فصل في أمر مسجد الضرار الذي نهى الله رسوله أن يقوم فيه فهدمه صلى الله عليه وسلم
وأقبل رسول الله من تبوك حتى نزل بذي أوان وبينها وبين المدينة ساعة وكان أصحاب مسجد الضرار أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال إني على جناح سفر وحال شغل ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه فلما نزل بذي أوان جاءه خبر المسجد من السماء فدعا مالك بن الدخشم أخا بني سلمة بن عوف ومعن بن عدي العجلاني فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فخرجا مسرعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لمعن أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي ودخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فحرقاه وهدماه فتفرقوا عنه فأنزل الله فيه ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ) ( التوبة 107 ) إلى آخر القصة
وذكر ابن إسحاق الذين بنوه وهم إثنا عشر رجلا منهم ثعلبة بن حاطب وذكر عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا عبدالله بن صالح حدثني معاوية ابن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا ) هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا فقال لهم أبو عامرابنوا مسجدكم واستمدوا ما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب على قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي فقالوا إنا قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فأنزل الله عز وجل ( لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم ) يعني مسجد قباء ( أحق أن تقوم فيه ) ( التوبة 108 ) إلى قوله ( فانهار به في نار جهنم ) ( التوبة 109 ) يعني قواعده ( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ) يعني الشك ( إلا أن تقطع قلوبهم ) يعني بالموت
فصل
فلما دنا رسول الله من المدينة خرج الناس لتلقيه وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن :
( طلع البدر علينا % من ثنيات الوداع )
( وجب الشكر علينا % ما دعا لله داعي )
وبعض الرواة يهم في هذا ويقول إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة وهو وهم ظاهر لأن ثنيات الوادع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام فلما أشرف على المدينة قال هذه طابة وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه فلما دخل قال العباس يا رسول الله ائذن لي أمتدحك فقال رسول الله قل لا يفضض الله فاك فقال :
( من قبلها طبت في الظلال وفي % مستودع حيث يخصف الورق )
( ثم هبطت البلاد لا بشر % أنت ولا مضغة ولاعلق )
( بل نطفة تركب السفين وقد % ألجم نسرا وأهله الغرق )
( تنقل من صالب إلى رحم % إذا مضى عالم بدا طبق )
( حتى احتوى بيتك المهيمن من % خنذف عليا تحتها النطق )
( وأنت لما ولدت أشرقت ال % أرض وضاءت بنورك الأفق )
( فنحن في ذلك الضياء وفي الن % نور وسبل الرشاد نخترق )
فصل
ولما دخل رسول الله المدينة بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس فجاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله وجاءه كعب بن مالك فلما سلم عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال له تعال قال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك فقلت بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله عنى والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني يؤنبوني فقالوا لي والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله لك قال فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم هل لقي هذا معي أحد قالوا نعم رجلان فالأمثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هما قالوا مرارة ابن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي فذكروالي رجلين صالحين شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي
ونهى رسول الله المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرض فما هي بالتي أعرف فلبثن على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله فسكت فعدت فناشدته فسكت فعدت فناشدته فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار
فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان فإذا فيه أما بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك فقلت لما قرأتها وهذاأيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرتها حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله يأتيني فقال إن رسول الله يأمرك أن تعتزل أمرأتك فقلت أطلقها أم ماذا قال لا ولكن اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه قال لا ولكن لا يقربك قالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا قال كعب فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت والله لا استأذن فيها رسول الله وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب ولبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا بينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا فعرفت أن قد جاء فرج من الله
وآذن رسول الله بتوبة الله علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم فأوفى على ذروة الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما يبشراه والله ما أملك غيرهما واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت إلى رسول الله فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة يقولون ليهنك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله جالس حوله الناس فقام إلى طلحة بن عبيدالله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولست أنساها لطلحة فلما سلمت على رسول الله قال وهو يبرق وجهه من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قال قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله قال لا بل من عند الله وكان رسول الله إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر فقلت يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا ما أبلاني والله ما تعمدت بعد ذلك إلى يومي هذا كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت فأنزل الله تعالى على رسوله ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ) ( التوبة 117 ) إلى قوله ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) ( التوبة 119 ) فوالله ما أنعم الله علي نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد قال ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم ) ( التوبة 95 ) إلى قوله ( فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) ( التوبة 96 ) قال كعب وكان تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ) ( التوبة 118 ) وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه
وقال عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا عبد الله بن صالح حدثني معاوية ابن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قولــه ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ) ( التوبة 102 ) قال كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك فلما حضر رسول الله أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد وكان يمر النبي إذا رجع في المسجد عليهم فلما رآهم قال من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسواري قالوا هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله أوثقوا أنفسهم حتى يطلقهم النبي ويعذرهم قال وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فلما بلغهم ذلك قالوا ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا فأنزل الله عز وجل ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ) وعسى من الله واجب ( إنه هو التواب الرحيم ) فلما نزلت أرسل إليهم النبي فأطلقهم وعذرهم فجاؤوا بأموالهم فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا قال ما أمرت أن آخذ أموالكم فأنزل الله ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ) ( التوبة 103 ) يقول استغفر لهــم ( إن صلاتك سكن لهم ) فأخذ منهم الصدقة واستغفر لهم وكان ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم بالسواري فأرجئوا لا يدرون أيعذبون أم يتاب عليهم فأنزل الله تعالى ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ) إلى قوله ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ) إلى قولـه( إن الله هو التواب الرحيم ) تابعة عطية بن سعد