فصل في غزوة حنين وتسمى غزوة أوطاس
وهما موضعان بين مكة والطائف فسميت الغزوة باسم مكانها وتسمى غزوة هوازن لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله قال ابن إسحاق ولما سمعت هوازن برسول الله وما فتح الله عليه من مكة جمعها مالك بن عوف النصري واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها واجتمعت إليه مضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال وهم قليل ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء ولم يخصرها من هوازن كعب ولا كلاب وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعا مجربا وفي ثقيف سيدان لهم وفي الأحلاف قارب بن الأسود وفي بني مالك سبيع بن الحارث وأخوه أحمر بن الحارث وجماع أمر الناس إلى مالك ابن عوف النصري فلما أجمع السير إلى رسول الله ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة فلما نزل قال بأي واد أنتم قالوا بأطاوس قال نعم مجال الخيل لا حزن ضرس ولا سهل دهس مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصبي ويعار الشاء
قالوا ساق مالك ودعي له قال يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء قال سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم قال ولم قال أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم قال راعي ضأن والله هل يرد المنهزم شيء إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك ثم قال ما فعلت كعب وكلاب قالوا لم يشهدها أحد منهم قال غاب الحد والجد لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب فمن شهدها منكم قالوا عمرو ابن عامر وعوف بن عامر قال ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران يا مالك إنك لم تضع بتقديم البيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم ثم الق الصباة على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك قال والله لا أفعل إنك قد كبرت وكبر عقلك والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأي فقالوا أطعناك فقال دريد هذا يوم لم أشهده ولم يفتني
( يا ليتني فيها جذع % أخب فيها وأضع )
( أقود وطفاء الزمع % كأنها شاة صدع )
ثم قال مالك للناس إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد وبعث عيونا من رجاله فأتوه وقد تفرقت أوصالهم قال ويلكم ما شأنكم قالوا رأينا رجالا بيضا على خيل يلق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد ولما سمع بهم نبي الله بعث إليهم عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه ثم أقبل حتى أتى رسول الله فأخبره الخبر فلما أجمع رسول الله السير إلى هوازن ذكر له أن عند صفوان ابن أمية أدراعا وسلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال يا أبا أمية أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدونا غدا فقال صفوان أغصبا يا محمد قال بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك فقال ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح فزعموا أن رسول الله سأله أن يكفيهم حملها ففعل ثم خرج رسول الله معه ألفان من أهل مكة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح الله بهم مكة وكانوا اثني عشر ألفا واستعمل عتاب بن أسيد على مكة أميرا ثم مضى يريد لقاء هوازن
قال ابن إسحاق فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبدالرحمن ابن جابر عن أبيه جابر بن عبدالله قال لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا قال وفي عماية الصبح وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه قد أجمعوا وتهيؤوا وأعدوا فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد منهم على أحد وانحاز رسول الله ذات اليمين ثم قال إلى أين أيها الناس هلم إلي أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله وبقي مع رسول الله نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن ابن أم أيمن وقتل يومئذ قال ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام هوازن وهوازن خلفه إذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه فبينا هو كذلك إذ أهوى عليه علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار يريدانه قال فأتى علي من خلفه فضرب عرقوبي الجمل فوقع على عجزه ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانجعف عن رحله قال فاجتلد الناس قال فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى عند رسول الله
قال ابن إسحاق ولما انهزم المسلمون ورأى من كان مع رسول الله من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن فقال أبو سفيان بن حرب لا تنتهي هزيمتهم دون البحر وإن الأزلام لمعه في كنانته وصرخ جبلة بن الحنبل وقال ابن هشام صوابه كلدة ألا بطل السحر اليوم فقال له صفوان أخوه لأمه وكان بعد مشركا اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن وذكر ابن سعد عن شيبة بن عثمان الحجبي قال لما كان عام الفتح دخل رسول الله مكة عنوة قلت أسير مع قريش إلى هوازن بحنين فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فأثار منه فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها وأقول لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ما تبعته أبدا وكنت مرصدا لما خرجت له لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله عن بغلته فأصلت السيف فدنوت أريد ما أريد منه ورفعت سيفي حتى كدت أشعره إياه فرفع لي شواظ من نار كالبرق كاد يمحشني فوضعت يدي على بصري خوفا عليه فالتفت إلي رسول الله فناداني يا شيب ادن مني فدنوت منه فمسح صدري ثم قال اللهم أعذه من الشيطان قال فوالله لهو كان ساعتئذ أحب إلي من سمعي وبصري ونفسي وأذهب الله ما كان في نفسي ثم قال ادن فقاتل فتقدمت أمامه أضرب بسيفي الله يعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حيا لأوقعت به السيف فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون فكروا كرة رجل واحد وقربت بغلة رسول الله فاستوى عليها وخرج في أثرهم حتى تفرقوا في كل وجه ورجع إلى معسكره فدخل خباءه فدخلت عليه ما دخل عليه أحد غيري حبا لرؤية وجهه وسرورا به فقال يا شيب الذي أراد الله بك خير مما أردت لنفسك ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي ما لم أكن أذكره لأحد قط قال فقلت فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ثم قلت استغفر لي فقال غفر الله لك وقال ابن إسحاق وحدثني الزهري عن كثير بن العباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال إني لمع رسول الله آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها وكنت امرءا جسيما شديد الصوت قال رسول الله يقول حين رأى ما رأى من الناس إلى أين أيها الناس قال فلم أر الناس يلوون على شيء فقال يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار يا معشر أصحاب السمرة فأجابوا لبيك لبيك قال فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وقوسه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله ويؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا فكانت الدعوة أول ما كانت يا للأنصار ثم خلصت آخرا يا للخزرج وكانوا صبرا عند الحرب فأشرف رسول الله في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون فقال الآن حمي الوطيس وزاد غيره
( أنا النبي لا كذب % أنا ابن عبدالمطلب )
وفي صحيح مسلم ثم أخذ رسول الله حصيات فرمى بها في وجوه الكفار ثم قال انهزموا ورب محمد فما هو إلا أن رماهم فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا وفي لفظ له إنه نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل بها وجوههم وقال شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين وذكر ابن إسحاق عن جبير بن مطعم قال لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون يوم حنين مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي فلم يكن إلا هزيمة القوم فلم أشك أنها الملائكة قال ابن إسحاق ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ومعهم مالك ابن عوف وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحو نخلة وبعث رسول الله في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري فأدرك من الناس بعض من انهزم فناوشوه القتال فرمي بسهم فقتل فأخذ الراية أبو موسى الأشعري وهو ابن أخيه فقاتلهم ففتح الله عليه فهزمهم الله وقتل قاتل أبي عامر فقال رسول الله اللهم اغفر لعبيد أبي عامر وأهله واجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك واستغفر لأبي موسى ومضى مالك بن عوف حتى تحصن بحصن ثقيف وأمر رسول الله بالسبي والغنائم أن تجمع فجمع ذلك كله ووجهوه إلى الجعرانة وكان السبي ستة آلاف رأس والإبل أربعة وعشرين ألفا والغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية فضة فضة فاستأنى بهم رسول الله أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة ليلة ثم بدأ بالأموال فقسمها وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل فقال ابني يزيد فقال أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل فقال ابني معاوية قال أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل وأعطى حكيم بن حزام مائة من الابل ثم سأله مائة أخرى فأعطاه وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة مائة من الإبل وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي خمسين وذكر أصحاب المائة وأصحاب الخمسين وأعطى العباس بن مرداس أربعين فقال في ذلك شعرا فكمل له المائة
ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاء الغنائم والناس ثم فضها على الناس فكانت سهامهم لكل رجل أربعا من الإبل وأربعين شاة فإن كان فارسا أخذ اثني عشر بعيرا وعشرين ومائة شاة قال ابن إسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود ابن لبيد عن أبي سعيد الخدري قال لما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العصايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة حتى قال قائلهم لقي والله رسول الله قومه فدخل عليه سعد بن عبادة فقال يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء قال فأين أنت من ذلك يا سعد قال يا رسول الله ما أنا إلا من قومي قال فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة قال فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم فلما اجتمعوا أتى سعد فقال قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول الله فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال يا معشر الأنصار ما قاله بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي وأعداء فألف الله بين قلوبكم قالوا الله ورسوله أمن وأفضل ثم قال ألا تجيبوني يا معشر الأنصار قالوا بماذا نجيبك يا رسول الله لله ولرسوله المن والفضل قال أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم أتيتنا مكذبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك أوجدتم علي يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وواديا وسلكت الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب شعب الأنصار وواديها الأنصار شعار والناس دثار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأنباء أبناء الأنصار قال فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظا ثم انصرف رسول الله وتفرقوا وقدمت الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله من الرضاعة فقالت يا رسول الله إني أختك من الرضاعة قال وما علامه ذلك قالت عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك قال فعرف رسول الله العلامة فبسط لها رداءه وأجلسها عليه وخيرها فقال إن أحببت الإقامة فعندي محببة مكرمة وإن أحببت أن أمتعك فترجعي إلى قومك قالت بل يمتعني وتردني إلى قومي ففعل فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما يقال له مكحول وجارية فزوجت إحداهما من الآخر فلم يزل فيهم من نسلهما بقية وقال أبو عمر فأسلمت فأعطاه رسول الله ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء وسماها حذافة وقال والشيماء لقب
فصل
وقدم وفد هوازن على رسول الله وهم أربعة عشر رجلا ورأسهم زهير بن صرد وفيهم أبو برقان عم رسول الله من الرضاعة فسألوه أن يمن عليهم بالسبي والأموال فقال إن معي من ترون وإن أحب الحديث إلي أصدقه فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم قالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا فقال إذا صليت الغداة فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المؤمنين ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول الله أن يردوا علينا سبينا فلما صلى الغداة قاموا فقالوا ذلك فقال رسول الله أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وسأسأل لكم الناس فقال المهاجرون والأنصار ما كان لنا فهو لرسول الله فقال الأقرع بن حابس أما أنا وبنو تميم فلا وقال عيينة بن حصن أما أنا وبنو فزارة فلا وقال العباس ابن مرداس أما أنا وبنو سليم فلا فقالت بنو سليم ما كان لنا فهو لرسوله الله فقال العباس بن مرداس وهنتموني فقال رسول الله إن هؤلاء القوم قد جاؤوا مسلمين وقد كنت استأنيت سبيهم وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا فقال الناس قد طيبنا لرسول الله فقال إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت في يديه ثم ردها بعد ذلك وكسا رسول الله السبي قبطية قبطية
فصل في الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية والنكت الحكمية
كان الله عز وجل قد وعد رسوله وهو صادق الوعد أنه إذا فتح مكة دخل الناس في دينه أفواجا ودانت له العرب بأسرها فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام وأن يجمعوا ويتألبوا لحرب رسول الله والمسلمين ليظهر أمر الله وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح وليظهر الله سبحانه رسوله وعباده وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها فلا يقاومهم بعد أحد من العرب ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين وتبدو للمتوسمين واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعددهم وقوة شوكتهم ليطامن رؤوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله واضعا رأسه منجنيا على فرسه حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته واستكانة لعزته أن أحل له حرمه وبلده ولم يحل لأحد قبله ولا لأحد بعده وليبين سبحانه لمن قال لن نغلب اليوم عن قلة أن النصر إنما هو من عنده وأنه من ينصره فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له غيره وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه لا كثرتكم التي أعجبتكم فإنها لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليها خلع الجبر مع بريد النصر فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) ( القصص 6 )
ومنها أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائم مكة فلم يغنموا منها ذهبا ولا فضة ولا متاعا ولا سبيا ولا أرضا كما روى أبو داود عن وهب بن منبه قال سألت جابرا هل غنموا يوم الفتح شيئا قال لا وكانوا قد فتحوها بايجاف الخيل والركاب وهم عشرة آلاف وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيش من أسباب القوة فحرك سبحانه قلوب المشركين لغزوهم وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ونعمهم وشائهم وسبيهم معهم نزلا وضيافة وكرامة لحزبه وجنده وتمم تقديره سبحانه بأن أطمعهم في الظفر وألاح لهم مبادىء النصر ليقضي الله أمرا كان مفعولا فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه وبردت الغنائم لأهلها وجرت فيها سهام الله ورسوله قيل لا حاجة لنا في دمائكم ولا في نسائكم وذراريكم فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة فجاؤوا مسلمين فقيل إن من شكر إسلامكم وإتيانكم أن نرد عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم و ( إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ) ( الأنفال 70 ) فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) ( القصص 6 ) ومنها أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائم مكة فلم يغنموا منها ذهبا ولا فضة ولا متاعا ولا سبيا ولا أرضا كما روى أبو داود عن وهب بن منبه قال سألت جابرا هل غنموا يوم الفتح شيئا قال لا وكانوا قد فتحوها بايجاف الخيل والركاب وهم عشرة آلاف وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيش من أسباب القوة فحرك سبحانه قلوب المشركين لغزوهم وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ونعمهم وشائهم وسبيهم معهم نزلا وضيافة وكرامة لحزبه وجنده وتمم تقديره سبحانه بأن أطمعهم في الظفر وألاح لهم مبادىء النصر ليقضي الله أمرا كان مفعولا فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه وبردت الغنائم لأهلها وجرت فيها سهام الله ورسوله قيل لا حاجة لنا في دمائكم ولا في نسائكم وذراريكم فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة فجاؤوا مسلمين فقيل إن من شكر إسلامكم وإتيانكم أن نرد عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم و ( إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ) ( الأنفال 70 )
ومنها أن الله سبحانه افتتح غزو العرب بغزوة بدر وختم غزوهم بغزوة حنين ولهذا يقرن بين هاتين الغزاتين بالذكر فيقال بدر وحنين وإن كان بينهما سبع سنين والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزاتين والنبي رمي في وجوه المشركين بالحصباء فيهما وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله والمسلمين فالأولى خوفتهم وكسرت من حدهم والثانية استفرغت قواهم واستنفدت سهامهم وأذلت جمعهم حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله ومنها أن الله سبحانه جبر بها أهل مكة وفرحهم بما نالوه من النصر والمغنم فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم وإن كان عين جبرهم وعرفهم تمام نعمته عليهم بما صرف عنهم من شر هوازن فإنه لم يكن لهم بهم طاقة وإنما نصروا عليهم بالمسلمين ولو أفردوا عنهم لأكلهم عدوهم إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله تعالى
فصل
وفيها من الفقه أن الإمام ينبغي له أن يبعث العيون ومن يدخل بين عدوه ليأتيه بخبرهم وأن الإمام إذا سمع بقصد عدوه له وفي جيشه قوة ومنعة لا يقعد ينتظرهم بل يسير إليهم كما سار رسول الله إلى هوازن حتى لقيهم بحنين ومنها أن الإمام له أن يستعير سلاح المشركين وعدتهم لقتال عدوه كما استعار رسول الله أدراع صفوان وهو يومئذ مشرك ومنها أن تمام التوكل استعمال الأسباب التي نصبها الله لمسبباتها قدرا وشرعا فإن رسول الله وأصحابه أكمل الخلق توكلا وإنما كانوا يلقون عدوهم وهم متحصنون بأنواع السلاح ودخل رسول الله مكة والبيضة على رأسه وقد أنزل الله عليه ( والله يعصمك من الناس ) ( المائدة 67 ) وكثير ممن لا تحقيق عنده ولا رسوخ في العلم يستشكل هذا ويتكايس في الجواب تارة بأن هذا فعله تعليما للأمة وتارة بأن هذا كان قبل نزول الآية ووقعت في مصر مسألة سأل عنها بعض الأمراء وقد ذكر له حديث ذكره أبو القاسم بن عساكر في تاريخه الكبير أن رسول الله كل بعد أن أهدت له اليهودية الشاة المسمومة لا يأكل طعاما قدم له حتى يأكل منه من قدمه قالوا وفي هذا أسوة للملوك في ذلك فقال قائل كيف يجمع بين هذا وبين قوله تعالى ( والله يعصمك من الناس ) فإذا كان الله سبحانه قد ضمن له العصمة فهو يعلم أنه لا سبيل لبشر إليه وأجاب بعضهم بأن هذا يدل على ضعف الحديث وبعضهم بأن هذا كان قبل نزول الاية فلما نزلت لم يكن ليفعل ذلك بعدها ولو تأمل هؤلاء أن ضمان الله له العصمة لا ينافي تعاطيه لأسبابها لأغناهم عن هذا التكلف فإن هذا الضمان له من ربه تبارك وتعالى لا يناقض احتراسه من الناس ولا ينافيه كما أن إخبار الله سبحانه له بأنه يظهر دينه على الدين كله ويعليه لا يناقض أمره بالقتال وإعداد العدة والقوة ورباط الخيل والأخذ بالجد والحذر والاحتراس من عدوه ومحاربته بأنواع الحرب والتورية فكان إذا أراد الغزوة ورى بغيرها وذلك لأن هذا إجبار من الله سبحانه عن عاقبة حاله ومآله بما يتعاطاه من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى ذلك مقتضية له وهو أعلم بربه وأتبع لأمره من أن يعطل الأسباب التي جعلها الله له بحكمته موجبة لما وعده به من النصر والظفر وإظهار دينه وغلبته لعدوه وهذا كما أنه سبحانه ضمن له حياته حتى يبلغ رسالاته ويظهر دينه وهو يتعاطى أسباب الحياة من المأكل والمشرب والملبس والمسكن وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن ترك الدعاء وزعم أنه لا فائدة فيه لأن المسؤول إن كان قد قدر ناله ولا بد وإن لم يقدر لم ينله فأي فائدة في الاشتغال بالدعاء ثم تكايس في الجواب بأن قال الدعاء عبادة فيقال لهذا الغالط بقي عليك قسم آخر وهو الحق أنه قد قدر له مطلوبه بسبب إن تعاطاه حصل له المطلوب وإن عطل السبب فاته المطلوب والدعاء من أعظم الأسباب في حصول المطلوب وما مثل هذا الغالط إلا مثل من يقول إن كان الله قد قدر لي الشبع فأنا أشبع أكلت أو لم آكل وإن لم يقدر لي الشبع لم أشبع أكلت أو لم آكل فما فائدة الأكل وأمثال هذه الترهات الباطلة المنافية لحكمة الله تعالى وشرعه وبالله التوفيق