فصل في الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد
فمنها جواز القتال في الشهر الحرام إن كان خروجه في رجب محفوظا على ما قاله ابن اسحاق ولكن ها هنا أمر آخر وهو أن أهل الكتاب لم يكونوا يحرمون الشهر الحرام بخلاف العرب فإنها كانت تحرمه وقد تقدم أن في نسخ تحريم القتال فيه قولين وذكرنا حجج الفريقين
ومنها تصريح الإمام للرعية وإعلامهم بالأمر الذي يضرهم ستره وإخفاؤه ليتأهبوا له ويعدوا له عدته وجواز ستر غيره عنهم والكناية عنه للمصلحة
ومنها أن الإمام إذا استنفر الجيش لزمهم النفير ولم يجز لأحد التخلف إلا بإذنه ولا يشترط في وجوب النفير تعيين كل واحد منهم بعينه بل متى استنفر الجيش لزم كل واحد منهم الخروج معه وهذا أحد المواضع الثلاثة التي يصير فيها الجهاد فرض عين والثاني إذا حضر العدو البلد والثالث إذا حضر بين الصفين ومنها وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وهي الصواب الذي لا ريب فيه فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن وقرينه بل جاء مقدما على الجهاد بالنفس في كل موضع إلا موضعا واحدا وهذا يدل على أن الجهاد به أهم وآكد من الجهاد بالنفس ولا ريب أنه أحد الجهادين كما قال النبي من جهز غازيا فقد غزا فيجب على القادر عليه كما يجب على القادر بالبدن ولا يتم الجهاد بالبدن إلا ببذله ولا ينتصر إلا بالعدد والعدد فإن لم يقدر أن يكثر العدد وجب عليه أن يمدد بالمال والعدة وإذا وجب الحج بالمال على العاجز بالبدن فوجوب الجهاد بالمال أولى وأحرى ومنها ما برز به عثمان بن عفان من النفقة العظيمة في هذه الغزوة وسبق به الناس فقال النبي غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما أبديت ثم قال ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم وكان قد أنفق ألف دينار وثلاثمائة بعير بعدتها وأحلاسها وأقتابها ومنها أن العاجز بماله لا يعذر حتى يبذل جهده ويتحقق عجزه فإن الله سبحانه إنما نفى الحرج عن هؤلاء العاجزين بعد أن أتوا رسول الله ليحملهم فقال ( لا أجد ما أحملكم عليه ) فرجعوا يبكون لما فاتهم من الجهاد فهذا العاجز الذي لا حرج عليه
ومنها استخلاف الإمام إذا سافر رجلا من الرعية على الضعفاء والمعذورين والنساء والذرية ويكون نائبه من المجاهدين لأنه من أكبر العون لهم وكان رسول الله يستخلف ابن أم مكتوم فاستخلفه بضع عشرة مرة وأما في غزوة تبوك فالمعروف عند أهل الأثر أنه استخلف علي بن أبي طالب كما في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال خلف رسول الله عليا رضي الله عنه في غزوة تبوك فقال يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان فقال أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ولكن هذه كانت خلافة خاصة على أهله وأما الاستخلاف العام فكان لمحمد بن مسلمة الأنصاري ويدل على هذا أن المنافقين لما أرجفوا به وقالوا خلفه استثقالا أخذ سلاحه ثم لحق بالنبي فأخبره فقال كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ومنها جواز الخرص للرطب على رؤوس النخل وأنه من الشرع والعمل بقول الخارص وقد تقدم في غزاة خيبر وأن الإمام يجوز أن يخرص بنفسه كما خرص رسول الله حديقة المرأة ومنها أن الماء الذي بآبار ثمود لا يجوز شربه ولا الطبخ منه ولا العجين به ولا الطهارة به ويجوز أن يسقى البهائم إلا ما كان من بئر الناقة وكانت معلومة باقية إلى زمن رسول الله ثم استمر علم الناس بها قرنا بعد قرن إلى وقتنا هذا فلا يرد الركوب بئرا غيرها وهي مطوية محكمة البناء واسعة الأرجاء آثار العتق عليها بادية لا تشتبه بغيرها ومنها أن من مر بديار المغضوب عليهم والمعذبين لم ينبغ له أن يدخلها ولا يقيم بها بل يسرع السير ويتقنع بثوبه حتى يجاوزها ولا يدخل عليهم إلا باكيا معتبرا ومن هذا إسراع النبي السير في وادي محسر بين منى وعرفة فإنه المكان الذي أهلك الله فيه الفيل وأصحابه
ومنها أن النبي كان يجمع بين الصلاتين في السفر وقد جاء جمع التقديم في هذه القصة في حديث معاذ كما تقدم وذكرنا علة الحديث ومن أنكره ولم يجىء جمع التقديم عنه في سفر إلا هذا وصح عنه جمع التقديم بعرفة قبل دخوله إلى عرفة فإنه جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر فقيل ذلك لأجل النسك كما قال أبو حنيفة وقيل لأجل السفر الطويل كما قاله الشافعي وأحمد وقيل لأجل الشغل وهو اشتغاله بالوقوف واتصاله إلى غروب الشمس قال أحمد يجمع للشغل وهو قول جماعة من السلف والخلف وقد تقدم ومنها جواز التيمم بالرمل فإن النبي وأصحابه قطعوا الرمال التي بين المدينة وتبوك ولم يحملوا معهم ترابا بلا شك وتلك مفاوز معطشة شكوا فيها العطش إلى رسول الله وقطعا كانوا يتيممون بالأرض التي هم فيها نازلون هذا كله مما لا شك فيه مع قوله فحيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره ومنها أنه أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة ولم يقل للأمة لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك ولكن اتفقت إقامته هذه المدة وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع وقد اختلف السلف والخلف في ذلك اختلافا كثيرا ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال أقام رسول الله في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين فنحن إذا أقمنا تسع عشرة نصلي ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا وظاهر كلام أحمد أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمن الفتح فإنه قال أقام رسول الله بمكة ثمان عشرة زمن الفتح لأنه أراد حنينا ولم يكن ثم أجمع المقام وهذه إقامته التي رواها ابن عباس وقال غيره بل أراد ابن عباس مقامه بتبوك كما قال جابر بن عبدالله أقام النبي بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة رواه الإمام أحمد في مسنده وقال عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصرها سعد ونتمها وقال نافع أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول
وقال حفص بن عبيد الله أقام أنس بن مالك بالشام سنتين يصلي صلاة المسافر وقال أنس أقام أصحاب رسول الله برامهرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة وقال الحسن أقمت مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل سنتين يقصر الصلاة ولا يجمع وقال إبراهيم كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وسجستان السنتين فهذا هدي رسول الله وأصحابه كما ترى وهو الصواب وأما مذاهب الناس فقال الإمام أحمد إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإن نوى دونها قصر وحمل هذه الآثار على أن رسول الله وأصحابه لم يجمعوا الإقامة البتة بل كانوا يقولون اليوم نخرج غدا نخرج وفي هذا نظر لا يخفى فإن رسول الله فتح مكة وهي ما هي وأقام فيها يؤسس قواعد الإسلام ويهدم قواعد الشرك ويمهد أمر ما حولها من العرب ومعلوم قطعا أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام لا يتأتى في يوم واحد ولا يومين وكذلك إقامته بتبوك فإنه أقام ينتظر العدو ومن المعلوم قطعا أنه كان بينه وبينهم عدة مراحل يحتاج قطعها إلى أيام وهو يعلم أنهم لا يوافون في أربعة أيام وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة من أجل الثلج ومن المعلوم أن مثل هذا الثلج لا يتحلل ويذوب في أربعة أيام بحيث تنفتح الطرق وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصر وإقامة الصحابة برامهرمز سبعة أشهر يقصرون ومن المعلوم أن مثل هذا الحصار والجهاد يعلم أنه لا ينقضي في أربعة أيام وقد قال أصحاب أحمد إنه لو أقام لجهاد عدو أو حبس سلطان أو مرض قصر سواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة وهذا هو الصواب لكن شرطوا فيه شرطا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عمل الصحابة فقالوا شرط ذلك احتمال انقضاء حاجته في المدة التي لا تقطع حكم السفر وهي ما دون الأربعة الأيام فيقال من أين لكم هذا الشرط والنبي لما أقام زيادة على أربعة أيام يقصر الصلاة بمكة وتبوك لم يقل لهم شيئا ولم يبين لهم أنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام وهو يعلم أنهم يقتدون به في صلاته ويتأسون به في قصرها في مدة إقامته فلم يقل لهم حرفا واحدا لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال وبيان هذا من أهم المهمات وكذلك اقتداء الصحابة به بعده ولم يقولوا لمن صلى معهم شيئا من ذلك
وقال مالك والشافعي إن نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أتم وإن نوى دونها قصر وقال أبو حنيفة إن نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن نوى دونها قصر وهو مذهب الليث بن سعد وروي عن ثلاثة من الصحابة عمر وابنه وابن عباس وقال سعيد بن المسيب إذا أقمت أربعا فصل أربعا وعنه كقول أبي حنيفة وقال علي بن أبي طالب إن أقام عشرا أتم وهو رواية عن ابن عباس
وقال الحسن يقصر ما لم يقدم مصرا وقالت عائشة يقصر ما لم يضع الزاد والمزاد والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها يقول اليوم أخرج غدا أخرج فإنه يقصر أبدا إلا الشافعي في أحد قوليه فإنه يقصر عنده إلى سبعة عشر أو ثمانية عشر يوما ولا يقصر بعدها وقد قال ابن المنذر في إشرافه أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون
فصل
ومنها جواز بل استحباب حنث الحالف في يمينه إذا رأى غيرها خيرا منها فيكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير وإن شاء قدم الكفارة على الحنث وإن شاء أخرها وقد روي حديث أبي موسى هذا إلا أتيت الذي هو أخير وتحللتها وفي لفظ إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو أخير وفي لفظ إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني وكل هذه الألفاظ في الصحيحين وهي تقتضي عدم الترتيب
وفي السنن من حديث عبدالرحمن بن سمرة عن النبي إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير وأصله في الصحيحين فذهب أحمد ومالك والشافعي إلى جواز تقديم الكفارة على الحنث واستثنى الشافعي التكفير بالصوم فقال لا يجوز التقديم ومنع أبو حنيفة تقديم الكفارة مطلقا
فصل
ومنها انعقاد اليمين في حال الغضب إذا لم يخرج بصاحبه إلى حد لا يعلم معه ما يقول وكذلك ينفذ حكمه وتصح عقوده فلو بلغ به الغضب إلى حد الإغلاق لم تنعقد يمينه ولا طلاقه قال أحمد في رواية حنبل في حديث عائشة سمعت رسول الله يقول لا طلاق ولا عتاق في إغلاق يريد الغضب
