينه النبي بالفرق والثلاثة والشاة وأما جزاء الصيد فإنه من غير هذا الباب فإن المخرج إنما يخرج قيمة الصيد من وهي تختلف بالقلة والكثرة فإنها بدل متلف لا ينظر فيها إلى عدد المساكين ينظر فيها إلى مبلغ الطعام فيطعمه المساكين على ما يرى من إطعامهم وتفضيل على بعض فتقدير الطعام فيها على حسب المتلف وهو يقل ويكثر وليس ما يعطاه كل مقدرا ثم إن التقدير بالحب يستلزم أمرا باطلا بين البطلان فإنه إذا كان الواجب لها عليه الحب وأكثر الناس إنما يطعم أهله الخبز فإن جعلتم هذا معاوضة كان ربا ظاهرا لم تجعلوه معاوضة فالحب ثابت لها في ذمته ولم تعتض عنه فلم تبرأ ذمته منه إلا وإبرائها فإذا لم تبرئه طالبته بالحب مدة طويلة مع إنفاقه عليها كل يوم من الخبز والأدم وإن مات أحدهما كان الحب دينا له أو عليه يؤخذ من التركة سعة الإنفاق عليها كل يوم ومعلوم أن الشريعة الكاملة المشتملة على العدل والحكمة والمصلحة تأبى ذلك كل وتدفعه كل الدفع كما يدفعه العقل والعرف ولا يمكن أن يقال إن النفقة التي ذمته تسقط بالذي له عليها من الخبز والأدم لوجهين أحدهما أنه لم يبعه إياها ولا منها حتى يثبت في ذمتها بل هي معه فيه على حكم الضيف لامتناع المعاوضة عن بذلك شرعا ولو قدر ثبوته في ذمتها لما أمكنت المقاصة لاختلاف الدينين جنسا تعتمد اتفاقهما هذا وإن قيل بأحد الوجهين لا يجوز المعاوضة على النفقة مطلقا لا بدراهم ولا بغيرها لأنه معاوضة عما لم ولم يجب فإنها إنما تجب شيئا فشيئا فإنه لا تصح المعاوضة عليها حتى تستقر الزمان فيعاوض عنها كما يعاوض عما هو مستقر في الذمة من الديون ولما لم يجد أصحاب الشافعي من هذا الإشكال مخلصا قال الصحيح أنها إذا أكلت سقطت نفقتها قال في محرره أولى الوجهين السقوط وصححه النووي لجريان الناس عليه في كل عصر واكتفاء الزوجة به وقال الرافعي في الشرح الكبير والأوسط فيه وجهان أقيسهما لا تسقط لأنه لم يوف الواجب وتطوع بما ليس بواجب وصرحوا بأن هذين الوجهين في التي أذن لها قيمها فإن لم يأذن لها لم تسقط وجها واحدا
فصل
وفي حديث هند دليل على جواز قول الرجل في غريمه ما فيه من العيوب عند شكواه وأن ليس بغيبة ونظير ذلك قول الآخر في خصمه يا رسول الله إنه فاجر لا يبالي ما حلف وفيه دليل على تفرد الأب بنفقة أولاده ولا تشاركه فيها الأم وهذا إجماع من إلا قول شاذ لا يلتفت إليه أن على الأم من النفقة بقدر ميراثها وزعم صاحب القول أنه طرد القياس على كل من له ذكر وأنثى في درجة واحدة وهما وارثان فإن عليهما كما لو كان له أخ وأخت أو أم وجد أو ابن وبنت فالنفقة عليهما على ميراثهما فكذلك الأب والأم والصحيح انفراد العصبة بالنفقة وهذا كله كما ينفرد الأب دون الأم بالإنفاق وهذا مقتضى قواعد الشرع فإن العصبة تنفرد بحمل العقل وولاية النكاح وولاية الموت بالولاء وقد نص الشافعي على أنه إذا اجتمع أم وجد أو أب فالنفقة على الجد وهو إحدى الروايات عن أحمد وهي الصحيحة في الدليل وكذلك إن اجتمع ابن وبنت أو وابن أو بنت وابن ابن فقال الشافعي النفقة في هذه المسائل الثلاث على الإبن العصبة وهي إحدى الروايات عن أحمد والثانية أنها على قدر الميراث في المسائل وقال أبو حنيفة النفقة في مسألة الإبن والبنت عليهما نصفان لتساويهما في
