حكم رسول الله الذي بينه عن ربه تبارك وتعالى فيمن حرم أمته أو زوجته أو متاعه
قال تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التحريم:1) ثبت في الصحيحين أنه شرب عسلا في زينب بنت جحش فاحتالت عليه عائشة وحفصة حتى قال لن أعود له وفي لفظ وقد حلفت ، وفي سنن النسائي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله كانت له أمة يطؤها فلم تزل عائشة وحفصة حتى حرمها فأنزل الله عزل وجل ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله ) وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين وقال لقد كان لكم في رسول الله حسنة ،، وفي جامع الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت آلى رسول الله من نسائه وحرم الحرام حلالا وجعل في اليمين كفارة هكذا رواه مسلمة بن علقمة عن داود عن عن مسروق عن عائشة ورواه علي بن مسهر وغيره عن الشعبي عن النبي مرسلا وهو انتهى كلام أبي عيسى
وقولها جعل الحرام حلالا أي جعل الشيء الذي حرمه وهو العسل أو الجارية حلالا بعد إياه وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عبدالله بن هبيرة عن قبيصة بن ذؤيب قال زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهم عمن قال لامرأته أنت علي حرام فقالا كفارة يمين وقال عبدالرزاق عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن مسعود رضي الله عنه في التحريم هي يمين يكفرها ، قال ابن حزم وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعائشة أم المؤمنين وقال الحجاج بن منهال جرير بن حازم قال سألت نافعا مولى ابن عمر رضي الله عنه عن الحرام أطلاق هو لا أوليس قد حرم رسول الله جاريته فأمره الله عز وجل أن يكفر عن يمينه يحرمها عليه وقال عبدالرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير وأيوب السختياني كلاهما عن عكرمة أن بن الخطاب قال هي يمين يعني التحريم وقال إسماعيل بن إسحاق حدثنا المقدمي
حدثنا حماد بن زيد عن صخر بن جويرية عن نافع ابن عمر رضي الله عنهما قال الحرام يمين وفي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول إذا حرم ليس بشيء وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فقيل هذا رواية أخرى عن عباس وقيل إنما أراد أنه ليس بطلاق وفيه كفارة يمين ولهذا احتج بفعل رسول الله وهذا الثاني أظهر وهذه المسألة فيها عشرون مذهبا للناس ونحن نذكرها ونذكر وجوهها والراجح منها بعون الله تعالى وتوفيقه أحدها أن التحريم لغو لا شيء فيه لا في الزوجة ولا في غيرها لا طلاق ولا إيلاء يمين ولا ظهار روى وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق ما أبالي امرأتي أو قصعة من ثريد وذكر عبدالرزاق عن الثوري عن صالح بن مسلم الشعبي أنه قال في تحريم المرأة لهي أهون علي من نعلي وذكر عن ابن جريج أخبرني عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه قال ما أبالي حرمتها يعني امرأته أو حرمت النهر وقال قتادة سأل رجل حميد بن عبدالرحمن الحميري عن ذلك فقال قال الله ( فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ) ألم نشرح 7 وأنت رجل تلعب فاذهب فالعب قول أهل الظاهر كلهم
