فصل في حكمه فيمن طلق ثلاثا بكلمة واحدة
قد تقدم حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله أخبر عن رجل طلق امرأته تطليقات جميعا فقام مغضبا ثم قال أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم وإسناده شرط مسلم فإن ابن وهب قد رواه عن مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه قال سمعت بن لبيد فذكره ومخرمة ثقة بلا شك وقد احتج مسلم في صحيحه بحديثه عن أبيه
والذين أعلوه قالوا لم يسمع منه وإنما هو كتاب قال أبو طالب سألت أحمد بن حنبل عن بن بكير فقال هو ثقة ولم يسمع من أبيه إنما هو كتاب مخرمة فنظر فيه كل شيء بلغني عن سليمان بن يسار فهو من كتاب مخرمة وقال أبو بكر بن أبي خيثمة سمعت بن معين يقول مخرمة بن بكير وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمعه وقال في رواية عباس هو ضعيف وحديثه عن أبيه كتاب ولم يسمعه منه وقال أبو داود لم يسمع من أبيه حديثا واحدا حديث الوتر وقال سعيد بن أبي مريم عن خاله موسى بن سلمة أتيت فقلت حدثك أبوك قال لم أدرك أبي ولكن هذه كتبه والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن كتاب أبيه كان عنده محفوظا مضبوطا فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين حدثه به أو رآه في كتابه بل الأخذ عن النسخة أحوط إذا تيقن الراوي أنها نسخة بعينها وهذه طريقة الصحابة والسلف
وقد كان رسول الله يبعث كتبه إلى الملوك عليهم بها الحجة وكتب كتبه إلى عماله في بلاد الإسلام فعلموا بها واحتجوا ودفع الصديق كتاب رسول الله في الزكاة إلى أنس بن مالك فحمله وعملت به الأمة كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات الذي كان عند آل عمرو ولم يزل السلف يحتجون بكتاب بعضهم إلى بعض ويقول المكتوب إليه كتب إلي فلان أن فلانا ولو بطل الإحتجاج بالكتب لم يبق بأيدي الأمة إلا أيسر اليسير فإن الإعتماد هو على النسخ لا على الحفظ والحفظ خوان والنسخة لا تخون ولا يحفظ في زمن من المتقدمة أن أحدا من أهل العلم رد الإحتجاج بالكتاب وقال لم يشافهني به فلا أقبله بل كلهم مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عنده أنه الجواب الثاني أن قول من قال لم يسمع من أبيه معارض بقول من قال سمع منه ومعه علم وإثبات قال عبدالرحمن بن أبي حاتم سئل أبي عن مخرمة بن بكير فقال صالح قال وقال ابن أبي أويس وجدت في ظهر كتاب مالك سألت مخرمة عما يحدث به عن سمعها من أبيه فحلف لي ورب هذه البنية يعني المسجد سمعت من أبي وقال علي بن سمعت معن بن عيسى مخرمة سمع من أبيه وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار وقال علي ولا مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان لعله سمع منه الشيء اليسير ولم أجد أحدا يخبرني عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول في شيء من حديثه سمعت أبي ومخرمة انتهى ويكفي أن مالكا أخذ كتابه فنظر فيه واحتج به في موطئه وكان يقول حدثني وكان رجلا صالحا وقال أبو حاتم سألت إسماعيل بن أبي أويس قلت هذا الذي يقول بن أنس حدثني الثقة من هو قال مخرمة بن بكير وقيل لأحمد بن صالح المصري كان من ثقات الرجال قال نعم وقال ابن عدي عن ابن وهب ومعن ابن عيسى عن مخرمة حسان مستقيمة وأرجو أنه لا بأس به ..وفي صحيح مسلم قول ابن عمر للمطلق ثلاثا حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت ربك أمرك به من طلاق امرأتك وهذا تفسير منه للطلاق المأمور به وتفسير الصحابي حجة الحاكم هو عندنا مرفوع
تأمل القرآن حق التأمل تبين له ذلك وعرف أن الطلاق المشروع بعد الدخول هو الذي يملك به الرجعة ولم يشرع الله سبحانه إيقاع الثلاث جملة واحدة ألبتة تعالى ( الطلاق مرتان ) ولا تعقل العرب في لغتها وقوع المرتين إلا متعاقبتين قال النبي من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمده ثلاثا وثلاثين وكبره وثلاثين ونظائره فإنه لا يعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبير وتحميد متوال يتلو بعضا فلو قال سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر وثلاثين بهذا اللفظ لكان ثلاث مرات فقط وأصرح من هذا قوله سبحانه ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ) (النور: من الآية6) 6 فلو قال أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين كانت مرة وكذلك قوله ( ويدرؤ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ) النور 8 فلو أشهد بالله أربع شهادات إنه لمن الكاذبين كانت واحدة وأصرح من ذلك قوله تعالى ( سنعذبهم مرتين ) التوبة 101 فهذا مرة بعد مرة ولا ينتقض هذا بقوله تعالى ( نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ) (الأحزاب: من الآية31)الأحزاب 31 وقوله ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين المرتين هنا هما الضعفان وهما المثلان وهما مثلان في القدر كقوله تعالى ( يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ) (الأحزاب: من الآية30)الأحزاب 30 وقوله ( فآتت أكلها ضعفين ) البقرة 265 أي ما يعذب به غيرها وضعفي ما كانت تؤتي ومن هذا قول أنس انشق القمر على عهد الله مرتين أي شقتين وفرقتين كما قال في اللفظ الآخر انشق القمر فلقتين أمر معلوم قطعا أنه إنما انشق القمر مرة واحدة والفرق معلوم بين ما يكون في الزمان وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة فالثاني يتصور فيه المرتين في آن واحد والأول لا يتصور فيه ذلك
ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة أنه قال تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (البقرة: من الآية228) إلى أن قال (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ) 228 فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول فالمطلق أحق فيه بالرجعة سوى المذكورة بعد هذا وكذلك قوله تعالى (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) إلى قوله (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ) هو الطلاق المشروع وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أقسام الطلاق كلها في القرآن أحكامها فذكر الطلاق قبل الدخول وأنه لا عدة فيه وذكر الطلقة الثالثة وأنها الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجا غيره وذكر طلاق الفداء الذي هو الخلع وسماه ولم يحسبه من كما تقدم وذكر الطلاق الرجعي الذي المطلق أحق فيه بالرجعة وهو ما عدا هذه الثلاثة وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول عوض بائنة وأنه إذا قال لها أنت طالق طلقة بائنة كانت رجعية ويلغو وصفها وأنه لا يملك إبانتها إلا بعوض وأما أبو حنيفة فقال تبين بذلك لأن حق له وقد أسقطها والجمهور يقولون وإن كانت الرجعة حقا له لكن نفقة الرجعية حق عليه فلا يملك إسقاطه إلا باختيارها وبذلها العوض أو سؤالها أن تفتدي منه بغير عوض في أحد القولين وهو جواز الخلع بغير عوض وإما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض فخلاف النص قالوا وأيضا فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ويراجعها وإن كان فيه رفق بالرجل ففيه إضرار بالمرأة فنسخ سبحانه ذلك بثلاث وقصر الزوج وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها فإذا استوفى العدد الذي ملكه حرمت عليه في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر ثلاث فهذا شرعه وحكمته وحدوده التي حدها لعباده فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها خلاف شرعه وحكمته وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة بل إنما ملك واحدة فالزائد غير مأذون له فيه
قالوا وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة إذ هو خلاف شرعه لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة إذ هو خلاف شرعه ونكتة المسألة أن الله لم يجعل للأمة طلاقا بائنا قط إلا في موضعين أحدهما طلاق المدخول بها والثاني الطلقة الثالثة وما عداه من الطلاق فقد جعل للزوج فيه هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره وهذا قول الجمهور منهم الإمام أحمد وأهل الظاهر قالوا لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا في الخلع
ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال فيما إذا قال أنت طالق طلقة لا رجعة فيها أحدها أنها قاله ابن الماجشون لأنه قطع حقه من الرجعة وهي لا تنقطع إلا بثلاث فجاءت ضرورة الثاني أنها واحدة بائنة كما قال وهذا قول ابن القاسم لأنه يملك بطلقة بعوض فملكها بدونه والخلع عنده طلاق الثالث أنها واحدة رجعية وهذا ابن وهب وهو الذي يقتضيه الكتاب والسنة والقياس وعليه الأكثرون
فصل
وأما المسألة الثانية وهي وقوع الثلاث بكلمة واحدة فاختلف الناس فيها على أربعة
أحدها أنها تقع وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة رضي عنهم
الثاني أنها لا تقع بل ترد لأنها بدعة محرمة والبدعة مردودة لقوله من عمل عملا عليه أمرنا فهو رد وهذا المذهب أبو محمد بن حزم وحكي للإمام أحمد فأنكره وقال هو قول الرافضة الثالث أنه يقع به واحدة رجعية وهذا ثابت عن ابن عباس ذكره أبو داود عنه قال أحمد وهذا مذهب ابن إسحاق يقول خالف السنة فيرد إلى السنة انتهى وهو قول وعكرمة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية الرابع أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها فتقع الثلاث بالمدخول بها ويقع بغيرها وهذا قول جماعة من أصحاب ابن عباس وهو مذهب إسحاق بن راهويه فيما حكاه عنه بن نصر المروزي في كتاب اختلاف العلماء فأما من لم يوقعها جملة فاحتجوا بأنه طلاق بدعة محرم والبدعة مردودة وقد اعترف محمد ابن حزم بأنها لو كانت بدعة محرمة لوجب أن ترد وتبطل ولكنه اختار مذهب أن جمع الثلاث جائز غير محرم وستأتي حجة هذا القول