وفي مسألة بنت وابن ابن النفقة على البنت لأنها أقرب وفي مسألة أم وبنت على الربع والباقي على البنت وهو قول أحمد وقال الشافعي تنفرد بها البنت لأنها عصبة مع أخيها والصحيح انفراد العصبة بالإنفاق لأنه الوارث المطلق وفيه دليل على أن نفقة الزوجة والأقارب مقدرة بالكفاية وأن ذلك بالمعروف وأن لمن النفقة له أن يأخذها بنفسه إذا منعه إياها من هي عليه وقد احتج بهذا على جواز الحكم على الغائب ولا دليل فيه لأن أبا سفيان كان حاضرا البلد لم يكن مسافرا والنبي لم يسألها البينة ولا يعطى المدعي بمجرد دعواه كان هذا فتوى منه وقد احتج به على مسألة الظفر وأن للإنسان أن يأخذ من مال غريمه إذا ظفر به بقدر الذي جحده إياه ولا يدل لثلاثة أوجه أحدها أن سبب الحق هاهنا ظاهر وهو الزوجية يكون الأخذ في الظاهر فلا يتناوله قول النبي أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من ولهذا نص أحمد على المسألتين مفرقا بينهما فمنع من الأخذ في مسألة الظفر وجوز الأخذ وعمل بكلا الحديثين الثاني أنه يشق على الزوجة أن ترفعه إلى الحاكم فيلزمه بالإنفاق أو الفراق وفي مضرة عليها مع تمكنها من أخذ حقها الثالث أن حقها يتجدد كل يوم فليس هو حقا واحدا مستقرا يمكن أن تستدين عليه أو إلى الحاكم بخلاف حق الدين
فصل
وقد احتج بقصة هند هذه على أن نفقة الزوجة تسقط بمضي الزمان لأنه لم يمكنها من ما مضى لها من قدر الكفاية مع قولها إنه لا يعطيها ما يكفيها ولا دليل فيها لم تدع به ولا طلبته وإنما استفتته هل تأخذ في المستقبل ما يكفيها فأفتاها وبعد فقد اختلف الناس في نفقة الزوجات والأقارب هل يسقطان بمضي الزمان كلاهما أو يسقطان أو تسقط نفقة الأقارب دون الزوجات على ثلاثة أقوال
أحدها أنهما يسقطان بمضي الزمان وهذا مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد
والثاني أنهما لا يسقطان إذا كان القريب طفلا وهذا وجه للشافعية والثالث تسقط نفقة القريب دون نفقة الزوجة وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد ثم الذين أسقطوه بمضي الزمان منهم من قال إذا كان الحاكم قد فرضها لم تسقط قول بعض الشافعية والحنابلة ومنهم من قال لا يؤثر فرض الحاكم في وجوبها شيئا سقطت بمضي الزمان والذي ذكره أبو البركات في محرره الفرق بين نفقة الزوجة القريب في ذلك فقال وإذا غاب مدة ولم ينفق لزمه نفقة الماضي وعنه لا يلزمه أن يكون الحاكم قد فرضها وأما نفقة أقاربه فلا تلزمه لما مضى وإن فرضت إلا أن يستدان عليه بإذن الحاكم هو الصواب وأنه لا تأثير لفرض الحاكم في وجوب نفقة القريب لما مضى من الزمان وتوجيها أما النقل فإنه لا يعرف عن أحمد ولا عن قدماء أصحابه استقرار نفقة بمضي الزمان إذا فرضها الحاكم ولا عن الشافعي وقدماء أصحابه والمحققين منهم كصاحب المهذب والحاوي والشامل والنهاية والتهذيب والبيان والذخائر في هذه الكتب إلا السقوط بدون استثناء فرض وإنما يوجد استقرارها فرضها الحاكم في الوسيط والوجيز وشرح الرافعي وفروعه
وقد صرح نصر المقدسي في والمحاملي في العدة ومحمد بن عثمان في التمهيد والبندنيجي في المعتمد بأنها تستقر ولو فرضها الحاكم وعللوا السقوط بأنها تجب على وجه المواساة لإحياء النفس لا تجب مع يسار المنفق عليه وهذا التعليل يوجب سقوطها فرضت أو لم تفرض وقال المعالي ومما يدل على ذلك أن نفقة القريب إمتاع لا تمليك وما لا يجب فيه وانتهى إلى الكفاية استحال مصيره دينا في الذمة واستبعد لهذا التعليل قول يقول إن نفقة الصغير تستقر بمضي الزمان وبالغ في تضعيفه من جهة أن إيجاب مع إيجاب عوض ما مضى متناقض ثم اعتذر عن