المذهب الثاني أن التحريم في الزوجة طلاق ثلاث قال ابن حزم قاله علي بن أبي طالب بن ثابت وابن عمر وهو قول الحسن ومحمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى وروي عن بن عتيبة قلت الثابت عن زيد بن ثابت وابن عمر ما رواه هو من طريق الليث بن عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي هبيرة عن قبيصة أنه سأل زيد بن ثابت وابن عمر عمن لامرأته أنت علي حرام فقالا جميعا كفارة يمين ولم يصح عنهما خلاف ذلك وأما علي روى أبو محمد بن حزم من طريق يحيى القطان حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي يقول رجال في الحرام هي حرام حتى تنكح زوجا غيره ولا والله ما قال ذلك علي قال علي ما أنا بمحلها ولا بمحرمها عليك إن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر وأما فقد روى أبو محمد من طريق قتادة عنه أنه قال كل حلال علي حرام فهو يمين ولعل محمد غلط على علي وزيد وابن عمر من مسألة الخلية والبرية وألبتة فإن أحمد حكى أنها ثلاث وقال عن علي وابن عمر صحيح فوهم أبو محمد وحكاه في أنت علي حرام وهو وهم ظاهر فإنهم بين التحريم فأفتوا فيه بأنه يمين وبين الخلية فأفتوا فيها بالثلاث ولا أعلم أحدا إنه ثلاث بكل حال
المذهب الثالث أنه ثلاث في حق المدخول بها لا يقبل منه غير ذلك وإن كانت غير بها وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلاث فإن أطلق فواحدة وإن قال لم أرد فإن كان قد تقدم كلام يجوز صرفه إليه قبل منه وإن كان ابتداء لم يقبل وإن أمته أو طعامه أو متاعه فليس بشيء وهذا مذهب مالك المذهب الرابع أنه إن نوى الطلاق كان طلاقا ثم إن نوى به الثلاث فثلاث وإن نوى فواحدة بائنة وإن نوى يمينا فهو يمين فيها كفارة وإن لم ينو شيئا فهو إيلاء حكم الإيلاء فإن نوى الكذب صدق في الفتيا ولم يكن شيئا ويكون في القضاء إيلاء صادف غير الزوجة الأمة والطعام وغيره فهو يمين فيه كفارتها وهذا مذهب أبي حنيفة المذهب الخامس أنه إن نوى به الطلاق كان طلاقا ويقع ما نواه فإن أطلق وقعت واحدة نوى الظهار كان ظهارا وإن نوى اليمين كان يمينا وإن نوى تحريم عينها من غير ولا ظهار فعليه كفارة يمين وإن لم ينو شيئا ففيه قولان أحدهما لا يلزمه شيء يلزمه كفارة يمين وإن صادف جارية فنوى عتقها وقع العتق وإن نوى تحريمها بنفس اللفظ كفارة يمين وإن نوى الظهار منها لم يصح ولم يلزمه شيء وقيل بل يمين وإن لم ينو شيئا ففيه قولان أحدهما لا يلزمه شيء والثاني عليه كفارة وإن صادف غير الزوجة والأمة لم يحرم ولم يلزمه به شيء وهذا مذهب الشافعي
المذهب السادس أنه ظهار بإطلاقه نواه أو لم ينوه إلا أن يصرفه بالنية إلى الطلاق اليمين فينصرف إلى ما نواه هذا ظاهر مذهب أحمد وعنه رواية ثانية أنه بإطلاقه إلا أن يصرفه بالنية إلى الظهار أو الطلاق فينصرف إلى ما نواه وعنه رواية ثالثة أنه ظهار بكل حال ولو نوى غيره وفيه رواية رابعة حكاها أبو الحسين في أنه طلاق بائن وصله بقوله أعني به الطلاق فعنه فيه روايتان إحداهما أنه طلاق فعلى هذا هل الثلاث أو واحدة على روايتين والثانية أنه ظهار أيضا كما لو قال أنت علي أمي أعني به الطلاق هذا تلخيص مذهبه المذهب السابع أنه إن نوى به ثلاثا فهي ثلاث وإن نوى به واحدة فهي واحدة بائنة نوى به يمينا فهي يمين وإن لم ينو شيئا فهي كذبة لا شيء فيها وهذا مذهب سفيان حكاه عنه أبو محمد بن حزم المذهب الثامن أنه طلقة واحدة بائنة بكل حال وهذا مذهب حماد بن أبي سليمان المذهب التاسع أنه إن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة أو لم ينو شيئا فواحدة بائنة مذهب إبراهيم النخعي حكاه عنه أبو محمد بن حزم المذهب العاشر أنه طلقة رجعية حكاه ابن الصباغ وصاحبه أبو بكر الشاشي عن الزهري عمر بن الخطاب المذهب الحادي عشر أنها حرمت عليه بذلك فقط ولم يذكر هؤلاء ظهارا ولا طلاقا ولا بل ألزموه موجب تحريمه قال ابن حزم صح هذا عن علي بن أبي طالب ورجال من لم يسموا وعن أبي هريرة وصح عن