وأما من جعلها واحدة فاحتج بالنص والقياس فأما النص فما رواه معمر وابن جريج عن طاووس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر قال نعم رواه مسلم في
وفي لفظ ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من خلافة ترد إلى واحدة قال نعم وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبدالرزاق أن ابن جريج قال أخبرني بعض أبي رافع مولى رسول الله عن عكرمة عن ابن عباس قال طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت النبي فقالت ما يغني عني إلا كما هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي حمية فدعا وإخوته ثم قال لجلسائه ألا ترون أن فلانا يشبه كذا وكذا من عبد بن يزيد وفلانا منه كذا وكذا قالوا نعم قال النبي لعبد يزيد ففعل ثم قال راجع امرأتك أم ركانة وإخوته فقال إني طلقتها ثلاثا يا رسول قال قد علمت راجعها وتلا ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن )
وقال الإمام أحمد حدثنا سعد بن إبراهيم قال حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال حدثني بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن عبدالله بن عباس قال طلق ركانة بن يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا قال رسول الله كيف طلقتها فقال طلقتها ثلاثا فقال في مجلس واحد قال نعم قال تلك واحدة فارجعها إن شئت قال فراجعها فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل قالوا وأما القياس فقد تقدم أن جمع الثلاث محرم وبدعة والبدعة مردودة لأنها ليست أمر رسول الله قالوا وسائر ما تقدم في بيان التحريم يدل على عدم وقوعها جملة ولو لم يكن معنا إلا قوله تعالى (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله ) النور 6 (ويدرؤ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله ) النور 8 قالوا وكذلك كل ما له التكرار من حلف أو إقرار أو شهادة وقد قال النبي تحلفون خمسين يمينا دم صاحبكم فلو قالوا نحلف بالله خمسين يمينا إن فلانا قتله كانت يمينا واحدة قالوا وكذلك بالزنى كما في الحديث إن بعض الصحابة قال لماعز إن أقررت أربعا رجمك رسول فهذا لا يعقل أن تكون الأربع فيه مجموعة بفم واحد وأما الذين فرقوا بين المدخول بها وغيرها فلهم حجتان
إحداهما ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن طاووس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان السؤال لابن عباس قال له أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها قال أجيزوهن عليهم الحجة الثانية أنها تبين بقوله أنت طالق فيصادفها ذكر الثلاث وهي بائن فتلغو ورأى أن إلزام عمر بالثلاث هو في حق المدخول بها وحديث أبي الصهباء في غير بها قالوا ففي هذا التفريق موافقة المنقول من الجانبين وموافقة القياس بكل قول من هذه الأقوال جماعة من أهل الفتوى كما حكاه أبو محمد ابن حزم وغيره عدم الوقوع جملة هو مذهب الإمامية وحكوه عن جماعة من أهل البيت قال الموقعون للثلاث الكلام معكم في مقامين أحدهما تحريم جمع الثلاث والثاني وقوعها جملة ولو كانت محرمة ونحن نتكلم معكم في فأما الأول
فقد قال الشافعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه وجماعة من أهل إن جمع الثلاث سنة واحتجوا عليه بقوله تعالى (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) البقرة 236 ولم يفرق بين أن تكون الثلاث مجموعة أو مفرقة ولا أن نفرق بين ما جمع الله بينه كما لا نجمع بين ما فرق الله بينه وقال تعالى (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) البقرة 227 ولم يفرق وقال ( َلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنّ) (البقرة: من الآية236)الآية ولم يفرق وقال ( وللمطلقات متاع بالمعروف ) 241 وقال (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن ) الأحزاب 49 ولم يفرق قالوا وفي الصحيحين أن عويمرا العجلاني طلق امرأته بحضرة رسول الله قبل أن يأمره بطلاقها قالوا فلو كان جمع الثلاث معصية لما عليه رسول الله ولا يخلو طلاقها أن يكون قد وقع وهي امرأته أو حين حرمت عليه فإن كان الأول فالحجة منه ظاهرة وإن كان الثاني فلا شك أنه طلقها وهو امرأته فلو كان حراما لبينها له رسول الله وإن كانت قد حرمت عليه قالوا صحيح البخاري من حديث القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين أن رجلا طلق امرأته فتزوجت فطلقت فسئل رسول الله أتحل للأول قال لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق فلم ينكر ذلك وهذا على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها إذ لو لم تقع لم يوقف رجوعها إلى الأول على الثاني عسيلتها قالوا