تقديرها في صورة الحمل على الأصح قلنا إن النفقة له بأن الحامل مستحقة لها أو منتفعة بها فهي كنفقة الزوجة قال قلنا تتقدر ثم قال هذا في الحمل والولد الصغير أما نفقة غيرهما فلا تصير أصلا انتهى وهذا الذي قاله هؤلاء هو الصواب فإن في تصور فرض الحاكم نظرا لأنه إما أن يعتقد بمضي الزمان أو لا فإن كان يعتقده لم يسغ له الحكم بخلافه وإلزام ما يعتقد غير لازم وإن كان لا يعتقد سقوطها مع أنه لا يعرف به قائل إلا في الطفل الصغير وجه لأصحاب الشافعي فإما أن يعني بالفرض الإيجاب أو إثبات الواجب أو تقديره أو رابعا فإن أريد به الإيجاب فهو تحصيل الحاصل ولا أثر لفرضه وكذلك إن أريد به الواجب ففرضه وعدمه سيان وإن أريد به تقدير الواجب فالتقدير إنما يؤثر في الواجب من الزيادة والنقصان في سقوطه ولا ثبوته فلا أثر لفرضه في الواجب ألبتة هذا مع ما في التقدير من الأدلة التي تقدمت على أن الواجب النفقة بالمعروف فيطعمهم مما يأكل ويكسوهم يلبس وإن أريد به أمر رابع فلا بد من بيانه لينظر فيه قيل الأمر الرابع المراد هو عدم السقوط بمضي الزمان فهذا هو محل الحكم وهو أثر فيه حكم الحاكم وتعلق به قيل فكيف يمكن أن يعتقد السقوط ثم يلزم ويقضي وإن اعتقد عدم السقوط فخلاف الإجماع ومعلوم أن حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن فإذا كانت صفة هذا الواجب سقوطه بمضي الزمان شرعا لم يزله حكم الحاكم عن صفته فإن قيل بقي قسم آخر وهو أن يعتقد الحاكم السقوط بمضي الزمان ما لم يفرض فإن فرضت فهو يحكم باستقرارها لأجل الفرض لا بنفس مضي الزمان
قيل هذا لا يجدي شيئا فإنه إذا اعتقد سقوطها بمضي الزمان وإن هذا هو الحق والشرع يجز له أن يلزم بما يعتقد سقوطه وعدم ثبوته وما هذا إلا بمثابة ما لو ترافع مضطر وصاحب طعام غير مضطر فقضي به للمضطر بعوضه فلم يتفق أخذه حتى زال ولم يعط صاحبه العوض أنه يلزمه بالعوض ويلزم صاحب الطعام ببذله له يستحق النفقة لإحياء مهجته فإذا مضى زمن الوجوب حصل مقصود الشارع من فلا فائدة في الرجوع بما فات من سبب الإحياء ووسيلته مع حصول المقصود عن السبب بسبب آخر فإن قيل فهذا ينتقض عليكم بنفقة الزوجة فإنها تستقر بمضي ولو لم تفرض مع حصول هذا المعنى الذي ذكرتموه بعينه قيل النقض لا بد أن يكون بمعلوم الحكم بالنص أو الإجماع وسقوط نفقة الزوجة بمضي مسألة نزاع فأبو حنيفة وأحمد في رواية يسقطانها والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى لا يسقطانها والذين لا يسقطونها فرقوا بينها وبين نفقة بفروق
أحدها أن نفقة القريب صلة الثاني أن نفقة الزوجة تجب مع اليسار والإعسار بخلاف نفقة القريب الثالث أن نفقة الزوجة تجب مع استغنائها بمالها ونفقة القريب لا تجب إلا مع وحاجته الرابع أن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا للزوجة نفقة ما مضى ولا يعرف عن أحد منهم أنه أوجب للقريب نفقة ما مضى فصح عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا ما مضى ولم يخالف عمر رضي الله عنه في ذلك منهم مخالف قال ابن المنذر رحمه هذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والإجماع ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا قال المسقطون قد شكت هند إلى النبي أن أبا سفيان لا يعطيها كفايتها فأباح لها تأخذ في المستقبل قدر الكفاية ولم يجوز لها أخذ ما مضى وقولكم إنها نفقة معاوضة إنما هي بالصداق وإنما