حكم رسول الله في الظهار وبيان ما أنزل الله فيه ومعنى العود الموجب للكفارة
قال تعالى ( الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ* وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المجادلة: 2-4) ثبت في السنن والمساند أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة التي جادلت فيه رسول الله إلى الله وسمع الله شكواها من فوق سبع سماوات فقالت يا رسول الله إن أوس بن تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني ونثرت له بطني جعلني كأمه عنده لها رسول الله ما عندي في أمرك شيء فقالت اللهم إني أشكو إليك ، وروي أنها قالت إن لي صبية صغارا إن ضمهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا فنزل
وقالت عائشة الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت خولة بنت ثعلبة تشكو إلى الله وأنا في كسر البيت يخفى علي بعض كلامها فأنزل الله عز وجل ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع ) المجادلة 1 فقال النبي ليعتق رقبة قالت لا يجد قال فيصوم شهرين متتابعين يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال فليطعم ستين مسكينا قالت ما من شيء يتصدق به قالت فأتي ساعتئذ بعرق من تمر قلت يا رسول الله فإني أعينه آخر قال أحسنت فأطعمي عنه ستين مسكينا وأرجعي إلى ابن عمك
وفي السنن أن سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته مدة شهر رمضان ثم واقعها ليلة انسلاخه فقال له النبي أنت بذاك يا سلمة قال قلت أنا بذاك يا رسول الله وأنا صابر لأمر الله فاحكم في بما أراك الله قال حرر رقبة قلت والذي بعثك نبيا ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال فصم شهرين متتابعين قال وهل الذي أصبت إلا في الصيام قال فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا قلت والذي بالحق لقد بتنا وحشين ما لنا طعام قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها قال فرحت إلى فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله السعة وحسن الرأي أمر لي بصدقتكم ، وفي جامع الترمذي عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي قد ظاهر من امرأته فوقع عليها يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر قال وما حملك على يرحمك قال رأيت خلخالها في ضوء القمر قال فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله قال هذا حسن غريب صحيح وفيه أيضا عن سلمة بن صخر عن النبي في المظاهر يواقع قبل أن يكفر فقال كفارة وقال حسن غريب انتهى وفيه انقطاع بين سليمان بن يسار وسلمة بن صخر وفي مسند البزار عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس رضي عنه قال أتى رجل إلى النبي فقال إني ظاهرت من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن فقال رسول الله ألم يقل الله ( من قبل أن يتماسا ) فقال أعجبتني فقال أمسك حتى تكفر قال البزار لا نعلمه يروى بإسناد أحسن من هذا على أن إسماعيل بن قد تكلم فيه وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم
فتضمنت هذه الأحكام أمورا أحدها إبطال ما كانوا عليه في الجاهلية وفي صدر الإسلام من كون الظهار طلاقا ولو بنيته له فقال أنت علي كظهر أمي أعني به الطلاق لم يكن طلاقا وكان ظهارا وهذا إلا ما عساه من خلاف شاذ وقد نص عليه أحمد والشافعي وغيرهما قال الشافعي ظاهر يريد طلاقا كان ظهارا أو طلق يريد ظهارا كان طلاقا هذا لفظه فلا يجوز أن إلى مذهبه خلاف هذا ونص أحمد على أنه إذا قال أنت علي كظهر أمي أعني به أنه ظهار ولا تطلق به وهذا لأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فنسخ فلم يجز يعاد إلى الحكم المنسوخ وأيضا فأوس بن الصامت إنما نوى به الطلاق على ما كان عليه وأجرى عليه حكم الظهار الطلاق وأيضا فإنه صريح في حكمه فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي أبطله عز وجل بشرعه الله أحق وحكم الله أوجب
ومنها أن الظهار حرام لا يجوز الإقدام عليه لأنه كما أخبر الله عنه منكر من القول وكلاهما حرام والفرق بين جهة كونه منكرا وجهة كونه زورا أن قوله أنت علي كظهر يتضمن إخباره عنها بذلك وإنشاءه تحريمها فهو يتضمن إخبارا وإنشاء فهو خبر زور منكر فإن الزور هو الباطل خلاف الحق الثابت والمنكر خلاف المعروف وختم الآية بقوله تعالى ( وإن الله لعفو غفور ) وفيه إشعار بقيام سبب الإثم الذي عفو الله ومغفرته لآخذ به ومنها أن الكفارة لا تجب بنفس الظهار وإنما تجب بالعود وهذا قول الجمهور وروى عن ابن أبي نجيح عن طاووس قال إذا تكلم بالظهار فقد لزمه وهذه رواية ابن نجيح عنه وروى معمر عن طاووس عن أبيه في قوله تعالى (ثم يعودون لما قالوا ) جعلها عليه كظهر أمه ثم يعود فيطؤها فتحرير رقبة وحكى الناس عن مجاهد أنه تجب بنفس الظهار وحكاه حزم عن الثوري وعثمان البتي وهؤلاء لم يخف عليهم أن العود شرط في الكفارة ولكن عندهم هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من التظاهر كقوله تعالى في الصيد ( ومن عاد فينتقم الله منه ) المائدة 95 أي عاد إلى الإصطياد بعد نزول ولهذا قال ( عفا الله عما سلف ) المائدة 95 قالوا ولأن الكفارة إنما وجبت في ما تكلم به من المنكر والزور وهو الظهار دون الوطء أو العزم عليه قالوا الله سبحانه لما حرم الظهار ونهى عنه كان العود هو فعل المنهي عنه كما قال ( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ) الإسراء 8 أي إن عدتم إلى الذنب عدنا العقوبة فالعود هنا نفس فعل المنهي عنه
قالوا ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فنقل حكمه من الطلاق إلى الظهار ورتب التكفير وتحريم الزوجة حتى يكفر وهذا يقتضي أن يكون حكمه معتبرا بلفظه
ونازعهم الجمهور في ذلك وقالوا إن العود أمر وراء مجرد لفظ الظهار ولا يصح حمل على العود إليه في الإسلام لثلاثة أوجه أحدها أن هذه الآية بيان لحكم من يظاهر في الإسلام ولهذا أتى فيها بلفظ الفعل فقال يظاهرون وإذا كان هذا بيانا لحكم ظهار الإسلام فهو عندكم نفس العود يقول بعده ثم يعودون وإن معنى هذا العود غير الظهار عندكم
الثاني أنه لو كان العود ما ذكرتم وكان المضارع بمعنى الماضي كان تقديره والذين من نسائهم ثم عادوا في الإسلام ولما وجبت الكفارة إلا على من تظاهر في ثم عاد في الإسلام فمن أين على من ابتدأ الظهار في الإسلام غير عائد فإن هنا أمرين ظهار سابق وعود وذلك يبطل حكم الظهار الآن بالكلية إلا أن تجعلوا يظاهرون لفرقة ويعودون ولفظ المضارع نائبا عن لفظ الماضي وذلك مخالف للنظم ومخرج عن الفصاحة
الثالث أن رسول الله أمر أوس بن الصامت وسلمة بن صخر بالكفارة ولم يسألهما هل في الجاهلية أم لا فإن قلتم ولم يسألهما عن العود الذي تجعلونه شرطا ولو شرطا لسألهما عنه قيل أما من يجعل العود نفس الإمساك بعد الظهار زمنا يمكن الطلاق فيه فهذا جار على قوله وهو نفس حجته ومن جعل العود هو الوطء والعزم سياق القصة بين في أن المتظاهرين كان قصدهم الوطء وإنما أمسكوا له وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى
وأما كون الظهار منكرا من القول وزورا فنعم هو كذلك ولكن الله عز وجل إنما أوجب في هذا المنكر والزور بأمرين به وبالعود كما أن حكم الإيلاء إنما يترتب وعلى الوطء لا على أحدهما
فصل
وقال الجمهور لا تجب الكفارة إلا بالعود بعد الظهار ثم اختلفوا في معنى العود هل إعادة لفظ الظهار بعينه أو أمر وراءه على قولين فقال أهل الظاهر كلهم هو إعادة الظهار ولم يحكوا هذا عن أحد من السلف ألبتة وهو قول لم يسبقوا إليه وإن كانت الشكاة يكاد مذهب من المذاهب يخلو عنها قالوا فلم يوجب الله سبحانه الكفارة إلا المعاد لا المبتدأ قالوا والإستدلال بالآية من ثلاثة وجوه أحدها أن العرب لا يعقل في لغاتها العود إلى الشيء إلا فعل مثله مرة ثانية قالوا كتاب الله وكلام رسوله وكلام العرب بيننا وبينكم قال تعالى ( ولو ردوا لعادوا نهوا عنه ) الأنعام 28 فهذا نظير الآية سواء في أنه عدى فعل العود باللام وهو مرة ثانية بمثل ما أتوا به أولا وقال تعالى ( وإن عدتم عدنا ) الإسراء 8 أي كررتم الذنب كررنا العقوبة ومنه قوله تعالى ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) (المجادلة: من الآية8)المجادلة 8 وهذا في سورة الظهار نفسها وهو يبين المراد من فيه فإنه نظيره فعلا وإرادة والعهد قريب بذكره قالوا وأيضا فالذي قالوه هو لفظ الظهار فالعود إلى القول هو الإتيان به مرة ثانية تعقل العرب غير هذا قالوا وأيضا فما عدا تكرار اللفظ إما إمساك وإما عزم وإما وليس واحد منهم بقول فلا يكون الإتيان به عودا لا لفظا ولا معنى ولأن العزم والإمساك ليس ظهارا فيكون الإتيان بها عودا إلى الظهار
قالوا ولو أريد بالعود والرجوع في الشيء الذي منع منه نفسه كما يقال عاد في الهبة ثم يعودون فيما قالوا كما في الحديث العائد في هبته كالعائد في قيئه واحتج أبو محمد بن حزم بحديث عائشة رضي الله عنها أن أوس بن الصامت كان به لمم إذا اشتد به لممه ظاهر من زوجته فأنزل الله عز وجل فيه كفارة الظهار فقال هذا التكرار ولا بد قال ولا يصح في الظهار إلا هذا الخبر وحده قال وأما تشنيعكم بأن هذا القول لم يقل به أحد من الصحابة فأرونا من الصحابة من قال إن العود الوطء أو العزم أو الإمساك أو هو العود إلى الظهار في الجاهلية ولو عن رجل واحد الصحابة فلا تكونون أسعد بأصحاب رسول الله منا أبدا
فصل
ونازعهم الجمهور في ذلك وقالوا ليس معنى العود إعادة اللفظ الأول لأن ذلك لو كان العود لقال ثم يعيدون ما قالوا لأنه يقال أعاد كلامه بعينه وأما عاد فإنما هو الأفعال كما يقال عاد في فعله وفي هبته فهذا استعماله ب في ويقال عاد إلى عمله ولايته وإلى حاله وإلى إحسانه وإساءته ونحو ذلك وعاد له أيضا وأما القول فإنما يقال أعاده كما قال ضماد بن ثعلبة للنبي أعد علي كلماتك وكما أبو سعيد أعدها علي يا رسول الله وهذا ليس بلازم فإنه يقال أعاد مقالته وعاد لمقالته وفي الحديث فعاد لمقالته أعادها سواء وأفسد من هذا رد من رد عليهم بأن إعادة القول محال كإعادة أمس لأنه لا يتهيأ اجتماع زمانين وهذا في غاية الفساد فإن إعادة القول من جنس الفعل وهي الإتيان بمثل الأول لا بعينه والعجب من متعصب يقول لا يعتد بخلاف ويبحث معهم بمثل هذه البحوث ويرد عليهم بمثل هذا الرد وكذلك رد من رد بمثل العائد في هبته فإنه ليس نظير الآية وإنما نظيرها ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) المجادلة 8 ومع هذا فهذه الآية تبين من آية الظهار فإن عودهم لما نهوا عنه هو رجوعهم إلى نفس المنهي عنه وهو وليس المراد به إعادة تلك النجوى بعينها بل رجوعهم إلى المنهي عنه وكذلك تعالى في الظهار ( يعودون لما قالوا ) أي لقولهم فهو مصدر بمعنى المفعول وهو الزوجة بتشبيهها بالمحرمة فالعود إلى المحرم هو العود إليه وهو فعله فهذا من قال إنه الوطء ونكتة المسألة أن القول في معنى المقول والمقول هو التحريم والعود له هو العود وهو استباحته عائدا إليه بعد تحريمه وهذا جار على قواعد اللغة العربية وهذا الذي عليه جمهور السلف والخلف كما قال قتادة وطاووس والحسن ومالك وغيرهم ولا يعرف عن أحد من السلف أنه فسر الآية بإعادة اللفظ ألبتة من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم وهاهنا أمر خفي على من جعله إعادة وهو أن العود إلى الفعل يستلزم مفارقة الحال التي هو عليها الآن وعوده إلى التي كان عليها أولا كما قال تعالى ( وإن عدتم عدنا ) 8 ألا ترى أن عودهم مفارقة ما هم عليه من الإحسان وعودهم إلى الإساءة الشاعر:
وإن عاد للإحسان فالعود أحمد
والحال التي هو عليها الآن التحريم بالظهار والتي كان عليها إباحة الوطء بالنكاح للحل فعود المظاهر عود إلى حل كان عليه قبل الظهار وذلك هو الموجب للكفارة فالعود يقتضي أمرا يعود إليه بعد مفارقته وظهر سر الفرق بين العود في الهبة العود لما قال المظاهر فإن الهبة بمعنى الموهوب وهو عين يتضمن عوده فيه في ملكه وتصرفه فيه كما كان أولا بخلاف المظاهر فإنه بالتحريم قد خرج عن وبالعود قد طلب الرجوع إلى الحال التي كان عليها معها قبل التحريم فكان أن يقال عاد لكذا يعني عاد إليه وفي الهبة عاد إليها وقد أمر النبي أوس الصامت وسلمة بن صخر بكفارة الظهار ولم يتلفظا به مرتين فإنهما لم يخبرا بذلك أنفسهما ولا أخبر به أزواجهما عنهما ولا أحد من الصحابة ولا سألهما النبي هل ذلك مرة أو مرتين ومثل هذا لو كان شرطا لما أهمل بيانه
وسر المسألة أن العود يتضمن أمرين أمرا يعود إليه وأمرا يعود عنه ولا بد منهما يعود عنه يتضمن نقضه وإبطاله والذي يعود إليه يتضمن إيثاره وإرادته فعود يقتضي نقض الظهار وإبطاله وإيثار ضده وإرادته وهذا عين فهم السلف من الآية يقول إن العود هو الإصابة وبعضهم يقول الوطء وبعضهم يقول اللمس وبعضهم يقول
وأما قولكم إنه إنما أوجب الكفارة في الظهار المعاد إن أردتم به لفظه فدعوى بحسب ما فهمتموه وإن أردتم به الظهار المعاد فيه لما قال لم يستلزم ذلك إعادة اللفظ الأول ..وأما حديث عائشة رضي الله عنها في ظهار أوس بن الصامت فما أصحه وما أبعد دلالته مذهبكم
فصل
