الحمد لله رب العالمين.. قسَّم الحظوظَ والملَكاتِ والأرزاقَ على بني آدَم بِمقاديرَ مُختلفة، وأشكالٍ مُتباينة؛ حتَّى يستقيم أمرُ الحياة الدنيا على الهيئة الَّتي هي عليها. فقال تعالى: ﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً ﴾ [الزخرف: 32]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. أثنى على عباده المؤمنين الصادقين بالحب والإخاء فقال تعالى (ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا)) الحشر. وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. حذر من أمراض القلوب التي تفتك بالأمة وتأكل الحسنات فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا " [رواه البخاري].
فاللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا..
أما بعد.. فيا أيها المؤمنون.
لقد سعى الإسلام إلى طهارة البدن وطهارة القلب، وطهارة القلب أولى من طهارة الأبدان، قال تعالى ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، والقلب هو محل نظر الله تعالى إليه، لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله لا ينظر إلي صوركم ولا إلي أموالكم ولكن ينظر إلي قلوبكم وأعمالكم) (رواه مسلم).
ولقد حذر المولى تبارك وتعالى من أمراض القلوب لما لها من أضرار على الفرد والمجتمع فأمر بالاستعاذة منها فقال تعالى ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 1 - 5].
ولقد انتشرت أمراض القلوب بين الناس من غل وحسد وغش وبغضاء ولن يجتمع شمل هذه الأمة إلا إذا طهرت قلوبها وتماسكت فيما بينها البين، ولن يؤمن أحدنا حتى يحب لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه.
فمن الأمراض الخطيرة التي تفتك بالأمة أفرادا ومجتمعات مرض الحسد الذي كان في سبب كثير من الجرائم مثل القتل والدمار، فالحسد صفة ذميمة لا تتخلق بها إلا النفوس المريضة التي لا تحب إلا العيش منفردة والاستئثار على غيرها بما تهواه. والحسد بوابة الآثام، وبضاعة اللئام، يبدأ بالقريب قبل البعيد، والصديق قبل العدو، فهو أكثر ما يكون بين الأقارب، وبين الجيران، وبين الزملاء. فالقريب الحاسد لا يحب أن يكون قريبه أحسن منه فيما يتباهى به الناس، ولو كان أخاه لأبيه وأمه. والجار الحاسد لا يحب أن يكون جاره أفضل منه في مال أو جاه أو قوة أو جمال أو علم. والزملاء في الدراسة أو الوظائف أو الأعمال لا يرضى الواحد منهم أن يتقدم عليه في معلومات أو ترقيات أو مكافآت أو زيادة خير.
والحسد يدخل بين الأقران والأمثال في أكثر الأحيان فالعامل يحسد العامل والتاجر يحسد التاجر والفلاح يحسد الفلاح ولذلك لا تستغربوا من حصول المشكلات والمكايدات، والبغضاء والتقاطع، والهجران وفساد العلاقات وتعثر المشروعات، والتقاتل والأضرار بين الأصناف السابقة، فما ذلك إلا نتيجة من نتائج مرض الحسد.
لذلك كان حديثنا عن مرض الحسد، وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية:
1- حقيقة الحسد.
2- مراتب الحسد.
3- أسباب الحسد.
4- أضرار الحسد علي الفرد والمجتمع.
5- قصص في خطورة الحسد.
6- علاج الحسد.
العنصر الأول: حقيقة الحسـد:-
الحسد: هو تمنِّي زوال النِّعمة عن الغير، وهو في جوهرِه اعتِراضٌ على عطاء المنعم سبحانه وتعالى.
و يقول ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد اصل الحسد: هو بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها. وأمر الحسد ثابت شرعا قال الله - تعالى ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ﴾ [القلم: 51]، قال ابن عباس وغيره في تفسيرها: أي يعينوك بأبصارهم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا " رواه مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أسترقي من العين " (البخاري ومسلم)، وأخرج مسلم وأحمد والترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا " صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
العنصر الثاني: مراتب الحسد: - ذكر العلماء أن مراتب الحسد أربعة وهي:-
الأولى: تمني زوال النعمة عن المنعم عليه ولو لم تنتقل للحاسد. الثانية: تمني زوال النعمة عن المنعم عليه وحصوله عليها.