النفقة لكونها في حبسه فهي عانية عنده كالأسير من جملة ونفقتها مواساة وإلا فكل من الزوجين يحصل له من الإستمتاع مثل ما يحصل للآخر عاوضها على المهر فإذا استغنت عن نفقة ما مضى فلا وجه لإلزام الزوج به والنبي جعل نفقة الزوجة كنفقة القريب بالمعروف وكنفقة الرقيق فالأنواع الثلاثة إنما بالمعروف مواساة لإحياء نفس من هو في ملكه وحبسه ومن بينه وبينه رحم وقرابة استغنى عنها بمضي الزمان فلا وجه لإلزام الزوج بها وأي معروف في إلزامه نفقة مضى وحبسه على ذلك والتضييق عليه وتعذيبه بطول الحبس وتعريض الزوجة لقضاء من الدخول والخروج وعشرة الأخدان بانقطاع زوجها عنها وغيبة نظره عليها كما الواقع وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا الله حتى إن الفروج لتعج إلى من حبس حماتها ومن يصونها عنها وتسييبها في أوطارها ومعاذ الله أن يأتي شرع لهذا الفساد الذي قد استطار شراره واستعرت ناره وإنما أمر عمر بن الخطاب إذا طلقوا أن يبعثوا بنفقة ما مضى ولم يأمرهم إذا قدموا أن يفرضوا نفقة ما ولا يعرف ذلك عن صحابي ألبتة ولا يلزم من الإلزام بالنفقة الماضية بعد الطلاق بالكلية الإلزام بها إذا عاد الزوج إلى النفقة والإقامة واستقبل الزوجة ما تحتاج إليه فاعتبار أحدهما بالآخر غير صحيح ونفقة الزوجة تجب يوما بيوم فهي القريب وما مضى فقد استغنت عنه بمضي وقته فلا وجه لإلزام الزوج به وذلك منشأ والبغضاء بين الزوجين وهو ضد ما جعله الله بينهما من المودة والرحمة وهذا هو الصحيح المختار الذي لا تقتضي الشريعة غيره وقد صرح أصحاب الشافعي بأن الزوجة وسكنها يسقطان بمضي الزمان إذا قيل إنهما إمتاع لا تمليك فإن لهم في وجهين
فصل
وأما فرض الدراهم فلا أصل له في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ولا عن أحد من رضي الله عنهم ألبتة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا نص عليه أحد من الأئمة ولا غيرهم من أئمة الإسلام وهذه كتب الآثار والسنن وكلام الأئمة بين فأوجدونا من ذكر فرض الدراهم والله سبحانه أوجب نفقة الأقارب والزوجات بالمعروف وليس من المعروف فرض الدراهم بل المعروف الذي نص عليه صاحب الشرع يطعمهم مما يأكل ويكسوهم مما يلبس ليس المعروف سوى هذا وفرض الدراهم على المنفق المنكر وليست الدراهم من الواجب ولا عوضه ولا يصح الإعتياض عما لم يستقر ولم فإن نفقة الأقارب والزوجات إنما تجب يوما فيوما ولو كانت مستقرة لم تصح عنها بغير رضى الزوج والقريب فإن الدراهم تجعل عوضا عن الواجب الأصلي وهو البر عند الشافعي أو الطعام المعتاد عند الجمهور فكيف يجبر على المعاوضة على بدراهم من غير رضاه ولا إجبار صاحب الشرع له على ذلك فهذا مخالف لقواعد الشرع الأئمة ومصالح العباد ولكن إن اتفق المنفق والمنفق عليه على ذلك جاز هذا مع أنه في جواز اعتياض الزوجة عن النفقة الواجبة لها نزاع معروف في الشافعي وغيره فقيل لا تعتاض لأن نفقتها طعام ثبت في الذمة عوضا فلا تعتاض قبل القبض كالمسلم فيه وعلى هذا فلا يجوز الإعتياض لا بدراهم ولا ثياب ولا شيء وقيل تعتاض بغير الخبز والدقيق فإن الإعتياض بهما ربا هذا إذا كان الإعتياض الماضي فإن كان عن لم يصح عندهم وجها واحدا لأنها بصدد السقوط فلا يعلم استقرارها