ثم الذين جعلوا العود أمرا غير إعادة اللفظ اختلفوا فيه هل هو مجرد إمساكها بعد أو أمر غيره على قولين فقالت طائفة هو إمساكها زمنا يتسع لقوله أنت طالق لم يصل الطلاق بالظهار لزمته الكفارة وهو قول الشافعي قال منازعوه وهو في قول مجاهد والثوري فإن هذا النفس الواحد لا يخرج الظهار عن كونه موجب ففي الحقيقة لم يوجب الكفارة إلا لفظ الظهار وزمن قوله أنت طالق لا تأثير في الحكم إيجابا ولا نفيا فتعليق الإيجاب به ممتنع ولا تسمى تلك اللحظة والنفس من الأنفاس عودا لا في لغة العرب ولا في عرف الشارع وأي شيء في هذا الجزء جدا من الزمان من معنى العود أو حقيقته قالوا وهذا ليس بأقوى من قول من قال هو إعادة اللفظ بعينه فإن ذلك قول معقول يفهم العود لغة وحقيقة وأما هذا الجزء من الزمان فلا يفهم من الإنسان فيه العود قالوا ونحن نطالبكم بما طالبتم به الظاهرية من قال هذا القول قبل الشافعي والله سبحانه أوجب الكفارة بالعود بحرف ثم الدالة على التراخي عن الظهار بد أن يكون بين العود وبين الظهار مدة متراخية وهذا ممتنع عندكم وبمجرد انقضاء أنت علي كظهر أمي صار عائدا ما لم يصله بقوله أنت طالق فأين التراخي والمهلة العود والظهار والشافعي لم ينقل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين وإنما أخبر أولى المعاني بالآية فقال الذي عقلت مما سمعت في يعودون لما قالوا أنه إذا أتت المظاهر مدة بعد القول بالظهار لم يحرمها بالطلاق الذي يحرم به وجبت عليه كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرم على نفسه أنه حلال فقد عاد لما قال فأحل ما حرم ولا أعلم له معنى أولى به من هذا انتهى
فصل
والذين جعلوه أمرا وراء الإمساك اختلفوا فيه فقال مالك في إحدى الروايات الأربع وأبو عبيد هو العزم على الوطء وهذا قول القاضي أبي يعلى وأصحابه وأنكره الإمام وقال مالك يقول إذا أجمع لزمته الكفارة فكيف يكون هذا لو طلقها بعد ما يجمع عليه كفارة إلا أن يكون يذهب إلى قول طاووس إذا تكلم بالظهار لزمه مثل الطلاق
ثم اختلف أرباب هذا القول فيما لو مات أحدهما أو طلق بعد العزم وقبل الوطء هل عليه الكفارة فقال مالك وأبو الخطاب تستقر الكفارة وقال القاضي وعامة أصحابه تستقر وعن مالك رواية ثانية أنه العزم على الإمساك وحده ورواية الموطأ خلاف كله أنه العزم على الإمساك والوطء معا وعنه رواية رابعة أنه الوطء نفسه وهذا أبي حنيفة وأحمد وقد قال أحمد في قوله تعالى ( ثم يعودون لما قالوا ) قال إذا أراد أن يغشى كفر وليس هذا باختلاف رواية بل مذهبه الذي لا يعرف عنه أنه الوطء ويلزمه إخراجها قبله عند العزم عليه واحتج أرباب هذا القول بأن الله سبحانه قال في الكفارة ( من قبل أن يتماسا ) فأوجب بعد العود وقبل التماس وهذا صريح في أن العود غير التماس وأن ما يحرم قبل لا يجوز كونه متقدما عليها قالوا ولأنه قصد بالظهار تحريمها والعزم على عود فيما قصده قالوا ولأن الظهار تحريم فإذا أراد استباحتها فقد رجع في ذلك فكان عائدا قال الذين جعلوه الوطء لا ريب أن العود فعل ضد قوله كما تقدم والعائد فيما نهي عنه وإليه وله هو فاعله لا مريده كما قال تعالى ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) فهذا فعل المنهي عنه نفسه لا إرادته ولا يلزم أرباب هذا ما ألزمهم به أصحاب العزم فإن قولهم إن العود يتقدم التكفير والوطء متأخر فهم يقولون إن قوله تعالى ( ثم يعودون لما قالوا ) أي يريدون العود كما قال ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ) وكقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) (المائدة: من الآية6)المائدة 6 ونظائره مما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها وهذا أولى من تفسير العود بنفس اللفظ الأول وبالإمساك نفسا واحدا بعد الظهار لفظ الظهار وبالعزم المجرد لو طلق بعده فإن هذه الأقوال كلها قد تبين فأقرب الأقوال إلى دلالة اللفظ وقواعد الشريعة وأقوال المفسرين هو هذا التوفيق
فصل
ومنها أن من عجز عن الكفارة لم تسقط عنه فإن النبي أعان أوس بن الصامت بعرق من وأعانته امرأته بمثله حتى كفر وأمر سلمة بن صخر أن يأخذ صدقة قومه فيكفر بها نفسه ولو سقطت بالعجز لما أمرهما بإخراجها بل تبقى في ذمته دينا عليه وهذا قول وأحد الروايتين عن أحمد وذهبت طائفة إلى سقوطها بالعجز كما تسقط الواجبات بعجزه عنها وعن إبدالها وذهبت طائفة أن كفارة رمضان لا تبقى في ذمته بل تسقط وغيرها من الكفارات لا تسقط الذي صححه أبو البركات ابن تيمية واحتج من أسقطها بأنها لو وجبت مع العجز لما صرفت إليه فإن الرجل لا يكون مصرفا كما لا يكون مصرفا لزكاته وأرباب القول الأول يقولون إذا عجز عنها وكفر عنه جاز أن يصرفها إليه كما صرف النبي كفارة من جامع في رمضان إليه وإلى وكما أباح لسلمة بن صخر أن يأكل هو وأهله من كفارته التي أخرجها عنه من صدقة وهذا مذهب أحمد رواية واحدة عنه في كفارة من وطيء أهله في رمضان وعنه في سائر روايتان
والسنة تدل على أنه إذا أعسر بالكفارة وكفر عنه غيره جاز صرف كفارته إليه وإلى
فإن قيل فهل يجوز له إذا كان فقيرا له عيال وعليه زكاة يحتاج إليها أن يصرفها نفسه وعياله قيل لا يجوز ذلك لعدم الإخراج المستحق ولكن للإمام أو الساعي أن يدفع زكاته إليه بعد قبضها منه في أصح الروايتين عن فإن قيل فهل له أن يسقطها عنه قيل لا نص عليه والفرق بينهما واضح فإن قيل فإذا أذن السيد لعبده في التكفير بالعتق فهل له أن يعتق نفسه قيل اختلفت فيما إذا أذن له في التكفير بالمال هل له أن ينتقل عن الصيام إليه على إحداهما أنه ليس له ذلك وفرضه الصيام والثانية له الإنتقال إليه ولا يلزمه المنع لحق السيد وقد أذن فيه فإذا قلنا له ذلك فهل له العتق اختلفت الرواية عن أحمد فعنه في ذلك روايتان ووجه المنع أنه ليس من أهل الولاء والعتق يعتمد واختار أبو بكر وغيره أن له الإعتاق فعلى هذا هل له عتق نفسه فيه قولان في ووجه الجواز إطلاق الإذن ووجه المنع أن الإذن في الإعتاق ينصرف إلى إعتاق كما لو أذن له في الصدقة انصرف الإذن إلى الصدقة على غيره
فصل
ومنها أنه لا يجوز وطء المظاهر منها قبل التكفير وقد اختلف هاهنا في موضعين هل له مباشرتها دون الفرج قبل التكفير أم لا والثاني أنه إذا كانت كفارته فهل له الوطء قبله أم لا وفي المسألتين قولان للفقهاء وهما روايتان عن وقولان للشافعي
ووجه منع الإستمتاع بغير الوطء ظاهر قوله تعالى ( من قبل أن يتماسا )ولأنه شبهها بمن يحرم وطؤها ودواعيه ووجه الجواز أن التماس كناية عن ولا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه فإن الحائض يحرم جماعها دون دواعيه يحرم منه الوطء دون دواعيه والمسبية يحرم وطؤها دون دواعيه وهذا قول أبي
