حكم رسول الله في الإيلاء
ثبت في صحيح البخاري عن أنس قال آلى رسول الله من نسائه وكانت انفكت رجله فأقام مشربة له تسعا وعشرين ليلة ثم نزل فقالوا يا رسول الله آليت شهرا فقال إن الشهر تسعا وعشرين وقد قال سبحانه (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) البقرة 226 الإيلاء لغة الإمتناع باليمين وخص في عرف الشرع بالإمتناع باليمين من وطء الزوجة عدي فعله بأداة من تضمينا له معنى يمتنعون من نسائهم وهو أحسن من إقامة من على وجعل سبحانه للأزواج مدة أربعة أشهر يمتنعون فيها من وطء نسائهم بالإيلاء مضت فإما أن يفيء وإما أن يطلق وقد اشتهر عن علي وابن عباس أن الإيلاء إنما في حال الغضب دون الرضى كما ..وظاهر القرآن مع الجمهور وقد تناظر في هذه المسألة محمد بن سيرين ورجل آخر فاحتج على محمد بقول علي فاحتج محمد بالآية فسكت
وقد دلت الآية على أحكام منها هذا ومنها أن من حلف على ترك الوطء أقل من أربعة أشهر لم يكن مؤليا وهذا قول وفيه قول شاذ أنه مؤل ومنها أنه لا يثبت له حكم الإيلاء حتى يحلف على أكثر من أربعة اشهر فإن كانت مدة أربعة أشهر لم يثبت له حكم الإيلاء لأن الله جعل لهم مدة أربعة أشهر وبعد إما أن يطلقوا وإما أن يفيؤوا وهذا قول الجمهور منهم أحمد والشافعي ومالك أبو حنيفة مؤليا بأربعة أشهر سواء وهذا بناء على أصله أن المدة المضروبة أجل الطلاق بانقضائها والجمهور يجعلون المدة أجلا لاستحقاق المطالبة وهذا موضع فيه السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم فقال الشافعي حدثنا عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال أدركت بضعة عشر رجلا من الصحابة كلهم المؤلي يعني بعد أربعة أشهر وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال سألت اثني عشر من أصحاب رسول الله عن المؤلي فقالوا ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
وقال عبدالله بن مسعود وزيد بن ثابت إذا مضت أربعة أشهر ولم يفيء فيها طلقت منه وهذا قول جماعة من التابعين وقول أبي حنيفة وأصحابه فعند هؤلاء يستحق قبل مضي الأربعة الأشهر فإن فاء وإلا طلقت بمضيها وعند الجمهور لا يستحق حتى تمضي الأربعة الأشهر فحينئذ يقال إما أن تفيء وإما أن تطلق وإن لم أخذ بإيقاع الطلاق إما بالحاكم وإما بحبسه حتى يطلق قال الموقعون للطلاق بمضي المدة آية الإيلاء تدل على ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أن عبدالله بن مسعود قرأ (فإن فاؤوا فيهن فإن الله غفور رحيم ) فإضافة إلى المدة تدل على استحقاق الفيئة فيها وهذه القراءة إما أن تجري مجرى خبر فتوجب العمل وإن لم توجب كونها من القرآن وإما أن تكون قرآنا نسخ لفظه وبقي لا يجوز فيها غير هذا ألبتة الثاني أن الله سبحانه جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر فلو كانت الفيئة بعدها لزادت مدة النص وذلك غير جائز الثالث أنه لو وطئها في مدة الإيلاء لوقعت الفيئة موقعها فدل على استحقاق الفيئة قالوا ولأن الله سبحانه وتعالى جعل لهم تربص أربعة أشهر ثم قال ( فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:227))
وظاهر هذا أن هذا في المدة التي لهم فيها التربص كما إذا قال لغريمه أصبر عليك بديني أربعة فإن وفيتني وإلا حبستك ولا يفهم من هذا إلا إن وفيتني في هذه المدة ولا يفهم إن وفيتني بعدها وإلا كانت مدة الصبر أكثر من أربعة أشهر وقراءة ابن مسعود في تفسير الفيئة بأنها في المدة وأقل مراتبها أن تكون تفسيرا قالوا ولأنه مضروب للفرقة فتعقبه الفرقة كالعدة وكالأجل الذي ضرب لوقوع الطلاق كقوله إذا أربعة أشهر فأنت طالق قال الجمهور لنا من آية الإيلاء عشرة أدلة أحدها أنه أضاف مدة الإيلاء إلى الأزواج وجعلها لهم ولم يجعلها عليهم فوجب ألا المطالبة فيها بل بعدها كأجل الدين ومن أوجب المطالبة فيها لم يكن عنده أجلا ولا يعقل كونها أجلا لهم ويستحق عليهم فيها المطالبة الدليل الثاني قوله ( فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم ) فذكر الفيئة بعد المدة بفاء وهذا يقتضي أن يكون بعد المدة ونظيره قوله سبحانه ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) (البقرة: من الآية229) وهذا بعد الطلاق قطعا فإن قيل فاء التعقيب توجب أن يكون بعد الإيلاء لا بعد المدة قيل قد تقدم في الآية الإيلاء ثم تلاه ذكر المدة ثم أعقبها بذكر الفيئة فإذا أوجبت الفاء التعقيب ما تقدم ذكره لم يجز أن يعود إلى أبعد المذكورين وجب عودها إليهما أو إلى
الدليل الثالث قوله ( وإن عزموا الطلاق ) البقرة 227 وإنما العزم ما عزم العازم فعله كقوله تعالى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) (البقرة: من الآية235) فإن قيل فترك الفيئة عزم على الطلاق قيل هو إرادة جازمة لفعل المعزوم عليه أو تركه وأنتم توقعون الطلاق بمجرد مضي وإن لم يكن منه عزم لا على وطء ولا على تركه بل لو عزم على الفيئة ولم يجامع عليه بمضي المدة ولم يعزم الطلاق فكيفما قدرتم فالآية حجة عليكم الدليل الرابع أن الله سبحانه خيره في الآية بين أمرين الفيئة أو الطلاق والتخيير أمرين لا يكون إلا في حالة واحدة كالكفارات ولو كان في حالتين لكان ترتيبا لا وإذا تقرر هذا فالفيئة عندكم في نفس المدة وعزم الطلاق بانقضاء المدة فلم التخيير في حالة واحدة فإن قيل هو مخير بين أن يفيء في المدة وبين أن يترك الفيئة فيكون عازما للطلاق المدة قيل ترك الفيئة لا يكون عزما للطلاق وإنما يكون عزما عندكم إذا انقضت فلا يتأتى التخيير بين عزم الطلاق وبين الفيئة ألبتة فإنه بمضي المدة يقع عندكم فلا يمكنه الفيئة وفي المدة يمكنه الفيئة ولم يحضر وقت عزم الطلاق هو مضي المدة وحينئذ فهذا دليل خامس مستقل الدليل السادس أن التخيير بين أمرين يقتضي أن يكون فعلهما إليه ليصح منه اختيار كل منهما وتركه وإلا لبطل حكم خياره ومضي المدة ليس إليه ..الدليل السابع أنه سبحانه قال ( وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) فاقتضى أن الطلاق قولا يسمع ليحسن ختم الآية بصفة السمع
الدليل الثامن أنه لو قال لغريمه لك أجل أربعة أشهر فإن وفيتني قبلت منك وإن لم حبستك كان مقتضاه أن الوفاء والحبس بعد المدة لا فيها ولا يعقل المخاطب غير
فإن قيل ما نحن فيه نظير قوله لك الخيار ثلاثة أيام فإن فسخت البيع وإلا لزمك أن الفسخ إنما يقع في الثلاث لا بعدها قيل هذا من أقوى حججنا عليكم فإن العقد اللزوم فجعل له الخيار في مدة ثلاثة أيام فإذا انقضت ولم يفسخ عاد إلى حكمه وهو اللزوم وهكذا الزوجة لها حق على الزوج في الوطء كما له حق قال تعالى (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) البقرة 228 فجعل له الشارع أربعة أشهر لا حق لها فيهن فإذا انقضت المدة عادت على حقها بموجب العقد وهو لا وقوع الطلاق وحينئذ فهذا دليل تاسع مستقل الدليل العاشر أنه سبحانه جعل للمؤلين شيئا وعليهم شيئين فالذي لهم تربص المدة والذي عليهم إما الفيئة وإما الطلاق وعندكم ليس عليهم إلا الفيئة فقط الطلاق فليس عليهم بل ولا إليهم وإنما هو إليه سبحانه عند انقضاء المدة فيحكم عقيب انقضاء المدة شاء أو أبى ومعلوم أن هذا ليس إلى المؤلي ولا عليه وهو ظاهر النص قالوا ولأنها يمين بالله تعالى توجب الكفارة فلم يقع بها الطلاق الأيمان ولأنها مدة قدرها الشرع لم تتقدمها الفرقة فلا يقع بها بينونة كأجل ولأنه لفظ لا يصح أن يقع به الطلاق المعجل فلم يقع به المؤجل كالظهار ولأن كان طلاقا في الجاهلية فنسخ كالظهار فلا يجوز أن يقع به الطلاق لأنه المنسوخ ولما كان عليه أهل الجاهلية
قال الشافعي كانت الفرق الجاهلية تحلف بثلاثة أشياء بالطلاق والظهار والإيلاء الله سبحانه وتعالى الإيلاء والظهار عما كانا عليه في الجاهلية من إيقاع على الزوجة إلى ما استقر عليه حكمهما في الشرع وبقي حكم الطلاق على ما كان هذا لفظه ،قالوا ولأن الطلاق إنما يقع بالصريح والكناية وليس الإيلاء واحدا منهما إذ لو كان لوقع معجلا إن أطلقه أو إلى أجل مسمى إن قيده ولو كان كناية لرجع فيه إلى ولا يرد على هذا اللعان فإنه يوجب الفسخ دون الطلاق والفسخ يقع بغير قول لا يقع إلا بالقول
قالوا وأما قراءة ابن مسعود فغايتها أن تدل على جواز الفيئة في مدة التربص لا على المطالبة بها في المدة وهذا حق لا ننكره وأما قولكم جواز الفيئة في المدة دليل على استحقاقها فيها فهو باطل بالدين المؤجل وأما قولكم إنه لو كانت الفيئة بعد المدة لزادت على أربعة أشهر فليس بصحيح لأن الأشهر مدة لزمن الصبر الذي لا يستحق فيه المطالبة فبمجرد انقضائها يستحق الحق فلها أن تعجل المطالبة به وإما أن تنظره وهذا كسائر الحقوق المعلقة معدودة إنما تستحق عند انقضاء آجالها ولا يقال إن ذلك يستلزم الزيادة على فكذا أجل الإيلاء سواء
فصل
ودلت الآية على أن كل من صح منه الإيلاء بأي يمين حلف فهو مؤل حتى يبر إما أن وإما أن يطلق فكان في هذا حجة لما ذهب إليه من يقول من السلف والخلف إن باليمين بالطلاق إما أن يفيء وإما أن يطلق ومن يلزمه الطلاق على كل حال لم إدخال هذه اليمين في حكم الإيلاء فإنه إذا قال إن وطئتك إلى سنة فأنت طالق فإذا مضت أربعة أشهر لا يقولون له إما أن تطأ وإما أن تطلق بل يقولون له إن طلقت وإن لم تطأها طلقنا عليك وأكثرهم لا يمكنه من الإيلاج لوقوع النزع الذي جزء الوطء في أجنبية ولا جواب عن هذا إلا أن يقال بأنه غير مؤل وحينئذ فيقال توقفوه بعد مضي الأربعة الأشهر وقولوا إن له أن يمتنع من وطئها بيمين الطلاق فإن ضربتم له الأجل أثبتم له حكم الإيلاء من غير يمين وإن جعلتموه مؤليا ولم خالفتم حكم الإيلاء وموجب النص فهذا بعض حجج هؤلاء على منازعيهم فإن قيل فما حكم هذه المسألة وهي إذا قال إن وطئتك فأنت طالق ثلاثا قيل اختلف الفقهاء فيها هل يكون مؤليا أم لا على قولين وهما روايتان عن أحمد للشافعي في الجديد أنه يكون مؤليا وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وعلى القولين يمكن من الإيلاج فيه وجهان لأصحاب أحمد والشافعي
أحدهما أنه لا يمكن منه بل يحرم عليه لأنها بالإيلاج تطلق ثلاثا فيصير ما بعد الإيلاج محرما فيكون الإيلاج محرما وهذا كالصائم إذا أنه لم يبق إلى طلوع الفجر إلا قدر إيلاج الذكر دون إخراجه حرم عليه الإيلاج كان في زمن الإباحة لوجود الإخراج في زمن الحظر كذلك هاهنا يحرم عليه الإيلاج كان قبل الطلاق لوجود الإخراج بعده
والثاني أنه لا يحرم عليه الإيلاج قال الماوردي وهو قول سائر أصحابنا لأنها زوجته يحرم عليه الإخراج لأنه ترك وإن طلقت بالإيلاج ويكون المحرم بهذا الوطء الإيلاج لا الإبتداء والنزع وهذا ظاهر نص الشافعي فإنه قال لو طلع الفجر الصائم وهو مجامع وأخرجه مكانه كان على صومه فإن مكث بغير إخراجه أفطر ويكفر في كتاب الإيلاء ولو قال إن وطئتك فأنت طالق ثلاثا وقف فإن فاء فإذا غيب طلقت منه ثلاثا فإن أخرجه ثم أدخله فعليه مهر مثلها قال هؤلاء ويدل على أن رجلا لو قال لرجل ادخل داري ولا تقم استباح الدخول لوجوده عن إذن ووجب الخروج لمنعه من المقام ويكون الخروج وإن كان في زمن الحظر مباحا لأنه ترك هذا المؤلي يستبيح أن يولج ويستبيح أن ينزع ويحرم عليه استدامة الإيلاج في الإيلاج قبل الفجر والنزع بعده للصائم كالخلاف في المؤلي وقيل يحرم على الإيلاج قبل الفجر ولا يحرم على المؤلي والفرق أن التحريم قد يطرأ على بغير الإيلاج فجاز أن يحرم عليه الإيلاج والمؤلي لا يطرأ عليه التحريم بغير فافترقا وقالت طائفة ثالثة لا يحرم عليه الوطء ولا تطلق عليه الزوجة يوقف ويقال له ما أمر الله إما أن تفيء وإما أن تطلق قالوا وكيف يكون مؤليا ولا من الفيئة بل يلزم بالطلاق وإن مكن منها وقع به الطلاق فالطلاق واقع به على مع كونه مؤليا فهذا خلاف ظاهر القرآن بل يقال لهذا إن فاء لم يقع به وإن لم يفيء ألزم بالطلاق وهذا مذهب من يرى اليمين بالطلاق لا يوجب طلاقا يجزئه كفارة يمين وهو قول أهل الظاهر وطاووس وعكرمة وجماعة من أهل الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه