تابع لما تبقى من غزوة حنين
بغيرها وذلك لأن هذا إجبار من الله سبحانه عن عاقبة حاله ومآله بما يتعاطاه من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى ذلك مقتضية له وهو أعلم بربه وأتبع لأمره من أن يعطل الأسباب التي جعلها الله له بحكمته موجبة لما وعده به من النصر والظفر وإظهار دينه وغلبته لعدوه وهذا كما أنه سبحانه ضمن له حياته حتى يبلغ رسالاته ويظهر دينه وهو يتعاطى أسباب الحياة من المأكل والمشرب والملبس والمسكن وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن ترك الدعاء وزعم أنه لا فائدة فيه لأن المسؤول إن كان قد قدر ناله ولا بد وإن لم يقدر لم ينله فأي فائدة في الاشتغال بالدعاء ثم تكايس في الجواب بأن قال الدعاء عبادة فيقال لهذا الغالط بقي عليك قسم آخر وهو الحق أنه قد قدر له مطلوبه بسبب إن تعاطاه حصل له المطلوب وإن عطل السبب فاته المطلوب والدعاء من أعظم الأسباب في حصول المطلوب وما مثل هذا الغالط إلا مثل من يقول إن كان الله قد قدر لي الشبع فأنا أشبع أكلت أو لم آكل وإن لم يقدر لي الشبع لم أشبع أكلت أو لم آكل فما فائدة الأكل وأمثال هذه الترهات الباطلة المنافية لحكمة الله تعالى وشرعه وبالله التوفيق
فصل
وفيها أن النبي شرط لصفوان في العارية الضمان فقال بل عارية مضمونة فهل هذا إخبار عن شرعه في العارية ووصف لها بوصف شرعه الله فيها وأن حكمها الضمان كما يضمن المغصوب أو إخبار عن ضمانها بالأداء بعينها ومعناه أني ضامن لك تأديتها وأنها لا تذهب بل أردها إليك بعينها هذا مما اختلف فيه الفقهاء فقال الشافعي وأحمد بالأول وأنها مضمونة بالتلف وقال أبو حنيفة ومالك بالثاني وأنها مضمونة بالرد على تفصيل في مذهب مالك وهو أن العين إن كانت مما لا يغاب عليه كالحيوان والعقار لم تضمن بالتلف إلا أن يظهر كذبه وإن كانت مما يغاب عليه كالحلي ونحوه ضمنت بالتلف إلا أن يأتي ببينة تشهد على التلف وسر مذهبه أن العارية أمانة غير مضمونة كما قال أبو حنيفة إلا أنه لا يقبل قوله فيما يخالف الظاهر فلذلك فرق بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه ومأخذ المسألة أن قوله لصفوان بل عارية مضمونة هل أراد به أنها مضمونة بالرد أو بالتلف أي أضمنها إن تلفت أو أضمن لك ردها وهو يحتمل الأمرين وهو في ضمان الرد أظهر لثلاثة أوجه أحدها أن في اللفظ الآخر بل عارية مؤداة فهذا يبين أن قوله مضمونة المراد به المضمونة بالأداء الثاني أنه لم يسأله عن تلفها وإنما سأله هل تأخذها مني أخذ غصب تحول بيني وبينها فقال لا بل أخذ عارية أؤديها إليك ولو كان سأله عن تلفها وقال أخاف أن تذهب لناسب أن يقول أنا ضامن لها إن تلفت الثالث أنه جعل الضمان صفة لها نفسها ولو كان ضمان تلف لكان الضمان لبدلها فلما وقع الضمان على ذاتها دل على أنه ضمان أداء فإن قيل ففي القصة أن بعض الدروع ضاع فعرض عليه النبي أن يضمنها فقال أنا اليوم في الإسلام أرغب قيل هل عرض عليه أمرا واجبا أو أمرا جائزا مستحبا الأولى فعله وهو من مكارم الأخلاقوالشيم ومن محاسن الشريعة وقد يترجح الثاني بأنه عرض عليه الضمان ولو كان الضمان واجبا لم يعرضه عليه بل كان يقي له به ويقول هذا حقك كما لو كان الذاهب بعينه موجودا فإنه لم يكن ليعرض عليه رده فتأمله
فصل
وفيها جواز عقر فرس العدو ومركوبه إذا كان ذلك عونا على قتله كما عقر علي رضي الله عنه جمل حامل راية الكفار وليس هذامن تعذيب الحيوان المنهي عنه وفيها عفو رسول الله عمن هم بقتله ولم يعاجله بل دعا له ومسح صذره حتى عاد كأنه ولي حميم ومنها ما ظهر في هذه الغزاة من معجزات النبوة وآيات الرسالة من إخباره لشبية بما أضمر في نفسه ومن ثباته وقد تولى عنه الناس وهو يقول :
( أنا النبي لا كذب % أنا ابن عبد المطلب )
وقد استقبلته كتائب المشركين ومنها إيصال الله قبضته التي رمى بها إلى عيون أعدائه على البعد منه وبركته في تلك القبضة حتى ملأت أعين القوم إلى غير ذلك من معجزاته فيها كنزول الملائكة للقتال معه حتى رآهم العدو جهرة ورآهم بعض المسلمين ومنها جواز انتظار الإمام بقسم الغنائم إسلام الكفار ودخولهم في الطاعة فيرد عليهم غنائمهم وسبيهم وفي هذا دليل لمن يقول إن الغنيمة إنما تملك بالقسمة لا بمجرد الاستيلاء عليها إذ لو ملكها المسلمون بمجرد الاستيلاء لم يستأن بهم النبي ليردها عليهم وعلى هذا فلو مات أحد من الغانمين قبل القسمة أو إحرازها بدار الإسلام رد نصيبه على بقية الغانمين دون ورثته وهذا مذهب أبي حنيفة لو مات قبل الاستيلاء لم يكن لورثته شيء ولو مات بعد القسمة فسهمه لورثته
فصل
وهذا العطاء الذي أعطاه النبي لقريش والمؤلفة قلوبهم هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس أو من خمس الخمس فقال الشافعي ومالك هو من خمس الخمس وهو سهمه الذي جعله الله له من الخمس وهو غير الصفي وغير ما يصيبه من المغنم لأن النبي لم يستأذن الغانمين في تلك العطية ولو كان العطاء من أصل الغنيمة لاستأذنهم لأنهم ملكوها بحوزها والاستيلاء عليها وليس من أصل الخمس لأنه مقسوم على خمسة فهو إذا من خمس الخمس وقد نص الإمام أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة وهذا العطاء هو من النفل نفل النبي به رؤوس القبائل والعشائر ليتألفهم به وقومهم على الإسلام فهو أولى بالجواز من تنفيل الثلث بعد الخمس والربع بعده لما فيه من تقوية الإسلام وشوكته وأهله واستجلاب عدوه إليه هكذا وقع سواء كما قال بعض هؤلاء الذين نفلهم لقد أعطاني رسول الله وإنه لأبغض الخلق إلي فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي فما ظنك بعطاء قوى الإسلام وأهله وأذل الكفر وحزبه واستجلب به قلوب رؤوس القبائل والعشائر الذين إذا غضبوا غضب لغضبهم أتباعهم وإذا رضوا رضوا لرضاهم فإذا أسلم هؤلاء لم يتخلف عنهم أحد من قومهم فلله ما أعظم موقع هذا العطاء وما أجداه وأنفعه للإسلام وأهله
ومعلوم أن الأنفال لله ولرسوله يقسمها رسوله حيث أمره لا يتعدى الأمر فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل ولما عميت أبصار ذي الخويصرة التميمي وأضرابه عن هذه المصلحة والحكمة قال له قائلهم اعدل فإنك لم تعدل وقال مشبهه إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ولعمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله ومعرفته بربه وطاعته له وتمام عدله وإعطائه لله ومنعه لله ولله سبحانه أن يقسم الغنائم كما يحب وله أن يمنعها الغانمين جملة كما منعهم غنائم مكة وقد أوجفوا عليها بخيلهم وركابهم وله أن يسلط عليها نارا من السماء تأكلها وهو في ذلك كله أعدل العادلين وأحكم الحاكمين وما فعل ما فعله من ذلك عبثا ولا قدره سدى بل هو عين المصلحة والحكمة والعدل والرحمة مصدره كمال علمه وعزته وحكمته ورحمته ولقد أتم نعمته على قوم ردهم إلى منازلهم برسوله يقودونه إلى ديارهم وأرضى من لم يعرف قدر هذه النعمة بالشاة والبعير كما يعطي الصغير ما يناسب عقله ومعرفته ويعطي العاقل اللبيب ما يناسبه وهذا فضله وليس هو سبحانه تحت حجر أحد من خلقه فيوجبون عليه بعقولهم ويحرمون ورسوله منفذ لأمره
فإن قيل فلو دعت حاجة الإمام في وقت من الأوقات إلى مثل هذا مع عدوه هل يسوغ له ذلك قيل الإمام نائب عن المسلمين يتصرف لمصالحهم وقيام الدين فإن تعين ذلك للدفع عن الإسلام والذب عن حوزته واستجلاب رؤوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم ساغ له ذلك بل تعين عليه وهل تجوز الشريعة غير هذا فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف هذا العدو أعظم ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين وبالله التوفيق
فصل
وفيها أن النبي قال من لم يطيب نفسه فله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا ففي هذا دليل على جواز بيع الرقيق بل الحيوان بعضه ببعض نسيئة ومتفاضلا وفي السنن من حديث عبدالله بن عمرو أن رسول الله أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة وكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة
وفي السنن عن ابن عمر عنه أنه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ورواه الترمذي من حديث الحسن عن سمرة وصححه وفي الترمذي من حديث الحجاج ابن أرطاة عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نسيئا ولا بأس به يدا بيد قال الترمذي حديث حسن فاختلف الناس في هذه الأحاديث على أربعة أقوال وهي روايات عن أحمد أحدها جواز ذلك متفاضلا ومتساويا نسيئة ويدا بيد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والثاني لا يجوز ذلك نسيئة ولا متفاضلا والثالث يحرم الجمع بين النساء والتفاضل ويجوز البيع مع أحدهما وهو قول مالك رحمه الله والرابع إن اتحد الجنس جاز التفاضل وحرم النساء وإن اختلف الجنس جار التفاضل والنساء وللناس في هذه الأحاديث والتأليف بينها ثلاثة مسالك أحدها تضعيف حديث الحسن عن سمرة لأنه لم يسمع منه سوى حديثين ليس هذا منهما وتضعيف حديث الحجاج بن أرطاة
والمسلك الثاني دعوى النسخ وإن لم يتبين المتأخر منها من المتقدم ولذلك وقع الاختلاف والمسلك الثالث حملها على أحوال مختلفة وهو أن النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إنما كان لأنه ذريعة إلى النسيئة في الربويات فإن البائع إذا رأى ما في هذا البيع من الربح لم تقتصر نفسه عليه بل تجره إلى بيع الربوي كذلك فسد عليهم الذريعة وأباحه يدا بيد ومنع من النساء فيه وما حرم للذريعة يباح للمصلحة الراجحة كما أباح من المزابنة العرايا للمصلحة الراجحة وأباح ما تدعو إليه الحاجة منها وكذلك بيع الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلا في هذه القصة وفي حديث ابن عمر إنما وقع في الجهاد وحاجة المسلمين إلى تجهيز الجيش ومعلوم أن مصلحة تجهيزه أرجح من المفسدة في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة والشريعة لا تعطل المصلحة الراجحة لأجل المرجوحة ونظير هذا جواز لبس الحرير في الحرب وجواز الخيلاء فيها إذ مصلحة ذلك أرجح من مفسدة لبسه ونظير ذلك لباسه القباء الحرير الذي أهداه له ملك أيلة ساعة ثم نزعه للمصلحة الراجحة في تأليفه وجبره وكان هذا بعد النهي عن لباس الحرير كما بيناه مستوفى في كتاب التخيير فيما يحل ويحرم من لباس الحرير وبينا أن هذا كان عام الوفود سنة تسع وأن النهي عن لباس الحرير كان قبل ذلك بدليل أنه نهى عمر عن لبس الحلة الحرير التي أعطاه إياها فكساها عمر أخا له مشركا بمكة وهذا كان قبل الفتح ولباسه هدية ملك أيلة كان بعد ذلك ونظير هذا نهيه عن الصلاة قبل طلوع الشمس وبعد العصر سدا لذريعة التشبه بالكفار وأباح ما فيه مصلحة راجحة من قضاء الفوائت وقضاء السنن وصلاة الجنازة وتحية المسجد لأن مصلحة فعلها أرجح من مفسدة النهي والله أعلم
وفي القصة دليل على أن المتعاقدين إذا جعلا بينهما أجلا غير محدود جاز إذا اتفقا عليه ورضيا به وقد نص أحمد على جوازه في رواية عنه في الخيار مدة غير محدودة أنه يكون جائزا حتى يقطعاه وهذا هو الراجح إذ لا محذور في ذلك ولا عذر وكل منهما قد دخل على بصيرة ورضى بموجب العقد فكلاهما في العلم به سواء فليس لأحدهما مزية على الآخر فلا يكون ذلك ظلما
فصل
وفي هذه الغزوة أنه قال من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه وقاله في غزوة أخرى قبلها فاختلف الفقهاء هل هذا السلب مستحق بالشرع أو بالشرط على قولين هما روايتان عن أحمد أحدهما أنه له بالشرع شرطه الإمام أو لم يشرطه وهو قول الشافعي والثاني أنه لايستحق إلا بشرط الإمام وهو قول أبي حنيفة وقال مالك رحمه الله لا يستحق إلا بشرط الإمام بعد القتال فلو نص قبله لم يجز قال مالك ولم يبلغني أن النبي قال ذلك إلا يوم حنين وإنما نفل النبي بعد أن برد القتال ومأخذ النزاع أن النبي كان هو الإمام والحاكم والمفتي وهو الرسول فقد يقول الحكم بمنصب الرسالة فيكون شرعا عاما إلى يوم القيامة كقوله من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وقوله من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته وكحكمه بالشاهد واليمين وبالشفعة فيما لم يقسم وقد يقول بمنصب الفتوى كقوله لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان وقد شكت إليه شح زوجها وأنه لا يعطيها ما يكفيها خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فهذه فتيا لا حكم إذ لم يدع بأبي سفيان ولم يسأله عن جواب الدعوى ولا سألها البينة وقد يقول بمنصب الإمامة فيكون مصلحة للأمة في ذلك الوقت وذلك المكان وعلى تلك الحال فيلزم من بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي زمانا ومكانا وحالا ومن هاهنا تختلف الأئمة في كثير من المواضع التي فيها أثر عنه كقوله من قتل قتيلا فله سلبه هل قاله بمنصب الإمامة فيكون حكمه متعلقا بالأئمة أو بمنصب الرسالة والنبوة فيكون شرعا عاما وكذلك قوله من أحيا أرضا ميتة فهي له هل هو شرع عام لكل أحد أذن فيه الإمام أو لم يأذن أو هو راجع إلى الأئمة فلا يملك بالإحياء إلا بإذن الإمام على القولين فالأول للشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهما والثاني لأبي حنيفة وفرق مالك بين الفلوات الواسعة وما لا يتشاح فيه الناس وبين ما يقع فيه التشاح فاعتبر إذن الإمام في الثاني دون الأول
فصل
وقوله له عليه بينة دليل على مسألتين إحداهما أن دعوى القاتل أنه قتل هذا الكافر لا تقبل في استحقاق سلبه الثانية الاكتفاء في ثبوت هذه الدعوى بشاهد واحد من غير يمين لما ثبت في الصحيح عن أبي قتادة قال خرجنا مع رسول الله عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت إليه حتى أتيته من روائه فضربته على حبل عاتقه وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر بن الخطاب فقال ما للناس فقلت أمر الله ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله فقال من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه قال فقمت فقلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال مثل ذلك قال ففمت فقلت من يشهد لي ثم قال ذلك الثالثة فقمت فقال رسول الله ما لك أبا قتادة فقصصت عليه القصة فقال رجل من القوم صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه من حقه فقال أبو بكر الصديق لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صدق فأعطه إياه فأعطاني فبعت الدرع فابتعت به مخرفا في بني سلمة فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام وفي المسألة ثلاثة أقوال هذا أحدها وهو وجه في مذهب أحمد والثاني أنه لا بد من شاهد ويمين كإحدى الروايتين عن أحمد والثالث وهو منصوص الإمام أحمد أنه لا بد من شاهدين لأنها دعوى قتل فلا تقبل إلا بشاهدين
وفي القصة دليل على مسألة أخرى وهي أنه لا يشترط في الشهادة التلفظ بلفظ أشهد وهذا أصح الروايات عن أحمد في الدليل وإن كان الأشهر عند أصحابه الاشتراط وهي مذهب مالك قال شيخنا ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط لفظ الشهادة وقد قال ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله نهى عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح ومعلوم أنهم لم يتلفظوا له بلفظ أشهد إنما كان مجرد إخبار وفي حديث ماعز فلما شهد على نفسه أربع شهادات رجمه وإنما كان منه مجرد إخبار عن نفسه وهو إقرار وكذلك قوله تعالى ( قل أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد ) ( الأنعام 19 ) وقوله ( قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) ( الأنعام 130 وقوله ( أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ( آل عمران 81) وقوله ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ) ( ال عمران 18) إلى أضعاف ذلك مما ورد في القرآن والسنة من إطلاق لفظ الشهادة على الخبر المجرد عن لفظ أشهد
وقد تنازع الإمام أحمد وعلي بن المديني في الشهادة للعشرة بالجنة فقال علي أقول هم في الجنة ولا أقول أشهد أنهم في الجنة فقال الإمام أحمد متى قلت هم في الجنة فقد شهدت وهذا تصريح منه بأنه لا يشترط في الشهادة لفظ أشهد وحديث أبي قتادة من أبين الحجج في ذلك
فإن قيل إخبار من كان عنده السلب إنما كان إقرارا بقوله هو عندي وليس ذلك من الشهادة في شيء قيل تضمن كلامه شهادة وإقرارا بقوله صدق شهادة له بأنه قتله وقوله هو عندي إقرار منه بأنه عنده والنبي إنما قضى بالسلب بعد البينة وكان تصديق هذا هو البينة
فصل
وقوله فله سلبه دليل على أن له سلبه كله غير مخمس وقد صرح بهذا في قوله لسلمة بن الأكوع لما قتل قتيلا له سلبه أجمع وفي المسألة ثلاثة مذاهب هذا أحدها والثاني أنه يخمس كالغنيمة وهذا قول الأوزاعي وأهل الشام وهو مذهب ابن عباس لدخوله في آية الغنيمة والثالث أن الإمام إن استكثره خمسه وإن استقله لم يخمسه وهو قول إسحاق وفعله عمر بن الخطاب فروى سعيد في سننه عن ابن سيرين أن البراء بن مالك بارز مرزبان المرازبة بالبحرين فطعنه فدق صلبه وأخذ سواريه وسلبه فلما صلى عمر الظهر أتى البراء في داره فقال إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ مالا وأنا خامسه فكان أول سلب خمس في الاسلام سلب البراء وبلغ ثلاثين ألفا والأول أصح فإن رسول الله لم يخمس السلب وقال هو له أجمع ومضت على ذلك سنته وسنة الصديق بعده وما رآه عمر اجتهاد منه أداه إليه رأيه
والحديث يدل على أنه من أصل الغنيمة فإن النبي قضى به للقاتل ولم ينظر في قيمته وقدره واعتبار خروجه من خمس الخمس وقال مالك هو من خمس الخمس ويدل على أنه يستحقه من يسهم له ومن لا يسهم له من صبي وامرأة وعبد ومشرك وقال الشافعي في أحد قوليه لا يستحق السلب إلا من يستحق السهم لأن السهم المجمع عليه إذا لم يستحقه العبد والصبي والمرأة والمشرك فالسلب أولى والأول اصح للعموم ولأنه جار مجرى قول الإمام من فعل كذا وكذا أو دل على حصن أو جاء برأس فله كذا مما فيه تحريض على الجهاد والسهم مستحق بالحضور وإن لم يكن منه فعل والسلب مستحق بالفعل فجرى مجرى الجعالة
فصل
وفيه دلالة على أنه يستحق سلب جميع من قتله وإن كثروا وقد ذكر أبو داود أن أبا طلحة قتل يوم حنين عشرين رجلا فأخذ أسلابهم