وأما المسألة الثانية وهي وطؤها قبل التكفير إذا كان بالإطعام فوجه الجواز أن سبحانه قيد التكفير بكونه قبل المسيس في العتق والصيام وأطلقه في الإطعام منهما حكمة فلو أراد التقييد في الإطعام لذكره كما ذكره في العتق والصيام وهو لم يقيد هذا ويطلق هذا عبثا بل لفائدة مقصودة ولا فائدة إلا تقييد ما قيده ما أطلقه ووجه المنع استفادة حكم ما أطلقه مما قيده إما بيانا على الصحيح قياسا قد ألغي فيه الفارق بين الصورتين وهو سبحانه لا يفرق بين المتماثلين ذكر (من قبل أن يتماسا ) مرتين فلو أعاده ثالثا لطال به الكلام ونبه بذكره على تكرر حكمه في الكفارات ولو ذكره في آخر الكلام مرة واحدة لأوهم اختصاصه الأخيرة ولو ذكره في أول مرة لأوهم اختصاصه بالأولى وإعادته في كل كفارة وكان أفصح الكلام وأبلغه وأوجزه ما وقع وأيضا فإنه نبه بالتكفير قبل المسيس بالصوم مع تطاول زمنه وشدة الحاجة إلى مسيس على أن اشتراط تقدمه في الإطعام الذي لا يطول زمنه أولى
فصل
ومنها أنه سبحانه أمر بالصيام قبل المسيس وذلك يعم المسيس ليلا ونهارا ولا خلاف الأئمة في تحريم وطئها في زمن الصوم ليلا ونهارا وإنما اختلفوا هل يبطل به فيه قولان أحدهما يبطل وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه لا يبطل وهو قول الشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه والذين أبطلوا التتابع معهم ظاهر القرآن فإنه سبحانه أمر بشهرين متتابعين قبل ولم يوجد ولأن ذلك يتضمن النهي عن المسيس قبل إكمال الصيام وتحريمه وهو عدم الإعتداد بالصوم لأنه عمل ليس عليه أمر رسول الله فيكون ردا وسر المسألة أنه سبحانه أوجب أمرين أحدهما تتابع الشهرين والثاني وقوع صيامهما التماس فلا يكون قد أتى بما أمر به إلا بمجموع الأمرين
فصل
ومنها أنه سبحانه وتعالى أطلق إطعام المساكين ولم يقيده بقدر ولا تتابع وذلك أنه لو أطعمهم فغداهم وعشاهم من غير تمليك حب أو تمر جاز وكان ممتثلا لأمر وهذا قول الجمهور ومالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه وسواء أطعمهم أو متفرقين
فصل
ومنها أنه لا بد من استيفاء عدد الستين فلو أطعم واحدا ستين يوما لم يجزه إلا عن هذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه والثانية أن إطعام ستين مسكينا ولو لواحد وهو مذهب أبي حنيفة والثالثة إن وجد غيره لم وإلا أجزأه وهو ظاهر مذهبه وهي أصح الأقوال
فصل
ومنها أنه لا يجزئه دفع الكفارة إلا إلى المساكين ويدخل فيهم الفقراء كما يدخل في لفظ الفقراء عند الإطلاق وعمم أصحابنا وغيرهم الحكم في كل من يأخذ من لحاجته وهم أربعة الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارم لمصلحته والمكاتب القرآن اختصاصها بالمساكين فلا يتعداهم
فصل
ومنها أن الله سبحانه أطلق الرقبة هاهنا ولم يقيدها بالإيمان وقيدها في كفارة بالإيمان فاختلف الفقهاء في اشتراط الإيمان في غير كفارة القتل على قولين الشافعي ومالك وأحمد في ظاهر مذهبه ولم يشترطه أبو حنيفة ولا أهل الظاهر لم يشترطوا الإيمان قالوا لو كان شرطا لبينه الله سبحانه كما بينه في القتل بل يطلق ما أطلقه ويقيد ما قيده فيعمل بالمطلق والمقيد وزادت الحنفية اشتراط الإيمان زيادة على النص وهو نسخ والقرآن لا ينسخ إلا بالقرآن أو خبر قال الآخرون واللفظ للشافعي شرط الله سبحانه في رقبة القتل مؤمنة كما شرط العدل الشهادة وأطلق الشهود في مواضع فاستدللنا به على أن ما أطلق من الشهادات على معنى ما شرط وإنما رد الله أموال المسلمين على المسلمين لا على المشركين وفرض الصدقات فلم تجز إلا للمؤمنين فكذلك ما فرض من الرقاب لا يجوز إلا لمؤمن الشافعي بأن لسان العرب يقتضي حمل المطلق على المقيد إذا كان من جنسه فحمل الشرع على مقتضى لسانهم وهاهنا أمران أحدهما أن حمل المطلق على المقيد بيان لا قياس الثاني أنه إنما يحمل بشرطين أحدهما اتحاد الحكم والثاني أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد فإن كان أصلين مختلفين لم يحمل إطلاقه على أحدهما إلا بدليل يعينه قال الشافعي ولو نذر مطلقة لم يجزه إلا مؤمنة وهذا بناء على هذا الأصل وأن النذر محمول على واجب
وواجب العتق لا يتأدى إلا بعتق المسلم ومما يدل على هذا أن النبي قال لمن في عتق رقبة منذورة ائتني بها فسألها أين الله فقالت في السماء فقال من أنا أنت رسول الله فقال أعتقها فإنها مؤمنة قال الشافعي فلما وصفت الإيمان بعتقها انتهى وهذا ظاهر جدا أن العتق المأمور به شرعا لا يجزيء إلا في رقبة مؤمنة وإلا لم يكن بالإيمان فائدة فإن الأعم متى كان علة للحكم كان الأخص عديم التأثير وأيضا فإن المقصود من إعتاق المسلم تفريغه لعبادة ربه وتخليصه من عبودية المخلوق عبودية الخالق ولا ريب أن هذا أمر مقصود للشارع محبوب له فلا يجوز إلغاؤه وكيف عند الله ورسوله تفريغ العبد لعبادته وحده وتفريغه لعبادة الصليب أو الشمس والنار وقد بين سبحانه اشتراط الإيمان في كفارة القتل وأحال ما سكت عنه على كما بين اشتراط العدالة في الشاهدين وأحال ما أطلقه وسكت عنه على ما بينه غالب مطلقات كلامه سبحانه ومقيداته لمن تأملها وهي أكثر من أن تذكر فمنها قوله تعالى ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:114) وفي موضع آخر بل مواضع يعلق الأجر العمل اكتفاء بالشرط المذكور في موضعه وكذلك قوله تعالى ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) (الانبياء:94)الأنبياء 94 وفي موضع يعلق الجزاء بنفس الصالحة اكتفاء بما علم من شرط الإيمان وهذا غالب في نصوص الوعد والوعيد
فصل
ومنها أنه لو أعتق نصفي رقبتين لم يكن معتقا لرقبة وفي هذا ثلاثة أقوال للناس وهي عن أحمد ثانيها الإجزاء وثالثها وهو أصحها أنه إن تكملت الحرية في الرقبتين وإلا فلا فإنه يصدق عليه أنه حرر رقبة أي جعلها حرة بخلاف ما إذا لم تكمل
فصل
ومنها أن الكفارة لا تسقط بالوطء قبل التكفير ولا تتضاعف بل هي بحالها كفارة كما دل عليه حكم رسول الله الذي تقدم قال الصلت بن دينار سألت عشرة من عن المظاهر يجامع قبل أن يكفر فقالوا كفارة واحدة قال وهم الحسن وابن ومسروق وبكر وقتادة وعطاء وطاووس ومجاهد وعكرمة قال والعاشر أراه نافعا وهذا الأئمة الأربعة
وصح عن ابن عمر وعمرو بن العاص أن عليه كفارتين وذكر سعيد بن منصور عن الحسن في الذي يظاهر ثم يطؤها قبل أن يكفر عليه ثلاث كفارات وذكر عن الزهري بن جبير وأبي يوسف أن الكفارة تسقط ووجه هذا أنه فات وقتها ولم يبق له سبيل إخراجها قبل المسيس وجواب هذا أن فوات وقت الأداء لا يسقط الواجب في الذمة كالصلاة والصيام وسائر ووجه وجوب الكفارتين أن إحداهما الذي اقترن به العود والثانية للوطء المحرم كالوطء في نهار رمضان وكوطء ولا يعلم لإيجاب الثلاث وجه إلا أن يكون عقوبة على إقدامه على الحرام وحكم الله يدل على خلاف هذه الأقوال والله أعلم