فصل
ومنها قوله ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم قد يتعلق به الجبري ولا متعلق له به وإنما هذا مثل قوله والله لا أعطي أحدا شيئا ولا أمنع وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت فإنه عبدالله ورسوله إنما يتصرف بالأمر فإذا أمره ربه بشيء نفذه فالله هو المعطي والمانع والحامل والرسول منفذ لما أمر به وأما قوله تعالى ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ( الأنفال 17 ) فالمراد به القبضة من الحصباء التي رمى بها وجوه المشركين فوصلت إلى عيون جميعهم فأثبت الله سبحانه له الرمي باعتبار النبذ والإلقاء فإنه فعله ونفاه عنه باعتبار الإيصال إلى جميع المشركين وهذا فعل الرب تعالى لا تصل إليه قدرة العبد والرمي يطلق على الخذف وهو مبدؤه وعلى الإيصال وهو نهايته
فصل
ومنها تركه قتل المنافقين وقد بلغه عنهم الكفر الصريح فاحتج به من قال لا يقتل الزنديق إذا أظهر التوبة لأنهم حلفوا لرسول الله أنهم ما قالوا وهذا إذا لم يكن إنكارا فهو توبة وإقلاع وقد قال أصحابنا وغيرهم ومن شهد عليه بالردة فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لم يكشف عن شيء عنه بعد وقال بعض الفقهاء إذا جحد الردة كفاه جحدها ومن لم يقبل توبة الزنديق قال هؤلاء لم تقم عليهم بينة ورسول الله لا يحكم عليهم بعلمه والذي بلغ رسول الله عنهم قولهم لم يبلغه إياه نصاب البينة بل شهد به عليهم واحد فقط كما شهد زيد بن أرقم وحده على عبد الله بن أبي وكذلك غيره أيضا إنما شهد عليه واحد وفي هذا الجواب نظر فإن نفاق عبدالله بن أبي وأقواله في النفاق كانت كثيرة جدا كالمتواترة عند النبي وأصحابه وبعضهم أقر بلسانه وقال إنما كنا نخوض ونلعب وقد واجهه بعض الخوارج في وجهه بقوله إنك لم تعدل والنبي لما قيل له ألا تقتلهم لم يقل ما قامت عليهم بينة بل قال لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه فالجواب الصحيح إذن أنه كان في ترك قتلهم في حياة النبي مصلحة تتضمن تأليف القلوب على رسول الله وجمع كلمة الناس عليه وكان في قتلهم تنفير والإسلام بعد في غربة ورسول الله أحرص شيء على تأليف الناس وأترك شيء لما ينفرهم عن الدخول في طاعته وهذا أمر كان يختص بحال حياته وكذلك ترك قتل من طعن عليه في حكمه بقوله في قصة الزبير وخصمه أن كان ابن عمتك وفي قسمة بقوله إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله وقول الآخر له إنك لم تعدل فإن هذا محض حقه له أن يستوفيه وله أن يتركه وليس للأمة بعده ترك استيفاء حقه بل يتعين عليهم استيفاؤه ولا بد ولتقرير هذه المسائل موضع آخر والغرض التنبيه والإشارة
فصل
ومنها أن أهل العهد والذمة إذا أحدث أحد منهم حدثا فيه ضرر على الإسلام انتقض عهده في ماله ونفسه وأنه إذا لم يقدر عليه الإمام فدمه وماله هدر وهو لمن أخذه كما قال في صلح أهل أيلة فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وهو لمن أخذه من الناس وهذا لأنه بالإحداث صار محاربا حكمه حكم أهل الحرب
فصل
ومنها جواز الدفن بالليل كما دفن رسول الله ذا البجادين ليلا وقد سئل أحمد عنه فقال وما بأس بذلك وقال أبو بكر دفن ليلا وعلي دفن فاطمة ليلا وقالت عائشة سمعنا صوت المساحي من آخر الليل في دفن النبي انتهى ودفن عثمان وعائشة وابن مسعود ليلا
وفي الترمذي عن ابن عباس أن النبي دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج فأخذه من قبل القبلة وقال رحمك الله إن كنت لأواها تلاء للقرآن قال الترمذي حديث حسن وفي البخاري أن رسول الله سأل عن رجل فقال من هذا قالوا فلان دفن البارحة فصلى عليه فإن قيل فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه أن النبي خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل وقبر ليلا فزجر النبي أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك قال الإمام أحمد إليه أذهب قيل نقول بالحديثين بحمد الله ولا نرد أحدهما بالآخر فنكره الدفن بالليل بل نزجر عنه إلا لضرورة أو مصلحة راجحة كميت مات مع المسافرين بالليل ويتضررون بالإقامة به إلى النهار وكما إذا خيف على الميت الانفجار ونحو ذلك من الأسباب المرجحة للدفن ليلا وبالله التوفيق
فصل
ومنها أن الإمام إذا بعث سرية فغنمت غنيمة أو أسرت أسيرا أو فتحت حصنا كان ما حصل من ذلك لها بعد تخميسه فإن النبي قسم ما صالح عليه أكيدر من فتح دومة الجندل بين السرية الذين بعثهم مع خالد وكانوا أربعمائة وعشرين فارسا وكانت غنائمهم ألفي بعير وثمانمائة رأس فأصاب كل رجل منهم خمس فرائض وهذا بخلاف ما إذا أخرجت السرية من الجيش في حال الغزو فأصابت ذلك بقوة الجيش فإن ما أصابوا يكون غنيمة للجميع بعد الخمس والنفل وهذا كان هديه
فصل
ومنها قوله إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم فهذه المعية هي بقلوبهم وهممهم لا كما يظنه طائفة من الجهال أنهم معهم بأبدانهم فهذا محال لأنهم قالوا له وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر وكانوا معه بأرواحهم وبدار الهجرة بأشباحهم وهذا من الجهاد بالقلب وهو أحد مراتبة الأربع وهي القلب واللسان والمال والبدن وفي الحديث جاهدوا المشركين بألسنتكم وقلوبكم وأموالكم
