فصل في قدوم وفود العرب وغيرهم على النبي صلى الله عليه وسلم
فقدم عليه وفد ثقيف وقد تقدم مع سياق غزوة الطائف قال موسى بن عقبة وأقام أبو بكر للناس حجهم وقدم عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله فاستأذن رسول الله ليرجع إلى قومه فذكر نحو ما تقدم وقال فقدم وفدهم وفيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ وفيهم عثمان بن أبي العاص وهو أصغر الوفد فقال المغيرة بن شعبة يا رسول الله أنزل قومي علي فأكرمهم فإني حديث الجرح فيهم فقال رسول الله لا أمنعك أن تكرم قومك ولكن أنزلهم حيث يسمعون القرآن وكان من جرح المغيرة في قومه أنه كان أجيرا لثقيف وأنهم أقبلوا من مضر حتى إذا كانوا ببعض الطريق عدا عليهم وهم نيام فقتلهم ثم أقبل بأموالهم حتى أتى رسول الله فقال رسول الله أما الإسلام فنقبل وأما المال فلا فإنا لا نغدر وأبى أن يخمس ما معه وأنزل رسول الله وفد ثقيف في المسجد وبنى لهم خياما لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا وكان رسول الله إذا خطب لا يذكر نفسه فلما سمعه وفد ثقيف قالوا يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله ولا يشهد به في خطبته فلما بلغه قولهم قال فأني أول من شهد أني رسول الله وكانوا يغدون إلى رسول الله كل يوم ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم لأنه أصغرهم فكان عثمان كلما رجع الوفد إليه وقالوا بالهاجرة عمد إلى رسول الله فسأله عن الدين واستقرأه القرآن فاختلف إليه عثمان مرارا حتى فقه في الدين وعلم وكان إذا وجد رسول الله نائما عمد إلى أبي بكر وكان يكتم ذلك من أصحابه فأعجب ذلك رسول الله وأحبه فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله وهو يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا
فقال كنانة بن عبد ياليل هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا قال نعم إن أنتم أقررتم بالإسلام أقاضيكم وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم قال أفرأيت الزنى فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه قال هو عليكم حرام فإن الله عز وجل يقول ( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) ( الإسراء 32 ) قالوا أفرأيت الربا فإنه أموالنا كلها قال لكم رؤوس أموالكم إن الله تعالى يقول ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ) ( البقرة 278 ) قالوا أفرأيت الخمر فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها قال إن الله قد حرمها وقرأ ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) ( المائدة 90 ) فارتفع القوم فخلا بعضهم ببعض فقالوا ويحكم إنا نخاف إن خالفناه يوما كيوم مكة انطلقوا نكاتبه على ما سألناه فأتوا رسول الله فقالوا نعم لك ما سألت أرأيت الربة ماذا نصنع فيها قال اهدموها قالوا هيهات لو تعلم الربة أنك تريد هدمها لقتلت أهلها فقال عمر بن الخطاب ويحك يا ابن عبد ياليل ما أجهلك إنما الربة حجر فقالوا إنا لم نأتك يا ابن الخطاب وقالوا لرسول الله تول أنت هدمها فأما نحن فإنا لا نهدمها أبدا قال فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها فكاتبوه فقال كبانة بن عبد يا ليل ائذن لنا قبل رسولك ثم ابعث في آثارنا فإنا أعلم بقومنا فأذن لهم رسول الله وأكرمهم وحباهم وقالوا يا رسول الله أمر علينا رجلا يؤمنا من قومنا فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص لما رأى من حرصه على الإسلام وكان قد تعلم سورا من القرآن قبل أن يخرج فقال كنانة بن عبد ياليل أنا أعلم الناس بثقيف فاكتموهم القضية وخوفوهم بالحرب والقتال وأخبروهم أن محمدا سألنا أمورا أبيناها عليه سألنا أن نهدم اللات والعزى وأن نحرم الخمر والزنى وأن نبطل أموالنا في الربا فخرجت ثقيف حين دنا منهم الوفد يتلقونهم فلما رأوهم قد ساروا العنق وقطروا الإبل وتغشوا ثيابهم كهيئة القوم قد حزنوا وكربوا ولم يرجعوا بخير