الحسن وخلاس بن عمرو وجابر بن زيد وقتادة أمروه باجتنابها فقط المذهب الثاني عشر التوقف في ذلك لا يحرمها المفتي على الزوج ولا يحللها له كما الشعبي عن علي أنه قال ما أنا بمحلها ولا محرمها عليك إن شئت فتقدم وإن شئت المذهب الثالث عشر الفرق بين أن يوقع التحريم منجزا أو معلقا تعليقا مقصودا وبين يخرجه مخرج اليمين فالأول ظهار بكل حال ولو نوى به الطلاق ولو وصله بقوله أعني الطلاق والثاني يمين يلزمه به كفارة يمين فإذا قال أنت علي حرام أو إذا دخل فأنت علي حرام فظهار وإذا قال إن سافرت أو إن أكلت هذا الطعام أو كلمت فلانا علي حرام فيمين مكفرة وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية فهذه أصول في هذه المسألة وتتفرع إلى أكثر من عشرين مذهبا
فصل
فأما من قال التحريم كله لغو لا شيء فيه فاحتجوا بأن الله سبحانه لم يجعل للعبد ولا تحليلا وإنما جعل له تعاطي الأسباب التي بها العين وتحرم كالطلاق والنكاح والبيع والعتق وأما مجرد قوله حرمت كذا وهو حرام فليس إليه قال تعالى (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا لتفتروا على الله الكذب ) النحل 116 وقال تعالى ( يا أيها النبي لم تحرم ما الله لك ) التحريم 1 فإذا كان سبحانه لم يجعل لرسوله أن يحرم ما أحل الله له يجعل لغيره التحريم قالوا وقد قال النبي كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وهذا التحريم كذلك فيكون ردا قالوا ولأنه لا فرق بين تحريم الحلال وتحليل الحرام وكما أن هذا الثاني لغو لا له فكذلك الأول قالوا ولا فرق بين قوله لامرأته أنت علي حرام وبين قوله لطعامه هو علي حرام قالوا وقوله أنت علي حرام إما أن يريد به إنشاء تحريمها أو الإخبار عنها بأنها وإنشاء تحريم محال فإنه ليس إليه إنما هو إلى من أحل الحلال وحرم الحرام وشرع وإن أراد الإخبار فهو كذب فهو إما خبر كاذب أو إنشاء باطل وكلاهما لغو من قالوا ونظرنا فيما سوى هذا القول فرأيناها أقوالا مضطربة متعارضة يرد بعضها بعضا يحرم الزوجة بشيء منها بغير برهان من الله ورسوله فنكون قد ارتكبنا أمرين على الأول وإحلالها لغيره والأصل النكاح حتى تجمع الأمة أو يأتي برهان من الله ورسوله على زواله فيتعين القول فهذا حجة هذا الفريق
فصل
وأما من قال إنه ثلاث بكل حال إن ثبت هذا عنه فيحتج له بأن التحريم جعل كناية في وأعلى أنواعه تحريم الثلاث فيحمل على أعلى أنواع احتياطا للأبضاع وأيضا فإنا تيقنا التحريم بذلك وشككنا هل هو تحريم تزيله الكفارة كالظهار أو تجديد العقد كالخلع أو لا يزيله إلا زوج وإصابة كتحريم الثلاث وهذا متيقن دونه مشكوك فيه فلا يحل بالشك قالوا ولأن الصحابة أفتوا في الخلية والبرية بأنها ثلاث قال أحمد هو عن علي وابن صحيح ومعلوم أن غاية الخلية والبرية أن تصير إلى التحريم فإذا صرح بالغاية فهي أن تكون ثلاثا ولأن المحرم لا يسبق إلى وهمه تحريم امرأته بدون الثلاث فكأن اللفظ صار حقيقة عرفية في إيقاع الثلاث وأيضا فالواحدة لا تحرم إلا بعوض أو قبل الدخول أو عند تقييدها بكونها بائنة عند يراه فالتحريم بها مقيد فإذا أطلق التحريم ولم يقيد انصرف إلى التحريم المطلق يثبت قبل الدخول أو بعده وبعوض وغيره وهو الثلاث
فصل
وأما من جعله ثلاثا في حق المدخول بها وواحدة بائنة في حق غيرها فحجته أن المدخول لا يحرمها إلا الثلاث وغير المدخول بها تحرمها الواحدة فالزائدة عليها ليست من التحريم فأورد على هؤلاء أن المدخول بها يملك الزوج إبانتها بواحدة بائنة بما لا يجدي عليهم شيئا وهو أن الإبانة بالواحدة الموصوفة بأنها بائنة مقيدة بخلاف التحريم فإن الإبانة به مطلقة ولا يكون ذلك إلا بالثلاث وهذا لا يخلصهم من هذا الإلزام فإن إبانة التحريم أعظم تقييدا من قوله أنت طالق بائنة فإن غاية البائنة أن تحرمها وهذا قد صرح بالتحريم فهو أولى بالإبانة من أنت طالق طلقة بائنة
فصل
وأما من جعلها واحدة بائنة في حق المدخول بها وغيرها فمأخذ هذا القول أنها لا عددا بوضعها وإنما تقتضي بينونة يحصل بها التحريم وهو يملك إبانتها بعد بها بواحدة بدون عوض كما إذا قال أنت طالق طلقة بائنة فإن الرجعة حق له أسقطها سقطت ولأنه إذا ملك إبانتها بعوض يأخذه منها ملك الإبانة بدونه فإنه بتركه ولأن العوض مستحق له لا عليه فإذا أسقطه وأبانها فله ذلك
فصل
وأما من قال إنها واحدة رجعية فمأخذه أن التحريم يفيد مطلق انقطاع الملك وهو يصدق منه وهو الواحدة وما زاد عليها فلا تعرض في اللفظ له فلا يسوغ إثباته موجب وإذا أمكن إعمال اللفظ في الواحدة فقد وفي بموجبه فالزيادة عليه لا موجب قالوا وهذا ظاهر جدا على أصل من يجعل الرجعية محرمة وحينئذ فنقول التحريم أعم تحريم رجعية أو تحريم بائن فالدال على الأعم لا يدل على الأخص وإن شئت قلت لا يستلزم الأخص أو ليس الأخص من لوازم الأعم أو الأعم لا ينتج الأخص
فصل
وأما من قال يسأل عما أراد من ظهار أو طلاق رجعي أو محرم أو يمين فيكون ما أراد ذلك فمأخذه أن اللفظ لم يوضع لإيقاع الطلاق خاصة بل هو محتمل للطلاق والظهار فإذا صرف إلى بعضها بالنية فقد استعمله فيما هو صالح له وصرفه إليه بنيته إلى ما أراده ولا يتجاوز به ولا يقصر عنه وكذلك لو نوى عتق أمته بذلك عتقت لو نوى الإيلاء من الزوجة واليمين من الأمة لزمه ما نواه قالوا وأما إذا نوى عينها لزمه بنفس اللفظ كفارة يمين اتباعا لظاهر القرآن وحديث ابن عباس الذي مسلم في صحيحه إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وتلا ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) وهذا يشبه ما قاله مجاهد في الظهار إنه يلزمه التكلم به كفارة الظهار وهو في الحقيقة قول الشافعي رحمه الله فإنه يوجب إذا لم يطلق عقيبه على الفور قالوا ولأن اللفظ يحتمل الإنشاء والإخبار فإن الإخبار فقد استعمله فيما هو صالح له فيقبل منه وإن أراد الإنشاء سئل عن الذي حرمها به فإن قال أردت ثلاثا أو واحدة أو اثنتين قبل منه لصلاحية اللفظ واقترانه بنيته وإن نوى الظهار كان كذلك لأنه صرح بموجب الظهار لأن قوله أنت كظهر أمي موجبه التحريم فإذا نوى ذلك بلفظ التحريم كان ظهارا واحتماله للطلاق لا يزيد على احتماله للظهار بها وإن أراد تحريمها مطلقا فهو يمين مكفرة امتناع منها بالتحريم فهو كامتناعه منها باليمين
فصل
وأما من قال إنه ظهار إلا أن ينوي به طلاقا فمأخذ قوله أن اللفظ موضوع للتحريم منكر من القول وزور فإن العبد ليس إليه التحريم والتحليل وإنما إليه إنشاء التي يرتب عليها ذلك فإذا حرم ما أحل الله له فقد قال المنكر والزور فيكون أنت علي كظهر أمي بل هذا أولى أن يكون ظهارا لأنه إذا شبهها بمن تحرم عليه على التحريم باللزوم فإذا صرح بتحريمها فقد صرح بموجب التشبيه في لفظ الظهار أولى أن يكون ظهارا قالوا وإنما جعلناه طلاقا بالنية فصرفناه إليه بها لأنه كناية في الطلاق إليه بالنية بخلاف إطلاقه فإنه ينصرف إلى الظهار فإذا نوى به اليمين كان إذ من أصل أرباب هذا القول أن تحريم الطعام ونحوه يمين مكفرة فإذا نوى الزوجة اليمين نوى ما يصلح له اللفظ فقبل منه
فصل
وأما من قال إنه ظهار وإن نوى به الطلاق أو وصله بقوله أعني به الطلاق فمأخذ قوله ذكرنا من تقرير كونه ظهارا ولا يخرج عن كونه ظهارا بنية الطلاق كما لو قال أنت كظهر أمي ونوى به الطلاق أو قال أعني به الطلاق فإنه لا يخرج بذلك عن الظهار طلاقا عند الأكثرين إلا على قول شاذ لا يلتفت إليه لموافقته ما كان الأمر في الجاهلية من جعل الظهار طلاقا ونسخ الإسلام لذلك وإبطاله فإذا نوى به فقد نوى ما أبطله الله ورسوله مما كان عليه أهل الجاهلية عند إطلاق لفظ وقد نوى ما لا يحتمله شرعا فلا تؤثر نيته في تغيير ما استقر عليه حكم الله حكم به بين عباده ثم جرى أحمد وأصحابه على أصله من التسوية بين إيقاع ذلك به كالطلاق والعتاق وفرق شيخ الإسلام بين البابين على أصله في التفريق بين والحلف كما فرق الشافعي وأحمد رحمهما الله ومن وافقهما بين البابين في بين أن يحلف به فيكون يمينا مكفرة وبين أن ينجزه أو يعلقه بشرط يقصد وقوعه نذر لازم الوفاء كما سيأتي تقريره في الأيمان إن شاء الله تعالى قال فيلزمهم هذا أن يفرقوا بين إنشاء التحريم وبين الحلف فيكون في الحلف به حالفا يلزمه يمين تنجيزه أو تعليقه بشرط مقصود مظاهرا يلزمه كفارة الظهار وهذا مقتضى المنقول عن عباس رضي الله عنهما فإنه مرة جعله ظهارا ومرة جعله يمينا
فصل
وأما من قال إنه يمين مكفرة بكل حال فمأخذ قوله أن تحريم الحلال من الطعام واللباس يمين تكفر بالنص والمعنى وآثار الصحابة فإن الله سبحانه قال ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض لكم تحلة أيمانكم ) التحريم 1 و 2 ولا بد أن يكون تحريم الحلال داخلا تحت الفرض لأنه سببه وتخصيص محل السبب من جملة العام ممتنع قطعا إذ هو المقصود أولا فلو خص لخلا سبب الحكم عن البيان وهو ممتنع وهذا استدلال في غاية فسألت عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فقال نعم التحريم يمين كبرى في كفارتها كفارة الظهار ويمين صغرى فيما عداها كفارتها كفارة اليمين بالله وهذا معنى قول ابن عباس وغيره من الصحابة ومن بعدهم إن التحريم يمين تكفر فهذا المذاهب في هذه المسألة نقلا وتقريرها استدلالا ولا يخفى على من آثر العلم وجانب التعصب ونصرة ما بني عليه من الأقوال الراجح من المرجوح وبالله
فصل
وقد تبين بما ذكرنا أن من حرم شيئا غير الزوجة من الطعام والشراب واللباس أو أمته يحرم عليه بذلك وعليه كفارة يمين وفي هذا خلاف في ثلاثة مواضع ،أحدها أنه لا يحرم وهذا قول الجمهور وقال أبو حنيفة يحرم تحريما مقيدا تزيله كما إذا ظاهر من امرأته فإنه لا يحل له وطؤها حتى يكفر ولأن الله سبحانه الكفارة في ذلك تحلة وهي ما يوجب الحل فدل على ثبوت التحريم قبلها ولأنه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ( لم تحرم ما أحل الله لك ) ولأنه تحريم لما له فيحرم بتحريمه كما لو حرم زوجته
ومنازعوه يقولون إنما سميت الكفارة تحلة من الحل الذي هو ضد العقد لا من الحل هو مقابل التحريم فهي تحل اليمين بعد عقدها وأما قوله ( لم تحرم ما أحل الله ) فالمراد تحريم الأمة أو العسل ومنع نفسه منه وذلك يسمى تحريما فهو تحريم لا إثبات للتحريم شرعا
وأما قياسه على تحريم الزوجة بالظهار أو بقوله أنت علي حرام فلو صح هذا القياس تقديم التكفير على الحنث قياسا على الظهار إذ كان في معناه وعندهم لا يجوز إلا بعد الحنث فعلى قولهم يلزم أحد أمرين ولا بد إما أن يفعله حراما وقد الله تحلة اليمين فيلزم كون المحرم مفروضا أو من ضرورة المفروض لأنه لا يصل التحلة إلا بفعل المحلوف عليه أو أنه لا سبيل له إلى فعله حلالا لا يجوز تقديم الكفارة فيستفيد بها الحل وإقدامه عليه وهو حرام ممتنع هذا ما في المسألة من الجانبين وبعد فلها غور وفيها دقة وغموض فإن من حرم شيئا فهو