فصل
ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها كما حرق رسول الله مسجد الضرار وأمر بهدمه وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضرارا وتفريقا بين المؤمنين ومأوى للمنافقين وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم وتحريق وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادا من دون الله أحق بالهدم وأوجب وكذلك محال المعاصي والفسوق كالحانات وبيوت الخمارين وأرباب المنكرات وقد حرق عمر بن الخطاب قرية بكمالها يباع فيها الخمر وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقا وحرق قصر سعد عليه لما احتجب فيه عن الرعية وهم رسول الله بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا يجب عليهم كما أخبر هو عن ذلك
ومنها أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة كما لم يصح وقف هذا المسجد وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق فلو وضعا معا لم يجز ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز ولا تصح الصلاة في هذا المسجد لنهي رسول الله عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجدا أو أوقد عليه سراجا فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه وغربته بين الناس كما ترى
فصل
ومنها جواز إنشاد الشعر للقادم فرحا وسرروا به ما لم يكن معه محرم من لهو كمزمار وشبابة وعود ولم يكن غناء يتضمن رقية الفواحش وما حرم الله فهذا لا يحرمه أحد وتعلق أرباب السماع الفسقي به كتعلق من يستحل شرب الخمر المسكر قياسا على أكل العنب وشرب العصير الذي لا يسكر ونحو هذا من القياسات التي تشبه قياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا ومنها استماع النبي مدح المادحين له وترك الإنكار عليهم ولا يصح قياس غيره عليه في هذا لما بين المادحين والممدوحين من الفروق وقد قال احثوا في وجوه المداحين التراب ومنها ما اشتملت عليه قصة الثلاثة الذين خلفوا من الحكم والفوائد الجمة فنشير إلى بعضها فمنها جواز إخبار الرجل عن تفريطه وتقصيره في طاعة الله ورسوله وعن سبب ذلك وما آل إليه أمره وفي ذلك من التحذير والنصيحة وبيان طرق الخير والشر وما يترتب عليها ما هو من أهم الأمور
ومنها جواز مدح الإنسان نفسه بما فيه من الخير إذا لم يكن على سبيل الفخر والترفع ومنها تسلية الإنسان نفسه عما لم يقدر له من الخير بما قدر له من نظيره أو خير منه ومنها أن بيعة العقبة كانت من أفضل مشاهد الصحابة حتى إن كعبا كان لا يراها دون مشهد بدر
ومنها أن الإمام إذا رأى المصلحة في أن يستر عن رعيته بعض ما يهم به ويقصده من العدو ويوري به عنه استحب له ذلك أو يتعين بحسب المصلحة ومنها أن الستر والكتمان إذا تضمن مفسدة لم يجز ومنها أن الجيش في حياة النبي لم يكن لهم ديوان وأول من دون الديوان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا من سنته التي أمر النبي باتباعها وظهرت مصلحتها وحاجة المسلمين إليها ومنها أن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة فالحزم كل الحزم في انتهازها والمبادرة إليها والعجز في تأخيرها والتسويف بها ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما ثبتت والله سبحانه يعاقب من فتح له بابا من الخير فلم ينتهزه بأن يحول بين قلبه وإرادته فلا يمكنه بعد من إرادته فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه حال بينه وبين قلبه وإرادته فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) ( الأنفال 24 ) وقد صرح الله سبحانه بهذا في قوله ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ) ( الأنعام 110 ) وقال تعالى ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) ( الصف 5 ) وقال ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) ( التوبة 115 ) وهو كثير في القرآن ومنها أنه لم يكن يتخلف عن رسول الله إلا أحد رجال ثلاثة إما مغموص عليه في النفاق أو رجل من أهل الأعذار أو من خلفه رسول الله واستعمله على المدينة أو خلفه لمصلحة ومنها أن الإمام والمطاع لا ينبغي له أن يهمل من تخلف عنه في بعض الأموز بل يذكره ليراجع الطاعة ويتوب فإن النبي قال بتبوك ما فعل كعب ولم يذكر سواه من المخلفين استصلاحا له ومراعاة وإهمالا للقوم المنافقين ومنها جواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن حمية أو ذبا عن الله ورسوله ومن هذا طعن أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة ومن هذا طعن ورثة الأنبياء وأهل السنة في أهل الأهواء والبدع لله لا لحظوظهم وأغراضهم ومنها جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد أنه وهم وغلط كما قال معاذ للذي طعن في كعب بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ولم ينكر رسول الله على واحد منهما ومنها أن السنة للقادم من السفر أن يدخل البلد على وضوء وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته فيصلي فيه ركعتين ثم يجلس للمسلمين عليه ثم ينصرف إلى أهله ومنها أن رسول الله كان يقبل علانية من أظهر الإسلام من المنافقين ويكل سريرته إلى الله ويجري عليه حكم الظاهر ولا يعاقبه بما لم يعلم من سره ومنها ترك الإمام والحاكم رد السلام على من أحدث حدثا تأديبا له وزجرا لغيره فإنه لم ينقل أنه رد على كعب بل قابل سلامه بتبسم المغضب
ومنها أن التبسم قد يكون عن الغضب كما يكون عن التعجب والسرور فإن كلا منهما يوجب انبساط دم القلب وثورانه ولهذا تظهر حمرة الوجه لسرعة ثوران الدم فيه فينشأ عن ذلك السرور والغضب تعجب يتبعه ضحك وتبسم فلا يغتر المغتر بضحك القادر عليه في وجهه ولا سيما عند المعتبة كما قيل :
( إذا رأيت الليث بارزة % فلا تظنن أن الليث مبتسم )
ومنها معاتبة الإمام والمطاع أصحابه ومن يعز عليه ويكرم عليه فإنه عاتب الثلاثة دون سائر من تخلف عنه وقد أكثر الناس من مدح عتاب الأحبة واستلذاذه والسرور به فكيف بعتاب أحب الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه ولله ما كان أحلى ذلك العتاب وما أعظم ثمرته وأجل فائدته ولله ما نال به الثلاثة من أنواع المسرات وحلاوة الرضى وخلع القبول ومنها توفيق الله لكعب وصاحبيه فيما جاؤوا به من الصدق ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق فصلحت عاجلتهم وفسدت عاقبتهم كل الفساد والصادقون تعبوا في العاجلة بعض التعب فأعقبهم صلاح العاقبة والفلاح كل الفلاح وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة فمرارات المبادي حلاوات في العواقب وحلاوات المبادي مرارات في العواقب وقول النبي لكعب أما هذا فقد صدق دليل ظاهر في التمسك بمفهوم اللقب عند قيام قرينة تقتضي تخصيص المذكور بالحكم كقوله تعالى ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان ) ( الأنبياء 78 , 79 ) وقوله جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا وقوله في هذا الحديث أما هذا فقد صدق وهذا مما لا يشك السامع أن المتكلم قصد تخصيصه بالحكم وقول كعب هل لقي هذا معي أحد فقالوا نعم مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فيه أن الرجل ينبغي له أن يرد حر المصيبة بروح التأسي بمن لقي مثل ما لقي وقد أرشد سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) ( النساء 104 ) وهذا هو الروح الذي منعه الله سبحانه أهل النار فيها بقوله ( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) ( الزخرف 39 ) وقوله فذكروا لى رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة هذا الموضع مما عد من أوهام الزهري فإنه لا يحفظ عن أحد من أهل المغازي والسير ألبتة ذكر هذين الرجلين في أهل بدر لا ابن إسحاق ولا موسى بن عقبة ولا الأموي ولا الواقدي ولا أحد ممن عد أهل بدر وكذلك ينبغي ألا يكونا من أهل بدر فإن النبي لم يهجر حاطبا ولا عاقبة وقد جس عليه وقال لعمر لما هم بقتله وما يدرك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأين ذنب التخلف من ذنب الجس قال أبو الفرج بن الجوزي ولم أزل حريصا على كشف ذلك وتحقيقه حتى رأيت أبا بكر الأثرم قد ذكر الزهري وذكر فضله وحفظه وإتقانه وأنه لا يكاد يحفظ عليه غلط إلا في هذا الموضع فإنه قال فإنه قال إن مرارة ابن الربيع وهلال بن أمية شهدا بدرا وهذا لم يقله أحد غيره والغلط لا يعصم منه إنسان
فصل
وفي نهي النبي عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف عنه دليل على صدقهم وكذب الباقين فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب وأما المنافقون فجرمهم أعظم من أن يقابل الهجر فدواء هذا المرض لا يعمل في مرض النفاق ولا فائدة فيه وهكذا يفعل الرب سبحانه بعباده في عقوبات جرائمهم فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة فلا يزال مستيقظا حذرا وأما من سقط من عينه وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه وكلما أحدث ذنبا أحدث له نعمة والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة وأنه يريد به العذاب الشديد والعقوبة التي لا عاقبة معها كما في الحديث المشهور إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له عقوبته في الدنيا وإذا أراد بعبد شرا أمسك عنه عقوبته في الدنيا فيرد يوم القيامة بذنوبه وفيه دليل أيضا على هجران الإمام والعالم والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب ويكون هجرانه دواء له بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه فيهلكه إذ المراد تأديبه لا إتلافه وقوله حتى تنكرت لي الأرض فما هي بالتي أعرف هذا التنكر يجده الخائف والحزين والمهموم في الأرض وفي الشجر والنبات حتى يجده فيمن لا يعلم حاله من الناس ويجده أيضا المذنب العاصي بحسب جرمه حتى في خلق زوجته وولده وخادمه ودابته ويجده في نفسه أيضا فتتنكر له نفسه حتى ما كأنه هو ولا كأن أهله وأصحابه ومن يشفق عليه بالذين يعرفهم وهذا سر من الله لا يخفى إلا على من هو ميت القلب وعلى حسب حياة القلب يكون إدراك هذا التنكر والوحشة وما لجرح بميت إيلام ومن المعلوم أن هذا التنكر والوحشة كانا لأهل النفاق أعظم ولكن لموت قلوبهم لم يكونوا يشعرون به وهكذا القلب إذا استحكم مرضه واشتد ألمه بالذنوب والإجرام لم يجد هذه الوحشة والتنكر ولم يحس بها وهذه علامة الشقاوة وأنه قد أيس من عافية هذا المرض وأعيا الأطباء شفاؤه والخوف والهم مع الريبة والأمن والسرور مع البراءة من الذنب
( فما في الأرض أشجع من بريء % ولا في الأرض أخوف من مريب )
وهذا القدر قد ينتفع به المؤمن البصير إذا ابتلي به ثم راجع فإنه ينتفع به نفعا عظيما من وجوه عديدة تفوت الحصر ولو لم يكن منها إلا استثماره من ذلك أعلام النبوة وذوقه نفس ما أخبر به الرسول فيصير تصديقه ضروريا عنده ويصير ما ناله من الشر بمعاصيه ومن الخير بطاعاته من أدلة صدق النبوة الذوقية التي لا تتطرق إليها الاحتمالات وهذا كمن أخبرك أن في هذه الطريق من المعاطب والمخاوف كيت وكيت على التفصيل فخالفته وسلكتها فرأيت عين ما أخبرك به فإنك تشهد صدقه في نفس خلافك له وأما إذا سلكت طريق الأمن وحدها ولم تجد من تلك المخاوف شيئا فإنه وإن شهد صدق المخبر بما ناله من الخير والظفر مفصلا فإن علمه بتلك يكون مجملا
فصل
ومنها أن هلال بن أمية ومرارة قعدا في بيوتهما وكان يصليان في بيوتهما ولا يحضران الجماعة وهذا يدل على أن هجران المسلمين للرجل عذر يبيح له التخلف عن الجماعة أو يقال من تمام هجرانه أن لا يحضر جماعة المسلمين لكن يقال فكعب كان يحضر الجماعة ولم يمنعه النبي ولا عتب عليهما على التخلف وعلى هذا فيقال لما أمر المسلمون بهجرهم تركوا لم يؤمروا ولم ينهوا ولم يكلموا فكان من حضر منهم الجماعة لم يمنع ومن تركها لم يكلم أو يقال لعلهما ضعفا وعجزا عن الخروج ولهذا قال كعب وكنت أنا أجلد القوم وأشبهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين
وقوله وآتي رسول الله فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا فيه دليل على أن الرد على من يستحق الهجر غير واجب إذ لو وجب الرد لم يكن بد من إسماعه وقوله حتى إذا طال ذلك على تسورت جدار حائط أبي قتادة فيه دليل على دخول الإنسان دار صاحبه وجاره إذا علم رضاه بذلك وإن لم يستأذنه وفي قول أبي قتادة له الله ورسوله أعلم دليل على أن هذا ليس بخطاب ولا كلام له فلو حلف لا يكلمه فقال مثل هذا الكلام جوابا له لم يحنث ولا سيما إذا لم ينو به مكالمته وهو الظاهر من حال أبي قتادة
وفي إشارة الناس إلى النبطي الذي كان يقول من يدل على كعب بن مالك دون نطقهم له تحقيق لمقصود الهجر وإلا فلو قالوا له صريحا ذاك كعب بن مالك لم يكن ذلك كلاما له فلا يكونون به مخالفين للنهي ولكن لفرط تحريهم وتمسكهم بالأمر لم يذكروه له بصريح اسمه وقد يقال إن في الحديث عنه بحضرته وهو يسمع نوع مكالمة له ولا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بكلامه وهي ذريعة قريبة فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع وهذا أفقه وأحسن وفي مكاتبة ملك غسان له بالمصير إليه ابتلاء من الله تعالى وامتحان لإيمانه ومحبته لله ورسوله وإظهار للصحابة أنه ليس ممن ضعف إيمانه بهجر النبي والمسلمين له ولا هو ممن تحمله الرغبة في الجاه والملك مع هجران الرسول والمؤمينن له على مفارقة دينه فهذا فيه من تبرئة الله له من النفاق وإظهار قوة إيمانه وصدقه لرسوله وللمسلمين ما هو من تمام نعمة الله عليه ولطفه به وجبره لكسره وهذا البلاء يظهر لب الرجل وسره وما ينطوي عليه فهو كالكير الذي يخرج الخبيث من الطيب
وقوله فتيممت بالصحيفة التنور فيه المبادرة إلى إتلاف ما يخشى منه الفساد والمضرة في الدين وأن الحازم لا ينتظر به ولا يؤخره وهذا كالعصير إذا تخمر وكالكتاب الذي يخشى منه الضرر والشر فالحزم المبادرة إلى إتلافه وإعدامه وكانت غسان إذ ذاك وهم ملوك عرب الشام حربا لرسول الله وكانوا ينعلون خيولهم لمحاربته وكان هذا لما بعث شجاع بن وهب الأسدي إلى ملكهم الحارث بن أبي شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام وكتب معه إليه قال شجاع فانتهيت إليه وهو في غوطة دمشق وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقيصر وهو جاء من حمص إلى إيلياء فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه إني رسول رسول الله إليه فقال لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا وجعل حاجبه وكان روميا اسمه مري يسألني عن رسول الله وكنت أحدثه عن رسول الله وما يدعو إليه فيرق حتى يغلب عليه البكاء ويقول إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه فأنا أؤمن به وأصدقه فأخاف من الحارث أن يقتلني وكان يكرمني ويحسن ضيافتي وخرج الحارث يوما فجلس فوضع التاج على رأسه فأذن لي عليه فدفعت إليه كتاب رسول الله فقرأه ثم رمى به قال من ينتزع مني ملكي وقال أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته علي بالناس فلم تزل تعرض حتى قام وأمر بالخيول تنعل ثم قال أخبر صاحبك بما ترى وكتب إلى قيصر يخبره خبري وما عزم عليه فكتب إليه قيصر أن لا تسر ولا تعبر إليه واله عنه ووافني بإيلياء فلما جاءه جواب كتابه دعاني فقال متى تريد أن تخرج إلى صاحبك فقلت غدا فأمر لي بمائة مثقال ذهبا ووصلني حاجبه بنفقه وكسوة وقال اقرأ على رسول الله مني السلام فقدمت على رسول الله فأخبرته فقال باد ملكه وأقرأته من حاجبه السلام وأخبرته بما قال فقال رسول الله صدق ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح ففي هذه المدة أرسل ملك غسان يدعو كعبا إلى اللحاق به فأبت له سابقة الحسنى أن يرغب عن رسول الله ودينه
فصل
في أمر رسول الله لهؤلاء الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم لما مضى لهم أربعون ليلة كالبشارة بمقدمات الفرج والفتح من وجهين
أحدهما كلامه لهم وإرساله إليهم بعد أن كان لا يكلمهم بنفسه ولا برسوله الثاني من خصوصية أمرهم باعتزال النساء وفيه تنبيه وإرشاد لهم إلى الجد والاجتهاد في العبادة وشد المئزر واعتزال محل اللهو واللذة والتعوض عنه بالإقبال على العبادة وفي هذا إيذان بقرب الفرج وأنه قد بقي من العتب أمر يسير وقفه هذه القصة أن زمن العبادات ينبغي فيه تجنب النساء كزمن الإحرام وزمن الاعتكاف وزمن الصيام فأراد النبي أن يكون آخر هذه المدة في حق هؤلاء بمنزلة أيام الإحرام والصيام في توفرها على العبادة ولم يأمرهم بذلك من أول المدة رحمة بهم وشفقة عليهم إذ لعلهم يضعف صبرهم عن نسائهم في جميعها فكان من اللطف بهم والرحمة أن أمروا بذلك في آخر المدة كما يؤمر به الحاج من حين يحرم لا من حين يعزم على الحج وقول كعب لامرأته الحقي بأهلك دليل على أنه لم يقطع بهذه اللفظة وأمثالها طلاق ما لم ينوه والصحيح أن لفظ الطلاق والعتاق والحرية كذلك إذا أراد به غير تسييب الزوجة وإخراج الرقيق عن ملكه لا يقع به طلاق ولا عتاق هذا هو الصواب الذي ندين الله به ولا نرتاب فيه ألبتة فإذا قيل له إن غلامك فاجر أو جاريتك تزني فقال ليس كذلك بل هو غلام عفيف حر وجارية عفيفة حرة ولم يرد بذلك حرية العتق وإنما أراد حرية العفة فإن جاريته وعبده لا يعتقان بهذا أبدا وكذا إذا قيل له كم لغلامك عندك سنة فقال هو عتيق عندي وأراد قدم ملكه له لم يعتق بذلك وكذلك إذا ضرب امرأته الطلق فسئل عنها فقال هي طالق ولم يخطر بقلبه إيقاع الطلاق وإنما أراد أنها في طلق الولادة لم تطلق بهذا وليست هذه الألفاظ مع هذه القرائن صريحة إلا فيما أريد بها ودل السياق عليها فدعوى أنها صريحة في العتاق والطلاق مع هذه القرائن مكابرة ودعوى باطلة قطعا
فصل
وفي سجود كعب حين سمع صوت المبشر دليل ظاهر أن تلك كانت عادة الصحابة وهي سجود الشكر عند النعم المتجددة والنقم المندفعة وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتل مسيلمة الكذاب وسجد علي ابن أبي طالب لما وجد ذا الثدية مقتولا في الخوارج وسجد رسول الله حين بشره جبريل أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا وسجد حين شفع لأمته فشفعه الله فيهم ثلاث مرات وأتاه بشير فبشره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حجر عائشة فقام فخر ساجدا وقال أبو بكرة كان رسول الله إذا أتاه أمر يسره خر لله ساجدا وهي آثار صحيحة لا مطعن فيها
وفي استباق صاحب الفرس والراقي على سلع ليبشرا كعبا دليل على حرص القوم على الخير واستباقهم إليه وتنافسهم في مسرة بعضهم بعضا
وفي نزع كعب ثوبيه وإعطائهما للبشير دليل على أن إعطاء المبشرين من مكارم الأخلاق والشيم وعادة الأشراف وقد أعتق العباس غلامه لما بشره أن عند الحجاج بن علاط من الخبر عن رسول الله ما يسره وفيه دليل على جواز إعطاء البشير جميع ثيابه وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية والقيام إليه إذا أقبل ومصافحته فهذه سنة مستحبة وهو جائز لمن تجددت له نعمة دينوية وأن الأولى أن يقال له ليهنك ما أعطاك الله وما من الله به عليك ونحو هذا الكلام فإن فيه تولية النعمة ربها والدعاء لمن نالها بالتهني بها
وفيه دليل على أن خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله وقبول الله توبته لقول النبي أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك
فإن قيل فكيف يكون هذا اليوم خيرا من يوم إسلامه فيل هو مكمل ليوم إسلامه ومن تمامه فيوم إسلامه بداية سعادته ويوم توبته كمالها وتمامها والله المستعان
وفي سرور رسول الله بذلك وفرحه به واستناره وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشفقة على الأمة والرحمة بهم والرأفة حتى لعل فرحه كان أعظم من فرح كعب وصاحبيه وقول كعب يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي دليل على استحباب الصدقة عند التوبة بما قدر عليه من المال وقول رسول الله أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك دليل على أن من نذر الصدقة بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه بل يجوز له أن يبقي له منه بقية وقد اختلفت الرواية في ذلك ففي الصحيحين أن النبي قال له أمسك عليك بعض مالك ولم يعين له قدرا بل أطلق ووكله إلى اجتهاده في قدر الكفاية وهذا هو الصحيح فإن ما نقص عن كفايته وكفاية أهله لا يجوز له التصدق به فنذره لا يكون طاعة فلا يجب الوفاء به وما زاد على قدر كفايته وحاجته فإخراجه والصدقة به أفضل فيجب إخراجه إذا نذره هذا قياس المذهب ومقتضى قواعد الشريعة ولهذا تقدم كفاية الرجل وكفاية أهله على أداء الواجبات المالية سواء كانت حقا لله كالكفارات والحج أو حقا للآدميين كأداء الديون فإنا نترك للمفلس ما لا بد منه من مسكن وخادم وكسوة وآلة حرفة أو ما يتجر به لمؤنته إن فقدت الحرفة ويكون حق الغرماء فيما بقي وقد نص الإمام أحمد على أن من نذر الصدقة بماله كله أجزأه ثلثه واحتج له أصحابه بما روي في قصة كعب هذه أنه قال يا رسول الله إن من توبتي إلى الله ورسوله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة قال لا قلت فنصفه قال لا قلت فثلثة قال نعم قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر رواه أبو داود وفي ثبوت هذا ما فيه فإن الصحيح في قصة كعب هذه ما رواه أصحاب الصحيح من حديث الزهري عن ولد كعب بن مالك عنه أنه قال أمسك عليك بعض مالك من غير تعيين لقدره وهم أعلم بالقصة من غيرهم فإنهم ولده وعنه نقلوها فإن قيل فما تقولون فيما رواه الإمام أحمد في مسنده أن أبا لبابة بن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار وقومي وأساكنك وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله فقال رسول الله يجزىء عنك الثلث قيل هذا هو الذي احتج به أحمد لا بحديث كعب فإنه قال في رواية ابنه عبدالله إذا نذر أن يتصدق بماله كله أو ببعضه وعليه دين أكثر مما يملكه فالذي أذهب إليه أنه يجزئه من ذلك الثلث لأن النبي أمر أبا لبابة بالثلث وأحمد أعلم بالحديث أن يحتج بحديث كعب هذا الذي فيه ذكر الثلث إذ المحفوظ في هذا الحديث أمسك عليك بعض مالك وكأن أحمد رأى تقييد إطلاق حديث كعب هذا بحديث أبي لبابة
وقوله فيمن نذر أن يتصدق بماله كله أو ببعضه وعليه دين يستغرقه إنه يجزئه من ذلك الثلث دليل على انعقاد نذره وعليه دين يستغرق ماله ثم إذا قضى الدين أخرج مقدار ثلث ماله يوم النذر وهكذا قال في رواية ابنه عبدالله إذا وهب ماله وقضى دينه واستفاد غيره فإنما يجب عليه إخراج ثلث ماله يوم حنثه يريد بيوم حنثه يوم نذره فينظر قدر الثلث ذلك اليوم فيخرجه بعد قضاء دينه
وقوله أو ببعضه يريد أنه إذا نذر الصدقة بمعين من ماله أو بمقدار كألف ونحوها فيجزئه ثلثه كنذر الصدقة بجميع ماله والصحيح من مذهبه لزوم الصدقة بجميع المعين وفيه رواية أخرى أن المعين إن كان ثلث ماله فما دونه لزمه الصدقة بجميعه وان زاد على الثلث لزمه منه بقدر الثلث وهي أصح عند أبي البركات
وبعد فإن الحديث ليس فيه دليل على أن كعبا وأبا لبابة نذرا نذرا منجزا وإنما قالا إن من توبتنا أن ننخلع من أموالنا وهذا ليس بصريح في النذر وإنما فيه العزم على الصدقة بأموالهما شكرا لله على قبول توبتهما فأخبر النبي أن بعض المال يجزىء من ذلك ولا يحتاجان إلى إخراجه كله وهذا كما قال لسعد وقد استأذنه أن يوصي بماله كله فأذن له في قدر الثلث فإن قيل هذا يدفعه أمران أحدهما قوله يجزئك والإجزاء إنما يستعمل في الواجب والثاني أن منعه من الصدقة بما زاد على الثلث دليل على أنه ليس بقربة إذ الشارع لا يمنع من القرب ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به قيل أما قوله يجزئك فهو بمعنى يكفيك فهو من الرباعي وليس من جزى عنه إذا قضى عنه يقال أجزأني إذا كفاني وجزى عني إذا قضى عني وهذا هو الذي يستعمل في الواجب ومنه قوله لأبي بردة في الأضحية تجزي عنك ولن تجزي عن أحد بعدك والكفاية تستعمل في الواجب والمستحب
وأما منعه من الصدقة بما زاد على الثلث فهو إشارة منه عليه بالأرفق به وما يحصل له به منفعة دينه ودنياه فإنه لو مكنه من إخراج ماله كله لم يصبر على الفقر والعدم كما فعل بالذي جاءه بالصرة ليتصدق بها فضربه بها ولم يقبلها منه خوفا عليه من الفقر وعدم الصبر وقد يقال وهو أرجح إن شاء الله تعالى إن النبي عامل كل واحد ممن أراد الصدقة بماله بما يعلم من حاله فمكن أبا بكر الصديق من إخراج ماله كله وقال ما أبقيت لأهلك فقال أبقيت لهم الله ورسوله فلم ينكر عليه وأقر عمر على الصدقة بشطر ماله ومنع صاحب الصرة من التصدق بها وقال لكعب أمسك عليك بعض مالك وهذا ليس فيه تعيين المخرج بأنه الثلث ويبعد جدا بأن يكون الممسك ضعفي المخرج في هذا اللفظ وقال لأبي لبابة يجزئك الثلث ولا تناقض بين هذه الأخبار وعلى هذا فمن نذر الصدقة بماله كله أمسك منه ما يحتاج إليه هو وأهله ولا يحتاجون معه إلى سؤال الناس مدة حياتهم من رأس مال أو عقار أو أرض يقوم مغلها بكفايتهم وتصدق بالباقي والله أعلم وقال ربيعة بن أبي عبدالرحمن يتصدق منه بقدر الزكاة ويمسك الباقي وقال جابر بن زيد إن كان ألفين فأكثر أخرج عشرة وإن كان ألفا فما دون فسبعه وإن كان خمسمائة فمادون فخمسه وقال أبو حنيفة رحمه الله يتصدق بكل ماله الذي تجب فيه الزكاة وما لا تجب فيه الزكاة ففيه روايتان أحدهما يخرجه والثانية لا يلزمه منه شيء
وقال الشافعي تلزمه الصدقة بماله كله وقال مالك والزهري وأحمد يتصدق بثلثه وقالت طائفة يلزمه كفارة يمين فقط
فصل
ومنها عظم مقدار الصدق وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق ولا أهلك من أهكله إلا بالكذب وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يكونوامع الصادقين فقال ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) ( التوبة 119 )
وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين سعداء وأشقياء فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق والأشقياء هم أهل الكذب والتكذيب وهو تقسيم حاصر مطرد منعكس فالسعادة دائرة مع الصدق والتصديق والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب وأخبر سبحانه وتعالى أنه لا ينفع العباد ي