فقال بعضهم لبعض ما جاء وفدكم بخير ولا رجعوا به وترجل الوفد وقصدوا اللات ونزلوا عندها واللات وثن كان بين ظهراني الطائف يستر ويهدى له الهدى كما يهدى لبيت الله الحرام فقال ناس من ثقيف حين نزل الوفد إليها إنهم لا عهد لهم برؤيتها ثم رجع كل رجل منهم إلى أهله وجاء كلا منهم خاصته من ثقيف فسألوهم ماذا جئتم به وماذا رجعتم به قالوا أتينا رجلا فظا غليظا يأخذ من أمره ما يشاء قد ظهر بالسيف وداخ له العرب ودان له الناس فعرض علينا أمورا شدادا هدم اللات والعزى وترك الأموال في الربا إلا رؤوس أموالكم وحرم الخمر والزنى فقالت ثقيف والله لانقبل هذا أبدا فقال الوفد أصلحوا السلاح وتهيؤوا للقتال وتعبؤوا له ورموا حصنكم فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يريدون القتال ثم ألقى الله عز وجل في قلوبهم الرعب وقالوا والله ما لنا به طاقة وقد داخ له العرب كلها فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل وصالحوه عليه فلما رأى الوفد أنهم قد رغبوا واختاروا الأمان على الخوف والحرب قال الوفد فإنا قد قاضيناه وأعطيناه ما أحببنا وشرطنا ما أردنا ووجدناه أتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه وفيما قاضيناه عليه فاقبلوا عافية الله فقالت ثقيف فلم كتمتمونا هذا الحديث وغممتمونا أشد الغم قالوا أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان فأسلموا مكانهم ومكثوا أياما ثم قدم عليهم رسل رسول الله قد أمر عليهم خالد بن الوليد وفيهم المغيرة بن شعبة فلما قدموا عمدوا إلى اللات ليهدموها واستكفت ثقيف كلها الرجال والنساء والصبيان حتى خرج العواتق من الحجال لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة يظنون أنها ممتنعة فقام المغيرة بن شعبة فأخذ الكرزين وقال لأصحابه والله لأضحكنكم من ثقيف فضرب بالكرزين ثم سقط يركض فارتج أهل الطائف بضجة واحدة وقالوا أبعد الله المغيرة قتلته الربة وفرحوا حين رأوه ساقطا
وقالوا من شاء منكم فليقرب وليجتهد على هدمها فوالله لا تستطاع فوثب المغيرة بن شعبة فقال قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة ومدر فاقبلوا عافية الله واعبدوه ثم ضرب الباب فكسره ثم علا سورها وعلا الرجال معه فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سووها بالأرض وجعل صاحب المفتاح يقول ليغضبن الأساس فليخسفن بهم فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد دعني أحفر أساسها فحفره حتى أخرجوا تربها وانتزعوا حليها ولباسها فبهتت ثقيف فقالت عجوز منهم أسلمها الرضاع وتركوا المصاع وأقبل الوفد حتى دخلوا على رسول الله بحليها وكسوتها فقسمه رسول الله من يومه وحمد الله على نصرة نبيه وإعزاز دينه وقد تقدم أنه أعطاه لأبي سفيان بن حرب هذا لفظ موسى بن عقبة وزعم ابن إسحاق أن النبي قدم من تبوك في رمضان وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف وروينا في سنن أبي داود عن جابر قال اشترطت ثقيف على النبي ألا صدقة عليها ولا جهاد فقال النبي بعد ذلك سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا وروينا في سنن أبي دواد الطيالسي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طاغيتهم وفي المغازي لمعتمر بن سليمان قال سمعت عبد الله بن عبدالرحمن الطائفي يحدث عن عثمان بن عبدالله عن عمه عمرو بن أوس عن عثمان بن أبي العاص قال استعملني رسول الله وأنا أصغر الستة الذين وفدوا عليه من ثقيف وذلك أني كنت قرأت سورة البقرة فقلت يا رسول الله إن القرآن يتفلت مني فوضع يده على صدري وقال يا شيطان اخرج من صدر عثمان فما نسيت شيئا بعده أريد حفظه وفي صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي قال ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا ففعلت فأذهبه الله عني
فصل
وفي قصة هذا الوفد من الفقه أن الرجل من أهل الحرب إذا غدر بقومه وأخذ أموالهم ثم قدم مسلما لم يتعرض له الإمام ولا لما أخذه من المال ولا يضمن ما أتلفه قبل مجيئه من نفس ولامال كما لم يتعرض النبي لما أخذه المغيرة من أموال الثقفيين ولا ضمن ما أتلفه عليهم وقال أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء ومنها جواز إنزال المشرك في المسجد ولا سيما إذا كان يرجو إسلامه وتمكينه من سماع القرآن ومشاهدة أهل الإسلام وعبادتهم ومنها حسن سياسةالوفد وتلطفهم حتى تمكنوا من إبلاغ ثقيف ما قدموا به فتصوروا لهم بصورة المنكر لما يكرهونه الموافق لهم فيما يهوونه حتى ركنوا إليهم واطمأنوا فلما علموا أنه ليس لهم بد من الدخول في دعوة الإسلام أذعنوا فأعلمهم الوفد أنهم بذلك قد جاؤوهم ولو فاجؤوهم به من أول وهلة لما أقروا به ولا أذعنوا وهذا من أحسن الدعوة وتمام التبليغ ولا يتأتى إلا مع ألباء الناس وعقلائهم