بمنزلة من حلف بالله على تركه حلف على تركه لم يجز له هتك حرمة المحلوف به بفعله إلا بالتزام الكفارة فإذا جاز له الإقدام على فعل المحلوف عليه فلو عزم على ترك الكفارة فإن الشارع يبيح له الإقدام على فعل ما حلف عليه ويأذن له فيه وإنما يأذن له فيه ويبيحه التزم ما فرض الله من الكفارة فيكون إذنه له فيه وإباحته بعد امتناعه منه أو التحريم رخصة من الله له ونعمة منه عليه بسبب التزامه لحكمه الذي فرض له الكفارة فإذا لم يلتزمه بقي المنع الذي عقده على نفسه إصرا عليه فإن الله إنما الآصار عمن اتقاه والتزم حكمه وقد كانت اليمين في شرع من قبلنا يتحتم الوفاء ولا يجوز الحنث فوسع الله على هذه الأمة وجوز لها الحنث بشرط الكفارة فإذا لم لا قبل ولا بعد لم يوسع له في الحنث فهذا معنى قوله إنه يحرم حتى يكفر وليس هذا من مفردات أبي حنيفة بل هو أحد القولين في مذهب أحمد يوضحه أن هذا والحلف قد تعلق به منعان منع من نفسه لفعله ومنع من الشارع للحنث بدون فلو لم يحرمه تحريمه أو يمينه لم يكن لمنعه نفسه ولا لمنع الشارع له أثر كان غاية الأمر أن الشارع أوجب في ذمته بهذا المنع صدقة أو عتقا أو صوما لا عليه حل المحلوف عليه ولا تحريمه ألبتة بل هو قبل المنع وبعده على السواء من فرق فلا يكون للكفارة أثر ألبتة لا في المنع منه ولا في الإذن وهذا لا يخفى وأما إلزامه بالإقدام عليه مع تحريمه حيث لا يجوز تقديم الكفارة فجوابه أنه إنما له الإقدام عند عزمه على التكفير فعزمه على التكفير منع من بقاء تحريمه عليه يكون التحريم ثابتا إذا لم يلتزم الكفارة ومع التزامها لا يستمر التحريم
فصل
الثاني أن يلزمه كفارة بالتحريم وهو بمنزلة اليمين وهذا قول من سميناه من الصحابة فقهاء الرأي والحديث إلا الشافعي ومالكا فإنهما قالا لا كفارة عليه بذلك
والذين أوجبوا الكفارة أسعد بالنص من الذين أسقطوها فإن الله سبحانه ذكر تحلة عقب قوله ( لم تحرم ما أحل الله لك ) وهذا صريح في أن تحريم الحلال قد فرض تحلة الأيمان إما مختصا به وإما شاملا له ولغيره فلا يجوز أن يخلى سبب المذكورة في السياق عن حكم الكفارة ويعلق بغيره وهذا ظاهر الإمتناع وأيضا فإن المنع من فعله بالتحريم كالمنع منه باليمين بل أقوى فإن اليمين إن تضمن حرمة اسمه سبحانه فالتحريم تضمن هتك حرمة شرعه وأمره فإنه إذا شرع الشيء حلالا المكلف كان تحريمه هتكا لحرمة ما شرعه ونحن نقول لم يتضمن الحنث في اليمين حرمة الإسم ولا التحريم هتك حرمة الشرع كما يقوله من يقول من الفقهاء وهو فاسد جدا فإن الحنث إما جائز وإما واجب أو مستحب وما جوز الله لأحد ألبتة أن حرمة اسمه وقد شرع الحنث مع الكفارة وأخبر النبي أنه إذا حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها عن يمينه وأتى المحلوف عليه ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تبارك وتعالى لم يبح في قط وإنما الكفارة كما سماها الله تعالى تحلة وهي تفعلة من الحل فهي تحل ما به اليمين ليس إلا وهذا العقد كما يكون باليمين يكون بالتحريم وظهر سر قوله (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) عقيب قوله ( لم تحرم ما أحل الله لك )
فصل
الثالث أنه لا فرق بين التحريم في غير الزوجة بين الأمة وغيرها عند الجمهور إلا وحده أوجب في تحريم الأمة خاصة كفارة يمين إذ التحريم له تأثير في الأبضاع دون غيرها
وأيضا فإن سبب نزول الآية تحريم الجارية فلا يخرج محل السبب عن الحكم ويتعلق ومنازعوه يقولون النص علق فرض تحلة اليمين بتحريم الحلال وهو أعم من تحريم وغيرها فتجب الكفارة حيث وجد سببها وقد تقدم تقريره