(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)(البقرة: من الآية233) البقرة 233 والنبي جعل نفقة المرأة مثل نفقة الخادم وسوى في عدم التقدير وردهما إلى المعروف فقال للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف فجعل نفقتهما بالمعروف ولا ريب أن نفقة الخادم غير مقدرة ولم يقل أحد بتقديرها وصح عنه في الرقيق أنه قال أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون رواه مسلم كما في الزوجة سواء وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال امرأتك تقول إما أن تطعمني وإما أن تطلقني العبد أطعمني واستعملني ويقول الإبن أطعمني إلى من تدعني فجعل نفقة الزوجة والولد كلها الإطعام لا التمليك وروى النسائي هذا مرفوعا إلى النبي كما سيأتي وقال تعالى (من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ) المائدة 89
وصح عن ابن عباس الله عنهما أنه قال الخبز والزيت وصح عن ابن عمر رضي الله عنه الخبز والسمن والتمر ومن أفضل ما تطعمون الخبز واللحم ففسر الصحابة إطعام الأهل بالخبز مع غيره من الأدم والله ورسوله ذكرا الإنفاق من غير تحديد ولا تقدير ولا تقييد فوجب رده إلى العرف لو لم يرده إليه النبي فكيف وهو الذي رد ذلك إلى العرف وأرشد أمته إليه ومن المعلوم أن أهل العرف إنما بينهم في الإنفاق على أهليهم حتى من يوجب التقدير الخبز والإدام دون الحب وأصحابه إنما كانوا ينفقون على أزواجهم كذلك دون تمليك الحب وتقديره نفقة واجبة بالشرع فلم تقدر بالحب كنفقة الرقيق ولو كانت مقدرة لأمر النبي هندا أن تأخذ المقدر لها شرعا ولما أمرها أن تأخذ ما يكفيها من غير تقدير ورد في ذلك إليها ومن المعلوم أن قدر كفايتها لا ينحصر في مدين ولا في رطلين لا يزيد عليهما ولا ينقص ولفظه لم يدل على ذلك بوجه ولا إيماء ولا إشارة مدين أو رطلين خبزا قد يكون أقل من الكفاية فيكون تركا للمعروف وإيجاب قدر مما يأكل الرجل وولده ورقيقه وإن كان أقل من مد أو من رطلي خبز إنفاق فيكون هذا هو الواجب بالكتاب والسنة ولأن الحب يحتاج إلى طحنه وخبزه ذلك فإن أخرجت ذلك من مالها لم تحصل الكفاية بنفقة الزوج وإن فرض عليه ذلك لها من ماله كان الواجب حبا ودراهم ولو طلبت مكان الخبز دراهم أو حبا أو دقيقا أو غيره لم يلزمه بذله ولو عرض عليها ذلك أيضا لم يلزمها قبوله لأن ذلك معاوضة فلا يجبر أحدهما على قبولها ويجوز تراضيهما على ما اتفقا عليه قدروا النفقة اختلفوا فمنهم من قدرها بالحب وهو الشافعي فقال نفقة الفقير بمد النبي لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مد والله سبحانه اعتبر بالنفقة على الأهل فقال ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أو كسوتهم ) المائدة 89
قال وعلى الموسر مدان لأن أكثر ما أوجب الله سبحانه مدان في كفارة الأذى وعلى المتوسط مد ونصف نصف نفقة الموسر ونصف نفقة وقال القاضي أبو يعلى مقدرة بمقدار لا يختلف في القلة والكثرة والواجب رطلان من في كل يوم في حق الموسر والمعسر اعتبارا بالكفارات وإنما يختلفان في صفته لأن الموسر والمعسر سواء في قدر المأكول وما تقوم به البنية وإنما يختلفان جودته فكذلك النفقة الواجبة والجمهور قالوا لا يحفظ عن أحد من الصحابة قط تقدير النفقة لا بمد ولا برطل عنهم بل الذي اتصل به العمل في كل عصر ومصر ما ذكرناه قالوا ومن الذي سلم لكم التقدير بالمد والرطل في الكفارة والذي دل عليه القرآن أن الواجب في الكفارة الإطعام فقط لا التمليك قال تعالى في كفارة اليمين ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ماتطعمون أهليكم)