فصل في هديه في أذكار الطعام قبله وبعده
كان إذا وضع يده في الطعام قال بسم الله ويأمر الآكل بالتسمية ويقول إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل بسم الله في أوله وآخره حديث صحيح والصحيح وجوب التسمية عند الأكل وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد وأحاديث الأمر بها صحيحة صريحة ولا معارض لها
ولا إجماع يسوغ مخالفتها ويخرجها عن ظاهرها وتاركها شريكه الشيطان في طعامه وشرابه
فصل
وها هنا مسألة تدعو الحاجة إليها وهي أن الآكلين إذا كانوا جماعة فمسى أحدهم هل تزول مشاركة الشيطان لهم في طعامهم بتسميته وحده أم لا تزول إلا بتسمية الجميع فنص الشافعي على إجزاء تسمية الواحد عن الباقين وجعله أصحابه كرد السلام وتشميث العاطس وقد يقال لا ترفع مشاركة الشيطان للآكل إلا بتسميته هو ولا يكفيه تسمية غيره ولهذا جاء في حديث حذيفة إنا حضرنا مع رسول الله طعاما فجاءت جارية كأنما تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله بيدها ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده فقال رسول الله إن الشيطان ليستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده والذي نفسي بيده إن يده لفي يدي مع يديهما ثم ذكر اسم الله وأكل ولو كانت تسمية الواحد تكفي لما وضع الشيطان يده في ذلك الطعام ولكن قد يجاب بأن النبي لم يكن قد وضع يده وسمى بعد ولكن الجارية ابتدأت بالوضع بغير تسمية وكذلك الأعرابي فشاركهما الشيطان فمن أين لكم أن الشيطان شارك من لم يسم بعد تسمية غيره فهذا مما يمكن أن يقال لكن قد روى الترمذي وصححه من حديث عائشة قالت كان رسول الله يأكل طعاما في ستة من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال رسول الله أما إنه لو سمى لكفاكم
ومن المعلوم أن رسول الله وأولئك الستة سموا فلما جاء هذا الأعرابي فأكل ولم يسم شاركه الشيطان في أكله فأكل الطعام بلقمتين ولو سمى لكفى الجميع وأما مسألة رد السلام وتشميت العاطس ففيها نظر وقد صح عن النبي أنه قال إذا عطس أحدكم فحمد الله فحق على كل من سمعه أن يشمته وإن سلم الحكم فيهما فالفرق بينهما وبين مسألة الأكل ظاهر فإن الشيطان إنما يتوصل إلى مشاركة الآكل في أكله إذا لم يسم فإذا سمى غيره لم تجز تسمية من سمى عمن لم يسم من مقارنة الشيطان له فيأكل معه بل تقل مشاركة الشيطان بتسمية بعضهم وتبقى الشركة بين من لم يسم وبينه والله أعلم ويذكر عن جابر عن النبي من نسي أن يسمي على طعامه فليقرأ قل هو الله أحد إذا فرغ وفي ثبوت هذا الحديث نظر
وكان إذا رفع الطعام من بين يديه يقول الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا عز وجل ذكره البخاري وربما كان يقول الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين وكان يقول الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا وذكر البخاري عنه أنه كان يقول الحمد لله الذي كفانا وآوانا وذكر الترمذي عنه أنه قال من أكل طعاما فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا من غير حول مني ولا قوة غفر الله له ما تقدم من ذنبه حديث حسن ويذكر عنه أنه كان إذا قرب إليه الطعام قال بسم الله فإذا فرغ من طعامه قال اللهم أطعمت وسقيت وأغنيت وأقنيت وهديت وأحييت فلك الحمد على ما أعطيت وإسناده صحيح وفي السنن عنه أنه كان يقول إذا فرغ الحمد لله الذي من علينا وهدانا والذي أشبعنا وأروانا ومن كل الإحسان آتانا حديث حسن وفي السنن عنه أيضا إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ومن سقاه الله لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء ويجزىء عن الطعام والشراب غير اللبن حديث حسن ويذكر عنه أنه كان إذا شرب في الإناء تنفس ثلاثة أنفاس ويحمد الله في كل نفس ويشكره في آخرهن
فصل
وكان إذا دخل على أهله ربما يسألهم هل عندكم طعام وما عاب طعاما قط بل كان إذا اشتهاه أكله وإن كرهه تركه وسكت وربما قال أجدني أعافه إني لا أشتهيه وكان يمدح الطعام أحيانا كقوله لما سأل أهله الإدام فقالوا ما عندنا إلا خل فدعا به فجعل يأكل منه ويقول نعم الأدم الخل وليس في هذا تفصيل له على اللبن واللحم والعسل والمرق وإنما هو مدح له في تلك الحال التي حضر فيها ولو حضر لحم أو لبن كان أولى بالمدح منه وقال هذا جبرا وتطييبا لقلب من قدمه لا تفضيلا له على سائر أنواع الإدام وكان إذا قرب إليه طعام وهو صائم قال إني صائم وأمر من قرب إليه الطعام وهو صائم أن يصلي أي يدعو لمن قدمه وإن كان مفطرا أن يأكل منه وكان إذا دعي لطعام وتبعه أحد أعلم به رب المنزل وقال إن هذا تبعنا فإن شئت أن تأذن له وإن شئت رجع وكان يتحدث على طعامه كما تقدم في حديث الخل وكما قال لربيبه عمر بن أبي سلمة وهو يؤاكله سم الله وكل مما يليك وربما كان يكرر على أضيافه عرض الأكل عليهم مرارا كما يفعله أهل الكرم كما في حديث أبي هريرة عند البخاري في قصة شرب اللبن وقوله له مرارا اشرب فما زال يقول اشرب حتى قال والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا وكان إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم فدعا في منزل عبد الله بن بسر فقال اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وأرحمهم ذكره مسلم ودعا في منزل سعد بن عبادة فقال أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وذكر أبو داود عنه أنه لما دعاه أبو الهيثم بن التيهان هو وأصحابه فأكلوا فلما فرغوا قال أثيبوا أخاكم قالوا يا رسول الله وما إثابته قال إن الرجل إذا دخل بيته فأكل طعامه وشرب شرابه فدعوا له فذلك إثابته
وصح عنه أنه دخل منزله ليلة فالتمس طعاما فلم يجده فقال اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني وذكر عنه أن عمرو بن الحمق سقاه لبنا فقال اللهم أمتعه بشبابه فمرت عليه ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء وكان يدعو لمن يضيف المساكين ويثني عليهم فقال مرة ألا رجل يضيف هذا رحمه الله وقال للأنصاري وامرأته اللذين آثرا بقوتهما وقوت صبيانهما ضيفهما لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة وكان لا يأنف من مؤاكلة أحد صغيرا كان أو كبيرا حرا أو عبدا أعرابيا أو مهاجرا حتى لقد روى أصحاب السنن عنه أنه أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة فقال كل بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه وكان يأمر بالأكل باليمين وينهى عن الأكل بالشمال ويقول إن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ومقتضي هذا تحريم الأكل بها وهو الصحيح فإن الآكل بها إما شيطان وإما مشبه به وصح عنه أنه قال لرجل أكل عنده فأكل بشماله كل بيمينك فقال لا أستطيع فقال لا استطعت فما رفع يده إلى فيه بعدها فلو كان ذلك جائزا لما دعا عليه بفعله وان كان كبره حمله على ترك امتثال الأمر فذلك أبلغ في العصيان واستحقاق الدعاء عليه وأمر من شكوا إليه أنهم لا يشبعون أن يجتمعوا على طعامهم ولا يتفرقوا وأن يذكروا اسم الله عليه يبارك لهم فيه وصح عنه أنه قال إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة يحمده عليها ويشرب الشربة يحمده عليها وروي عنه أنه قال أذيبوا طعامكم بذكر الله عز وجل والصلاة ولا تناموا عليه فتقسمو قلوبكم وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحا والواقع في التجربة يشهد به
المقال السابق
المقال التالى