ومنها أن المستحق لإمرة القوم وإمامتهم أفضلهم وأعلمهم بكتاب الله وأفقههم في دينه ومنها هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتا للطواغيت وهدمها أحب إلى الله ورسوله وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله ويشرك بأربابها مع الله لا يحل إبقاؤها في الإسلام ويجب هدمها ولا يصح وقفها ولا الوقف عليها وللإمام أن يقطعها وأوقافها لجند الإسلام ويستعين بها على مصالح المسلمين وكذلك ما فيها من الآلات والمتاع والنذور التي تساق إليها يضاهى بها الهدايا التي تساق إلى البيت الحرام للامام أخذها كلها وصرفها في مصالح المسلمين كما أخذ النبي أموال بيوت هذه الطواغيت وصرفها في مصالح الإسلام وكان يفعل عندها ما يفعل عند هذه المشاهد سواء من النذور لها والتبرك بها والتمسح بها وتقبيلها واستلامها هذا كان شرك القوم بها ولم يكونوا يعتقدون أنها خلقت السماوات والأرض بل كان شركهم بها كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه ومنها استحباب اتخاذ المساجد مكان بيوت الطواغيت فيعبد الله وحده لا يشرك به شيئا في الأمكنة التي كان يشرك به فيها وهكذا الواجب في مثل هذه المشاهد أن تهدم وتجعل مساجد إن احتاج إليها المسلمون وإلا أقطعها الإمام هي وأوقافها للمقاتلة وغيرهم ومنها أن العبد إذا تعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتفل عن يساره لم يضره ذلك ولا يقطع صلاته بل هذا من تمامها وكمالها والله أعلم
فصل
قال ابن إسحاق ولما افتتح رسول الله مكة وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه فدخلوا في دين الله أفواجا يضربون إليه من كل وجه
فصل
وقد تقدم ذكر وفد بني تميم ووفد طيء ذكر وفد بني عامر ودعاء النبي على عامر بن الطفيل وكفاية الله شره وشر أربد بن قيس بعد أن عصم منهما نبيه روينا في كتاب الدلائل للبيهقي عن يزيد بن عبدالله أبي العلاء قال وفد أبي في وفد بني عامر إلى النبي فقالوا أنت سيدنا وذو الطول علينا فقال مه مه قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان السيد الله روينا عن ابن إسحاق قال لما قدم على رسول الله وفد بني عامر فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر وجبار بن سلمي بن مالك بن جعفر وكان هؤلاء النفر رؤساء القوم وشياطينهم فقدم عدو الله عامر بن الطفيل على رسول الله وهو يريد الغدر به فقال له قومه يا عامر إن الناس قد أسلموا فقال والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي وأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ثم قال لأربد إذا قدمنا على الرجل فإني شاغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف فلما قدموا على رسول الله قال عامر يا محمد خالني قال لا والله حتى تؤمن بالله وحده قال يا محمد خالني قال حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له فلما أبى عليه رسول الله قال له أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا فلما ولى قال رسول الله اللهم اكفني عامر بن الطفيل فلما خرجوا من عند رسول الله قال عامر لأربد ويحك يا أربد أين ما كنت امرأتك به والله ما كان على وجه الأرض أخوف عندي على نفسي منك وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا قال لا أبالك لا تعجل علي فوالله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبين الرجل أفأضربك بالسيف ثم خرجوا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول ثم خرج أصحابه حين رأوه حتى قدموا أرض بني عامر أتاهم قومهم فقالوا ما وراءك يا أربد فقال لقد دعاني إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي فارميه بنبلي هذه حتى أقتله فخرج بعد مقالته بيوم أو بيومين معه جمل يتبعه فأسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما وكان أربد أخا لبيد بن ربيعة لأمه فبكى ورثاه
وفي صحيح البخاري أن عامر بن الطفيل أتى النبي فقال أخيرك بين ثلاث خصال يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر أو أكون خليفتك من بعدك أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء فطعن في بيت امرأة فقال أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني فلان ائتوني بفرسي فركب فمات على ظهر فرسه
المقال السابق
المقال التالى