الثالثة: تمني حصوله على مثل النعمة التي عند المنعم عليه حتى لا يحصل التفاوت بينهما، فإذا لم يستطع حصوله عليها تمنى زوالها عن المنعم عليه. الرابعة: حسد الغبطة ويسمى حسداً مجازاً وهو تمني حصوله على مثل النعمة التي عند المنعم عليه من غير أن تزول عنه فهذا الحسد محمود كماجاء في الحديث الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم (لا حسد إلا في إ ثنتين رجل أتاه الله القران فهو يقوم به آناء الليل وأناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)) فأنت تتمنى أن تكون مثله، مع بقاء تلك النعمة عنده وهذا الحسد معناه الغبطة، وقد يجوز ان يسمى ذلك منافسة ومنه قوله تبارك وتعالى ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].
والحسد خلق ذميم، وصفة وضيعة، حقيرة لا تكون إلا في النفس العاجزة، المهانة التي تعجز عن فعل الخير، وتتمني زواله من غيره حتي يكون العاجز والعامل سواء كما قال تعالى (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء).
فالحسود عدو النعمة متمن زوالها عن المحسود كما زالت عنه هوفمن كان يحب الله واليوم الآخر فلينتهي عن هذه الصفة إن كانت فيه وليحذر عقاب الله في الدنيا والآخرة ومن لم يكن من أهلها فليحمد ربه حمداً كثيرا علي ذلك فإن الآفة الوضيعة تقتل صاحبها وتهينه وتجعله من السافلين.
وأصل الحسد والعداوة التزاحم على غرض واحد ومنشأ ذلك كله،، حب الدنيا فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين وأما الآخرة فلا ضيق فيها.
وأنه بحسب فضل الإنسان وظهور النعمة عليه يكون حسد الناس له، فإن كثر فضله كثر حساده وإن قل فضله قلوا، لأن ظهور الفضل يثير الحسد، وحدوث النعمة يضاعف الكمد..
العنصر الثالث: أسباب الحسـد:-
إن الحسد مرض ينشأ من ضعف الإيمان بالقضاء والقدر وقلة الفهم لمعاني الأسماء والصفات.
فالحاسد لو كان عنده إيمان قوي بقضاء الله وقدره ما حسد الناس على ما قضاه الله وقدره، ولو كان عنده علم وفهم لاسمي الله: العليم والحكيم ما حسد؛ لأن الله حكيم في قضائه وقدره وعليم بخلقه، فمن علم ذلك انكف عن حسده.
إن الحاسد صاحب نفس خبيثة تكره رؤية النعمة بادية على الآخرين؛ ولهذا يتمنى الحاسد زوال النعمة عن المُنْعَم عليه. ذكر العلماء دواعي الحسد، فذكروا منها:-
1- بُغض المحسود، فإذا كانت له فضيلة تُذكر أو منقبة تُشكر ثارت نفس من أبغضه حسدًا. ولا يفارقه فإذا أصاب عدوه بلاء فرح وإذا أصابته نعماء ساءه ذلك.
جاء في تفسير القرطبي في قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ماآتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما). قال في قوله (أم يحسدون......) قال هم اليهود والناس يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن إبن عباس ومجاهد وغيرهما قالوا (حسدوا محمد صلى الله عليه وسلم على النبوة وحسدوا أصحابه على الإيمان به ولا زالت آثار حسدهم تظهر يوما بعد يوم).
2- الكبر والعجب كأن يظهر من المحسود فضل يعجز عنه الحاسد فيكره تقدمه فيه، فيثير ذلك حسدًا، فالحسد هنا يختص بمن علا مع عجز الحاسد عن إدراكه.
وكان حسد الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم قريبا من ذلك،، قال تعالى( وقالوا لولا نزل هذا القران على رجل من القريتين عظيم) الزخرف.، وقالوا عن المؤمنين: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا)).