وفي الصحيحين من حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن أن فاطمة بنت قيس أخبرته أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن فانطلق خالد بن في نفر فأتوا رسول الله في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا إن أبا حفص طلق ثلاثا فهل لها من نفقة فقال رسول الله ليس لها نفقة وعليها العدة وفي صحيح مسلم في هذه القصة قالت فاطمة فأتيت رسول الله فقال كم طلقك قلت ثلاثا صدق ليس لك نفقة وفي لفظ له قالت يا رسول الله إن زوجي طلقني ثلاثا وإني أخاف أن يقتحم علي وفي لفظ له عنها أن النبي قال في المطلقة ثلاثا ليس لها سكنى ولا نفقة قالوا وقد روى عبدالرزاق في مصنفه عن يحيى بن العلاء عن عبيدالله بن الوليد عن إبراهيم بن عبيدالله بن عبادة بن الصامت عن داود بن عبادة بن الصامت طلق جدي امرأة له تطليقة فانطلق أبي إلى رسول الله فذكر له ذلك فقال النبي ما اتقى الله جدك ثلاث فله وأما تسعمائة وسبعة وتسعون فعدوان وظلم إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر ورواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران عن إبراهيم بن عبيدالله بن عبادة بن الصامت عن عن جده قال طلق بعض آبائي امرأته فانطلق بنوه إلى رسول الله فقالوا يا رسول إن أبانا طلق أمنا ألفا فهل له من مخرج فقال إن أباكم لم يتق الله فيجعل له بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه قالوا وروى محمد بن شاذان عن معلى بن منصور عن شعيب بن زريق أن عطاء الخراساني عن الحسن قال حدثنا عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرءين الباقيين فبلغ ذلك رسول الله فقال ابن عمر ما هكذا أمرك الله أخطأت السنة وذكر الحديث وفيه فقلت يا رسول الله لو طلقتها ثلاثا أكان لي أن أجمعها قال لا كانت تبين وتكون معصية قالوا
وقد روى أبو داود في سننه عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي بذلك فقال رسول الله والله ما إلا واحدة ركانة والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله فطلقها الثانية في زمن والثالثة في زمن عثمان وفي جامع الترمذي عن عبدالله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أنه طلق ألبتة فأتى رسول الله فقال ما أردت بها قال واحدة قال آلله قال آلله قال على ما أردت قال الترمذي لا نعرفه إلا من هذا الوجه وسألت محمدا يعني البخاري هذا الحديث فقال فيه اضطراب ووجه الإستدلال بالحديث أنه أحلفه أنه أراد بالبتة واحدة فدل على أنه لو أراد أكثر لوقع ما أراده ولو لم يفترق الحال لم يحلفه قالوا وهذا أصح من حديث ابن عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس أنه طلقها ثلاثا قال أبو داود ولد الرجل وأهله أعلم به أن ركانة إنما طلقها ألبتة قالوا وابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع فإن كان عبيدالله فهو ثقة معروف كان غيره من إخوته فمجهول العدالة لا تقوم به حجة
قالوا وأما طريق الإمام أحمد ففيها ابن إسحاق والكلام فيه معروف وقد حكى الخطابي الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها قالوا وأصح ما معكم حديث أبي الصهباء عن ابن عباس وقد قال البيهقي هذا الحديث أحد اختلف فيه البخاري ومسلم فأخرجه مسلم وتركه البخاري وأظنه تركه لمخالفته سائر عن ابن عباس ساق الروايات عنه بوقوع الثلاث ثم قال فهذه رواية سعيد بن جبير وعطاء بن أبي ومجاهد وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير قال عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري كلهم عن ابن عباس أنه أجاز الثلاث وأمضاهن
وقال ابن المنذر فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي شيئا ثم يفتي
وقال الشافعي فإن كان معنى قول ابن عباس إن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله يعني أنه بأمر النبي فالذي يشبه والله أعلم أن يكون ابن عباس قد علم أنه شيئا فنسخ قال البيهقي ورواية عكرمة عن ابن عباس فيها تأكيد لصحة هذا التأويل البيهقي ما رواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة في قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك فقال (الطلاق مرتان) قالوا فيحتمل أن الثلاث كانت تجعل واحدة من هذا الوقت بمعنى أن الزوج كان يتمكن المراجعة بعدها كما يتمكن من المراجعة بعد الواحدة ثم نسخ ذلك وقال ابن سريج يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص الطلاق الثلاث وهو أن يفرق بين الألفاظ كأن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق في عهد رسول الله وعهد أبي بكر رضي الله عنه الناس على صدقهم وسلامتهم لم فيهم الخب والخداع فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التأكيد ولا يريدون به الثلاث رأى عمر رضي الله عنه في زمانه أمورا ظهرت وأحوالا تغيرت منع من حمل اللفظ التكرار وألزمهم الثلاث وقالت طائفة معنى الحديث أن الناس كانت عادتهم على عهد رسول الله إيقاع الواحدة يدعها حتى تنقضي عدتها ثم اعتادوا الطلاق الثلاث جملة وتتايعوا فيه ومعنى على هذا كان الطلاق الذي يوقعه المطلق الآن ثلاثا يوقعه على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة فهو إخبار عن الواقع لا عن المشروع
وقالت طائفة ليس في الحديث بيان أن رسول الله هو الذي كان يجعل الثلاث واحدة أنه أعلم بذلك فأقر عليه ولا حجة إلا فيما قاله أو فعله أو علم به فأقر عليه يعلم صحة واحدة من هذه الأمور في حديث أبي الصهباء قالوا وإذا اختلفت علينا الأحاديث نظرنا إلى ما عليه أصحاب رسول الله فإنهم بسنته فنظرنا فإذا الثابت عن عمر بن الخطاب الذي لا يثبت عنه غيره ما رواه عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل حدثنا زيد بن وهب أنه رفع إلى عمر بن رجل طلق امرأته ألفا فقال له عمر أطلقت امرأتك فقال إنما كنت فعلاه عمر بالدرة وقال إنما يكفيك من ذلك ثلاث وروى وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت قال جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال طلقت امرأتي ألفا فقال له علي بانت منك بثلاث واقسم سائرهن بين نسائك وروى وكيع أيضا عن جعفر بن برقان عن معاوية بن أبي يحيى قال جاء رجل إلى عثمان بن فقال طلقت امرأتي ألفا فقال بانت منك بثلاث وروى عبدالرزاق عن سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير قال قال رجل لابن طلقت امرأتي ألفا فقال له ابن عباس ثلاث تحرمها عليك وبقيتها عليك وزر اتخذت الله هزوا وروى عبدالرزاق أيضا عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال جاء رجل إلى ابن فقال إني طلقت امرأتي تسعا وتسعين فقال له ابن مسعود ثلاث تبينها منك عدوان
وذكر أبو داود في سننه عن محمد بن إياس أن ابن عباس وأبا هريرة وعبدالله بن عمرو العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها فكلهم قال لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره قالوا فهؤلاء أصحاب رسول الله كما تسمعون قد أوقعوا الثلاث جملة ولو لم يكن إلا عمر المحدث الملهم وحده لكفى فإنه لا يظن به تغيير ما شرعه النبي من الرجعي فيجعله محرما وذلك يتضمن تحريم فرج المرأة على من لم تحرم عليه لمن لا تحل له ولو فعل ذلك عمر لما أقره عليه الصحابة فضلا عن أن يوافقوه كان عند ابن عباس حجة عن رسول الله أن الثلاث واحدة لم يخالفها ويفتي بغيرها لعمر وقد علم مخالفته له في العول وحجب الأم بالإثنين من الإخوة والأخوات ذلك قالوا ونحن في هذه المسألة تبع لأصحاب رسول الله فهم أعلم بسنته وشرعه ولو كان من شريعته أن الثلاث واحدة وتوفي والأمر على ذلك لم يخف عليهم ويعلمه من ولم يحرموا الصواب فيه ويوفق له من بعدهم ويروي حبر الأمر وفقيهها خبر كون واحدة ويخالفه قال المانعون من وقوع الثلاث التحاكم في هذه المسألة وغيرها إلى من أقسم الله وتعالى أصدق قسم وأبره أنا لا نؤمن حتى نحكمه فيما شجر بيننا ثم نرضى بحكمه يلحقنا فيه حرج ونسلم له تسليما لا إلى غيره كائنا من كان اللهم إلا أن تجمع إجماعا متيقنا لا نشك فيه على حكم فهو الحق الذي لا يجوز خلافه ويأبى الله أن الأمة على خلاف سنة ثابتة عنه أبدا ونحن قد أوجدناكم من الأدلة ما تثبت به بل وبدونه ونحن نناظركم فيما طعنتم به في الأدلة وفيما عارضتمونا به على أنا لا نحكم على أنفسنا إلا نصا عن الله أو نصا عن رسول الله أو إجماعا متيقنا لا شك فيه وما عدا هذا فعرضة للنزاع وغايته يكون سائغ الإتباع لا لازمه فلتكن هذه المقدمة سلفا لنا عندكم
وقد قال تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) النساء 59 فقد تنازعنا نحن وأنتم في المسألة فلا سبيل إلى ردها إلى غير الله ورسوله ألبتة وسيأتي أننا أحق وأسعد بهم فيها فنقول أما منعكم لتحريم جمع الثلاث فلا ريب أنها مسألة نزاع ولكن الأدلة الدالة على حجة عليكم أما قولكم إن القرآن دل على جواز الجمع فدعوى غير مقبولة بل باطلة وغاية ما به إطلاق القرآن للفظ الطلاق وذلك لا يعم جائزه ومحرمه كما لا يدخل تحته الحائض وطلاق الموطوءة في طهرها وما مثلكم في ذلك إلا كمثل من عارض السنة في تحريم الطلاق المحرم بهذه الإطلاقات سواء ومعلوم أن القرآن لم يدل على كل طلاق حتى تحملوه ما لا يطيقه وإنما دل على أحكام الطلاق والمبين عن الله وجل بين حلاله وحرامه ولا ريب أنا أسعد بظاهر القرآن كما بينا في صدر الإستدلال سبحانه لم يشرع قط طلاقا بائنا بغير عوض لمدخول بها إلا أن يكون آخر العدد كتاب الله بيننا وبينكم وغاية ما تمسكتم به ألفاظ مطلقة قيدتها السنة وبينت وأحكامها
وأما استدلالكم بأن الملاعن طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله فما أصحه من حديث أبعده من استدلالكم على جواز الطلاق الثلاث واحدة في نكاح يقصد بقاؤه ودوامه ثم المستدل بهذا إن كان ممن يقول إن الفرقة عقيب لعان الزوج وحده كما يقوله الشافعي أو عقيب لعانهما وإن لم يفرق الحاكم يقوله أحمد في إحدى الروايات عنه فالاستدلال به باطل لأن الطلاق الثلاث حينئذ لم يفد شيئا وإن كان ممن يوقف الفرقة على تفريق الحاكم لم يصح الاستدلال به لأن هذا النكاح لم يبق سبيل إلى بقائه ودوامه بل هو واجب الإزالة ومؤبد فالطلاق الثلاث مؤكد لمقصود اللعان ومقرر له فإن غايته أن يحرمها عليه حتى زوجا غيره وفرقة اللعان تحرمها عليه على الأبد ولا يلزم من نفوذ الطلاق في قد صار مستحق التحريم على التأبيد نفوذه في نكاح قائم مطلوب البقاء والدوام لو طلقها في هذا الحال وهي حائض أو نفساء أو في طهر جامعها فيه لم يكن عاصيا هذا النكاح مطلوب الإزالة مؤبد التحريم ومن العجب أنكم متمسكون بتقرير رسول على هذا الطلاق المذكور ولا تتمسكون بإنكاره وغضبه للطلاق الثلاث من غير وتسميته لعبا بكتاب الله كما تقدم فكم بين هذا الإقرار وهذا الإنكار ونحن الله قائلون بالأمرين مقرون لما أقره رسول الله منكرون لما أنكره وأما استدلالكم بحديث عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فسئل الله هل تحل للأول قال لا حتى تذوق العسيلة فهذا لا ننازعكم فيه نعم هو حجة من اكتفى بمجرد عقد الثاني ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد بل حجة لنا فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا وقال ثلاثا إلا من فعل وقال مرة بعد هذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم كما يقال قذفه ثلاثا وشتمه ثلاثا عليه ثلاثا قالوا وأما استدلالكم بحديث فاطمة بنت قيس فمن العجب العجاب فإنكم خالفتموه فيما صريح فيه لا يقبل تأويلا صحيحا وهو سقوط النفقة والكسوة للبائن مع صحته وصراحته ما يعارضه مقاوما له وتمسكتم به فيما هو مجمل بل بيانه في نفس الحديث مما تعلقكم به فإن قوله طلقها ثلاثا ليس بصريح في جمعها بل كما تقدم كيف وفي في خبرها نفسه من رواية الزهري عن عبيدالله بن عبدالله ابن عتبة أن زوجها إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها
وفي لفظ في الصحيح أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات وهو سند صحيح متصل مثل الشمس فكيف لكم تركه إلى التمسك بلفظ مجمل وهو أيضا حجة عليكم كما تقدم قالوا وأما استدلالكم بحديث عبادة بن الصامت الذي رواه عبدالرزاق فخبر في غاية لأن في طريقه يحيى بن العلاء عن عبيدالله بن الوليد الوصافي عن إبراهيم بن ضعيف عن هالك عن مجهول ثم الذي يدل على كذبه وبطلانه أنه لم يعرف في شيء الآثار صحيحها ولا سقيمها ولا متصلها ولا منقطعها أن والد عبادة بن الصامت أدرك فكيف بجده فهذا محال بلا شك وأما حديث عبدالله بن عمر فأصله صحيح بلا شك هذه الزيادة والوصلة التي فيه فقلت يا رسول الله لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي جاءت من رواية شعيب بن زريق وهو الشامي وبعضهم يقلبه فيقول زريق بن شعيب كان فهو ضعيف ولو صح لم يكن فيه لأن قوله لو طلقتها ثلاثا بمنزلة قوله لو سلمت ثلاثا أو أقررت ثلاثا أو نحوه لا يعقل جمعه وأما حديث نافع بن عجير الذي رواه أبو داود أن ركانة طلق امرأته ألبتة فأحلفه الله ما أراد إلا واحدة فمن العجب تقديم نافع بن عجير المجهول الذي لا يعرف ألبتة ولا يدرى من هو ولا ما هو على ابن جريج ومعمر وعبدالله بن طاووس في قصة الصهباء وقد شهد إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري بأن فيه اضطرابا قال الترمذي في الجامع وذكر عنه في موضع آخر أنه مضطرب فتارة يقول طلقها وتارة يقول واحدة وتارة يقول ألبتة وقال الإمام أحمد وطرقه كلها ضعيفة وضعفه البخاري حكاه المنذري عنه ثم كيف يقدم هذا الحديث المضطرب المجهول رواية على حديث عبدالرزاق عن ابن جريج بعض بني أبي رافع هذا وأولاده تابعيون وإن كان عبيدالله أشهرهم وليس فيهم بالكذب وقد روى عنه ابن جريج ومن يقبل رواية المجهول أو يقول رواية العدل عنه له فهذا حجة عنده فأما أن يضعفه ويقدم عليه رواية من هو مثله في الجهالة أو فكلا فغاية الأمر أن تتساقط روايتا هذين المجهولين ويعدل إلى غيرهما وإذا ذلك نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم فوجدناه صحيح الإسناد وقد زالت علة تدليس بن إسحاق بقوله حدثني داود بن الحصين وقد احتج أحمد بإسناده في مواضع وقد هو وغيره بهذا الإسناد بعينه أن رسول الله رد زينب على زوجها أبي العاص بن بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا وأما داود بن الحصين عن عكرمة فلم تزل الأئمة تحتج به وقد احتجوا به في حديثفيما شك فيه ولم يحزم به من تقديرها بخمسة أوسق أو دونها مع كونها على الأحاديث التي نهى فيها عن بيع الرطب بالتمر فما ذنبه في هذا الحديث سوى ما لا يقولون به وإن قدحتم في عكرمة ولعلكم فاعلون جاءكم ما لا قبل لكم به التناقض فيما احتججتم به أنتم وأئمة الحديث من روايته وارتضاء البخاري لإدخال في صحيحه
فصل
وأما تلك المسالك الوعرة التي سلكتموها في حديث أبي الصهباء فلا يصح شيء منها
أما المسلك الأول وهو انفراد مسلم بروايته وإعراض البخاري عنه فتلك شكاة ظاهر عنه وما ضر ذلك الحديث انفراد مسلم به شيئا ثم هل تقبلون أنتم أو أحد مثل هذا في حديث ينفرد به مسلم عن البخاري وهل قال البخاري قط إن كل حديث لم أدخله في فهو باطل أو ليس بحجة أو ضعيف وكم قد احتج البخاري بأحاديث خارج الصحيح ليس ذكر في صحيحه وكم صحح حديث خارج عن صحيحه فأما مخالفة سائر الروايات له عن ابن عباس فلا ريب أن عن عباس روايتين صحيحتين بلا شك إحداهما توافق هذا الحديث والأخرى تخالفه فإن رواية برواية سلم الحديث على أنه بحمد الله سالم ولو اتفقت الروايات عنه مخالفته فله أسوة أمثاله وليس بأول حديث خالفه راويه فنسألكم هل الأخذ بما الصحابي عندكم أو بما رآه فإن قلتم الأخذ بروايته وهو قول جمهوركم بل جمهور على هذا كفيتمونا مؤونة الجواب وإن قلتم الأخذ برأيه أريناكم من تناقضكم ما لا حيلة لكم في دفعه ولا سيما عن ابن نفسه فإنه روى حديث بريرة وتخييرها ولم يكن بيعها طلاقا ورأى خلافه وأن بيع طلاقها فأخذتم وأصبتم بروايته وتركتم رأيه فهلا فعلتم ذلك فيما نحن فيه الرواية معصومة وقول الصحابي غير معصوم ومخالفته لما رواه يحتمل احتمالات من نسيان أو تأويل أو اعتقاد معارض راجح في ظنه أو اعتقاد أنه منسوخ أو أو غير ذلك من الإحتمالات فكيف يسوغ ترك روايته مع قيام هذه الإحتمالات وهل إلا ترك معلوم لمظنون بل مجهول قالوا وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه حديث من ولوغ الكلب وأفتى بخلافه فأخذتم بروايته وتركتم فتواه ولو تتبعنا ما فيه برواية الصحابي دون فتواه لطال
قالوا وأما دعواكم نسخ الحديث فموقوفة على ثبوت معارض متراخ فأين هذا
وأما حديث عكرمة عن ابن عباس في نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث فلو صح لم يكن حجة فإنه إنما فيه أن الرجل كان يطلق امرأته ويراجعها بغير عدد فنسخ ذلك وقصر ثلاث فيها تنقطع الرجعة فأين في ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد ثم كيف يستمر على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر لا تعلم به الأمة وهو من الأمور المتعلقة بحل الفروج ثم كيف يقول عمر إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت فيه أناة وهل للأمة أناه في المنسوخ بوجه ما ثم كيف يعارض الحديث الصحيح بهذا فيه علي بن الحسين بن واقد وضعفه معلوم وأما حملكم الحديث على قول المطلق أنت طالق أنت طالق أنت طالق ومقصوده التأكيد بعد الأول فسياق الحديث من أوله إلى آخره يرده فإن هذا الذي أولتم الحديث عليه يتغير بوفاة رسول الله ولا يختلف على عهده وعهد خلفائه وهلم جرا إلى آخر الدهر ينويه في قصد التأكيد لا يفرق بين بر وفاجر وصادق وكاذب بل يرده إلى نيته من لا يقبله في الحكم لا يقبله مطلقا برا كان أو فاجرا وأيضا فإن قوله إن الناس قد استعجلوا وتتايعوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أنا عليهم إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم الله في فسحة منه متراخيا بعضه عن بعض رحمة بهم ورفقا وأناة لهم لئلا يندم مطلق فيذهب حبيبه يديه من أول وهلة عليه تداركه فجعل له أناة ومهلة يستعتبه فيها ويرضيه ويزول ما أحدثه العتب إلى الفراق ويراجع كل منهما الذي عليه بالمعروف فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه ومهلة وأوقعوه بفم واحد فرأى عمر رضي الله عنه أنه يلزمهم ما التزموه عقوبة
فإذا علم المطلق أن زوجته وسكنه تحرم عليه من أول مرة بجمعه الثلاث كف عنها إلى الطلاق المشروع المأذون فيه وكان هذا من تأديب عمر لرعيته لما أكثروا من الثلاث كما سيأتي مزيد تقريره عند الإعتذار عن عمر رضي الله عنه في إلزامه هذا وجه الحديث الذي لا وجه له غيره فأين هذا من تأويلكم المستكره الذي لا توافقه ألفاظ الحديث بل تنبو عنه وتنافره وأما قول من قال إن معناه كان وقوع الطلاق الثلاث الآن على عهد رسول الله واحدة حقيقة هذا التأويل كان الناس على عهد رسول الله يطلقون واحدة وعلى عهد عمر يطلقون ثلاثا والتأويل إذا وصل إلى هذا الحد كان من باب الإلغاز والتحريف لا باب بيان المراد ولا يصح ذلك بوجه ما فإن الناس ما زالوا يطلقون واحدة وثلاثا طلق رجال نساءهم على عهد رسول الله ثلاثا فمنهم من ردها إلى واحدة كما في عكرمة عن ابن عباس ومنهم من أنكر عليه وغضب وجعله متلاعبا بكتاب الله ولم ما حكم به عليهم وفيهم من أقره لتأكيد التحريم الذي أوجبه اللعان ومنهم من بالثلاث لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث فلا يصح أن يقال إن الناس ما يطلقون واحدة إلى أثناء خلافة عمر فطلقوا ثلاثا ولا يصح أن يقال إنهم قد في شيء كانت لهم فيه أناة فنمضيه عليهم ولا يلائم هذا الكلام الفرق بين رسول الله عهده بوجه ما فإنه ماض منكم على عهده وبعد عهده
ثم إن في بعض ألفاظ الحديث الصحيحة ألم تعلم أنه من طلق ثلاثا جعلت واحدة على عهد الله وفي لفظ أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر فقال ابن عباس بلى كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس يعني عمر قد تتايعوا فيها قال أجيزوهن هذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد وهو لا يحتمل ما ذكرتم من التأويل بوجه ما هذا كله عمل من جعل الأدلة تبعا للمذهب فاعتقد ثم استدل وأما من جعل المذهب للدليل استدل ثم اعتقد لم يمكنه هذا العمل وأما قول من قال ليس في الحديث بيان أن رسول الله كان هو الذي يجعل ذلك ولا أنه به وأقره عليه فجوابه أن يقال سبحانك هذا بهتان عظيم أن يستمر هذا الجعل المتضمن لتغيير شرع الله ودينه وإباحة الفرج لمن هو عليه حرام وتحريمه على هو عليه حلال على عهد رسول الله وأصحابه خير الخلق وهم يفعلونه ولا يعلمونه يعلمه هو والوحي ينزل عليه وهو يقرهم عليه فهب أن رسول الله لم يكن يعلمه الصحابة يعلمونه ويبدلون دينه وشرعه والله يعلم ذلك ولا يوحيه إلى رسوله ولا به ثم الله رسوله والأمر على ذلك فيستمر هذا الضلال العظيم والخطأ المبين عندكم خلافة الصديق كلها يعمل به ولا يغير إلى أن فارق الصديق الدنيا واستمر الخطأ المركب صدرا من خلافة عمر حتى رأى بعد ذلك برأيه أن يلزم الناس بالصواب في الجهل بالصحابة وما كانوا عليه في عهد نبيهم وخلفائه أقبح من هذا وتالله لو جعل الثلاث واحدة خطأ محضا لكان أسهل من هذا الخطأ الذي ارتكبتموه والتأويل تأولتموه ولو تركتم المسألة بهيأتها لكان أقوى لشأنها من هذه الأدلة والأجوبة قالوا وليس التحاكم في هذه المسألة إلى مقلد متعصب ولا هياب للجمهور ولا مستوحش التفرد إذا كان الصواب في جانبه وإنما التحاكم فيها إلى راسخ في العلم قد طال باعه ورحب بنيله ذراعه وفرق بين الشبهة والدليل وتلقى الأحكام من نفس مشكاة وعرف المراتب وقام فيها بالواجب وباشر قلبه أسرار الشريعة وحكمها الباهرة تضمنته من المصالح الباطنة والظاهرة وخاض في مثل هذه المضايق لججها واستوفى من حججها والله المستعان وعليه التكلان قالوا وأما قولكم إذا اختلفت علينا الأحاديث نظرنا فيما عليه الصحابة رضي الله فنعم والله وحيهلا بيرك الإسلام وعصابة الإيمان
( فلا تطلب لي الأعواض بعدهم % فإن قلبي لا يرضى بغيرهم )
ولكن لا يليق بكم أن تدعونا إلى شيء وتكونوا أول نافر عنه له فقد توفي النبي عن أكثر من مائة ألف عين كلهم قد رآه وسمع منه فهل صح عن هؤلاء كلهم أو عشرهم أو عشر عشرهم أو عشر عشر عشرهم القول بلزوم الثلاث بفم هذا ولو جهدتم كل الجهد لم تطيقوا نقله عن عشرين نفسا منهم أبدا مع اختلاف في ذلك فقد صح عن ابن عباس القولان وصح عن ابن مسعود القول باللزوم وصح عنه ولو كاثرناكم بالصحابة الذين كان الثلاث على عهدهم واحدة لكانوا أضعاف من عنه خلاف ذلك ونحن نكاثركم بكل صحابي مات إلى صدر من خلافة عمر ويكفينا مقدمهم وأفضلهم ومن كان معه من الصحابة على عهده بل لو شئنا لقلنا ولصدقنا إن هذا إجماعا قديما لم يختلف فيه على عهد الصديق اثنان ولكن لم ينقرض عصر المجمعين حدث الإختلاف فلم يستقر الإجماع الأول حتى صار الصحابة على قولين واستمر بين الأمة في ذلك إلى اليوم ثم نقول لم يخالف عمر إجماع من تقدمه بل رأى بالثلاث عقوبة لهم لما علموا أنه حرام وتتايعوا فيه ولا ريب أن هذا سائغ أن يلزموا الناس بما ضيقوا به على أنفسهم ولم يقبلوا فيه رخصة الله عز وجل بل اختاروا الشدة والعسر فكيف بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظره للأمة وتأديبه لهم ولكن العقوبة تختلف باختلاف الأزمنة والأشخاص من العلم بتحريم الفعل المعاقب عليه وخفائه وأمير المؤمنين عمر رضي الله لم يقل لهم إن هذا عن رسول الله وإنما هو رأي رآه مصلحة للأمة يكفهم بها عن إلى إيقاع الثلاث ولهذا قال أنا أمضيناه عليهم وفي لفظ آخر فأجيزوهن عليهم أفلا يرى أن هذا رأي منه رأه لا إخبار عن رسول الله ولما علم رضي الله عنه أن تلك الأناة والرخصة من الله على المطلق ورحمة به وإحسان إليه وأنه قابلها بضدها ولم يقبل رخصة وما جعله له من الأناة عاقبه بأن حال بينه وبينها وألزمه ما ألزمه من الشدة وهذا موافق لقواعد الشريعة بل هو موافق لحكمة الله في خلقه قدرا وشرعا الناس إذا تعدوا حدوده ولم يقفوا عندها ضيق عليهم ما جعله لمن اتقاه من المخرج أشار إلى هذا المعنى بعينه من قال من الصحابة للمطلق ثلاثا إنك لو اتقيت الله لك مخرجا كما قاله ابن مسعود وابن عباس فهذا نظر أمير المؤمنين ومن معه من لا أنه رضي الله عنه غير أحكام الله وجعل حلالها حراما فهذا غاية التوفيق النصوص وفعل أمير المؤمنين ومن معه وأنتم لم يمكنكم ذلك إلا بإلغاء أحد فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذا المقام الضنك والمعترك الصعب وبالله