3- حب الرئاسة والجاه ومثاله أن الرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في مجال من المجالات أو فن من الفنون إذا سمع بنظير له في مكان ما ساءه ذلك وأحب هلكه أو زوال نعمته التي يشاركه بها وذلك لحب الرئاسة والجاه والإنفراد به. لقد التقى أبو جهلٍ، وأبو سُفيان بن حرب، والأخنسُ بن شريق، وقدِ انصرفوا من حوْلِ بيْتِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم وقد جاءوا لا يَعرف كلُّ واحد منهم من خبر الآخَر شيئًا، يستمعون إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يتلو القُرآن الكريم، وكان ذلك لقاءَهم الثالثَ، وتعاهدوا أن لا يعودوا لِمثلها فيُرَوْا على غيْرِ ما يعهدهم الناس، وفي صباح اليوم الثالث، دلَف الأخنسُ بن شريق إلى بيْتِ أبي جهل، يستطْلِعُ الأثَرَ الذي تركَه سَماعُ القرآن الكريم من فَمِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفس أبي جهل، ويسألُ الأخنس: فيم سَمع من محمد؟ ويردُّ أبو جهل: ما سمعت! (أي مثل ما سَمعتَ يا أخنس): "تنازعنا نَحن وبنو عبدمناف الشَّرفَ: أطعموا فأطعمْنا، وحَملوا فحملْنا، وأعطَوْا فأعطَيْنا، حتَّى كنَّا كفرَسَيْ رهان قالوا: منَّا نبيٌّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى نُدْرِك مثلَ هذه؟ واللهِ، لا نُؤمِنُ به أبدًا، ولا نُصدِّقُه". وانكشف للأخنس ما انطَوَتْ عليْهِ نفسُ أبي جهل، لقد كان الحسد، فهو وراءَ كلِّ تلك الخصومة، واللَّدَد، والمقاومة الشديدة للإسلام ونبيِّه.
لقد صار أبو جهلٍ مدرسةً في الكفر؛ بسبَبِ هذه الآفةِ القاتلة، الحسدِ، وَعَلَمًا عليها.
4- السخط على قضاء الله تعالى، فيحسد الآخرين على ما منحهم الله تعالى إياه، وإن كانت نعم الله عنده أكثر، ومِنَحه عليه أظهر.
5- خبث النفس وبخلها وهذا يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده، فإذا وُصف له حسن حال عبد من عباد الله شق ذلك عليه، وإذا وصف له أمرسوء وتنغيص عيش الناس فرح بذلك والعياذ بالله.
قال بعض العلماء: البخيل من يبخل بمال نفسه والشحيح الذي يبخل بمال غيره. سبحان الله كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه.
العنصر الرابع: أضرارالحسد علي الفرد والمجتمع:-
أضرار تعود على الحاسد:-
الحاسد قد يشعر وقد لا يشعر أنه أول المتضررين بلفح نار حسده، فالحسد نار متأججة تحرق أول ما تحرق مذكيها ومشعلها. وقد قالوا: لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله.
وقال معاوية رضي الله عنه: "ليس من خصال الشر أعدل من الحسد، يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود".
فيصل الى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل الى المحسود شئ:-
أولها: غم لا ينقطع.
ثانيها: مصيبة لا يؤجر عليه.
ثالثها: مذمـة لايحمد بها.
رابعها: سخط الرب
خامسها: عدم التوفيق يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
والحاسد عدو نعمة الله، قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه:
أولا: أنه ابغض كل نعمة ظهرت على غيره
ثانيا: أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول ربي لما قسمت هذه القسمة.
ثالثا: أنه ضَادَّ الله بفعله أي أن فضل الله يؤتيه من يشاء وهو يبخل بفضل الله تبارك وتعالى
رابعا: أنه خذل أولياء الله أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم وهذا من الخذلان.
خامسا: أنه أعان عدوه إبليس.
وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامةً ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضاءً ولا ينال في الخلوة إلا جزعاً وغما ولا ينال في الاخرة إلا حزنا واحتراقاً ولا ينال من الله إلا بعدا ومقتًا،، روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ثلاثة لا يستجيب الله دعائهم، آكل الحرام، ومخبر الغيبة ومن كان في قلبه غلٌ أو حسدٌ للمسلمين).
والحسد ينافي الإيمان:- لأن الإيمان يأمر صاحبه بالتسليم لأفعال الله. فلو حسد العالم أو العابد أو الصالح فإن ذلك يدل على ضعف إيمانه؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (لا يجتمع في جوف عبد مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم ولا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد).
و يقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (الحسدُ يأكلُ الحسناتِ، كما تأكل النَّارُ الحطب)[رواه البخاري].
وقال عبدالله ابن مسعود: (لا تعادوا نعم الله. قيل له ومن يعادي نعم الله، قال: الذين يحسدون الناس على ماآتاهم الله من فضله يقول الله تعالى في بعض الكتب: (الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راضٍ بقسمتي.....).
وهذا النوع من الحسد أعمها وأخبثها؛ إذ ليس لصاحبه راحة، ولا لرضاه غاية.
كما أن الحاسد لا ينقطع همه.
قال بعض الأدباء: " ما رأيت ظالمـًا أشبه بمظلوم من الحسود، نَفَسٌ دائم، وهَمٌّ لازم، وقلبٌ هائم ". والحاسد مسيء للأدب مع الله سبحانه وتعالى.
قال الشاعر: