عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

تحت قسم أعمال القلوب
الكاتب د. صفية الودغيري
تاريخ الاضافة 2016-06-20 08:55:07
المشاهدات 602
أرسل الى صديق اطبع حمل المقال بصيغة وورد ساهم فى دعم الموقع Bookmark and Share

   

إن مدرسة الصيام هي مدرسة البناء والتأسيس، للنهوض بجيلٍ من الرجال والنساء؛ ليتحمَّلوا مسؤولية الرِّعاية للبيت والأسرة والأبناء، وينهضوا برسالة الدعوة والإصلاح للفرد والمجتمع.

 

فالصيام يخرِّج القادة في مختلف مجالات الحياة؛ ليكونوا أَهْلًا للاحتِذاء والاقتداء، لا عالَةً على أنفسهم وعلى أبنائهم ومجتمعاتهم، وهذا البناء إذا أُسِّسَ على مُنْحَدرِ السُّقوط، كان مصيره الانهيار، والانْحِلال، والانْحِراف، والتَّشرد والضَّياع، وصدق الحق سبحانه حين قال: ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 109].


ومدرسة الصِّيام هي مدرسة التربية والتعليم، وتقوم على أساس الاحتواء والتشجيع، وبَعْث مَكامِن القوَّة والنشاط، وحَثِّ الأبناء على المُضِي في طريق النجاح بجدٍّ واجتهاد، والتَّصَدي للفشل بتَمْتين رباط العزيمة، وتَوْثيقِ ساعدِ الهِمَّة.

 

ومدرسة الصيام هي مدرسة تهذيب الأخلاق والذوق؛ لأن الذوق إذا لم يُؤَسَّس على مبادئ الدِّين الصَّحيح، والقِيَم والأخلاق النبيلة، كان خِلْوًا من الفضيلة، وخطرًا عامًّا يهدِّد الفرد والمجتمع، فالذَّوق أَسْمى من أن يكون مجرَّد ملاذ للحضارة المترفة، أو خصْلَة من خِصال الشَّخصية المثقفة والمهذَّبة، بل من كمال الذَّوق الإنساني الرفيع الارتقاءُ بالنوع البشري بمبادئ الدِّين الصحيح، والأخلاقِ الفاضلة، وتربية النفس على الحياة الطيبة الكريمة، وحَضِّ الإنسان على حُسْنِ العناية بالشكل والمظهر كما الجَوْهَر والمَخْبَر، والإنصاف بين أداء حقوق الله وحقوق النفس وحقوق العباد، وبين أداء واجب الرِّعاية للبيت والأسرة، والإخلاص للوظيفة وإتقان العمل المنوطِ به.

 

فمن امتلك عقلًا رشيدًا، وقلبًا مؤمنًا، وضميرًا صاحِيًا، يميِّز به الحلال من الحرام، والحقَّ من الباطل، والجيِّد من الرَّديء، والحَسَن من القبيح، وما يليق ممَّا لا يليق - فقد امتلكَ ذوقًا رفيعًا، فلا تكاد تَرمقُه الأبصار حتى تنحني لشموخ هيبته ووقاره، ولا تتحَوَّل عنه الأنظار إلى ما سواه؛ لعظمة أخلاقه وحسن خِلالِه، فمحبَّته ثابتة في القلوب، وعِشْرتُه تطلبُها النفوس.

 

ولهذه الغايات والمقاصد يهذِّب الصيام ذوقَ الإنسان، ويحثُّه على تحقيق التَّوازن والانْسِجام الذي يحافظ على صَفاء فطرته، ونقاءِ سجيَّتِه؛ حتى لا يَفْسُد ذوقه، ولا ينحرف عن صفاته الإنسانية، ولا تتساوى أمامه الفصول والأشهر والمواسم، فيأتي رمضان ويرحل، ولا شيء يتغيَّر في تفكيره وأسلوب حياته، وحتى لا ينسلخ عن جذوره، ويجتث أصوله وفروعه.

 

فما أَحْوجَنا في شهر الصيام إلى أولئك الذين يَرتَقون بذوقهم الرَّفيع في الفهم والممارسة للتديُّن الصحيح، ويهتدون ببصائرِهم المشرقة إلى اكتشاف الحقائق الجلِيَّة، وإدراك أسرار ما أُحِلَّ لهم وحُرِّمَ عليهم، وغايات وجودهم واسْتِخْلافهم على الأرض!

 

وما أَحْوجَنا في شهر الصيام إلى ثورةٍ تخلِّص العقلَ من خُمولِه، وتحرِّرُه من اسْتِعباد قيودِ التَّفكيرِ النَّمطي الجامِد على أفكار مكرَّرة ومسْتنسَخة، تبني قواعِد مجدها على أنقاضِ الماضي البائد؛ لأن تقَدُّم مجتمعاتِنا رهينٌ بانْبِعاثِ أفكارِها، وارْتِقائها مدارِج العلوم والمعارف الحديثة، ورهينٌ بارْتِباطِها في كلِّ الشهور والفصول والأيام، بحركةٍ نَشِطَة ومتطوِّرة تخدم مجالات الفكر والثقافة، وتنهض بدعوة ذات رسالة عظيمة، تحافظ على أصول الإيمان، وعلى عقيدة التوحيد، وعلى مناهج متماسكة في أصولها وفروعها.

 

ولأن تقَدُّم مجتمعاتِنا رهينٌ بانْبِعاثِ العلوم النَّافِعة، والأفكار الرَّائدة، التي تمهِّد للأجيال الصاعدة طريقًا مُزْهِرًا، يحتوي آمالهم العريضة، وأحلامهم العظيمة، وطموحاتهم الكبيرة، وتفتح أمام المبدعين والمجدِّدين آفاقًا أوسع للابتكار والإبداع في مجال البحث العلمي الرصين؛ حتى يساهموا في تنمية وازدهار حركة الإشعاع العلمي، وتنمية مجتمعاتهم.

 

وما أحوجَنا في شهر الصيام إلى ثورة تبعث معاني التغيير في النفس الضعيفة والمُنْهزِمة، وتوقِد صحوة الضَّمائِر، وتفكُّ أقفال القلوب الصَّدِئَة، فتستنير البصائر بسراج الحق، وتهُب الجوارح من مَرْقدِها الخامِل، وترْفَع قواعِدَ مجد حضارتها وتاريخها، وتتقدَّم بوجودها الإنساني.

 

يعلِّمنا الصيام الشبع والشعور بالاكتفاء:

فالصِّيام يعلِّمُنا صيانة صِحَّة الجسد؛ باتِّباع نظام الاكْتِفاء الغذائي، وصيانة صِحَّة الروح؛ بتَخْلِيَتها من المفاسِد، وتَنْقِيَتِها من الشَّوائب، لتَحْلِيَتِها بالمَكارِم والفضائل.

 

والصيام يدرِّبنا على القناعة، والرِّضا بالزاد القليل، والزهد في فضول الكلام والطعام والشراب، والإيثار في أجلى مظاهره، وأعمَق معانيه، فنؤثِر ما عند الله من عطاءٍ لا ينفد، على ما عند العباد من عطاءٍ يَنفد، ونتحرَّر من قيود العبودية لغير الله، ومن قيود ممارساتنا اليوميَّة المنحرفة، وعاداتنا السيئة في الحديث والكلام، ونتحرَّر من خلافاتنا وشجاراتنا، وانفِعالاتنا الغاضبة والثائرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصِّيام جُنَّةٌ، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤٌ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائمٌ - مرتين - والذي نَفسي بيده، لخُلُوف فَم الصائم أطيبُ عند الله تعالى من رِيح المسك، يَترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصِّيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها)).

 

فالصِّيام يؤهِّلُنا لنَنْعَم بحياة طيبة كريمة، يحتوينا فيها الشُّعور بالسَّكينة، وراحة البال، وطمأنينة القلب، والسَّلامة من العِلَل والأمراض؛ كالقلق، والوسواس، والكآبة، والحزن، والسخط، والغضب، والضَّجَر، وصدق الحقُّ سبحانه في مُحكم التنزيل حين قال: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97].

 

يعلِّمنا الصيام الخلوة مع الله:

طلبًا لتَصْفِيَة الرُّوح من خبائثها وأَدْرانها، وتَحْلِيَتها بالفَضائل والمَحاسِن والمَكارِم، فالصِّيام وِثاقٌ يشُدُّ الخَلق بالخالِق.

فلا راحة للعبد إلَّا بالرُّكون إلى خالقه، والوقوف بين يديه، والتذَلُّل على أعتابه، والشكوى إليه، ومناجاته في الخلوات؛ للتعبير عمَّا يخالِج الشعور والإحساس، من حبٍّ وتعظيمٍ، وخشيةٍ وإجلالٍ لله.

 

ولا راحة للعبد إلا بالمُداومَة على رفْعِ الأَكُفِّ بالدُّعاء والاسْتِغفار، والإِكثار من الذِّكر في أيام القيام والصِّيام، حينها ستَفيضُ العيون الكالِحَة بالدَّمع الرَّقراق، وسَتروى القلوب الظَّامِئة بسقاءِ الإيمان، بعد فصولٍ من القَحْط والجَفاف، وانْصِهار القَطْر في المحاجر، وانْحِسار الغيث عن النَّبضات، وستَحظى بالمنزلة الرَّفيعة، التي حَظِي بها أولئك السبعة الذين سيُظِلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه، فقد ذَكر صلى الله عليه وسلم أنَّ منهم: ((رجل ذكر الله خاليًا ففاضَت عيناه))، وسيزيدها الذِّكر ولزومُ الإصغاء إلى القرآن قُرْبًا وخضوعًا، وإنابةً وخشوعًا؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107 - 109].

 

ولا راحة للعبد إلا إذا تذوَّق لذَّة الطاعة، حينها سيشعر بالأمان والسَّلام، وستسْتَعيد فطرتُه صفاءَها ونقاءَها، الذي كدَّرَته حياةُ الفِتن، وحياة التَّرَف والشبع الزَّائد عن حدِّ الاكْتِفاء، وستتخلَّص جوارحه وأعضاؤه من رَكْدَةِ الجمود والضعف، وتتحَلَّل من رواسب الذُّنوب والآثام، فتستقيم في مسيرها على طريق الصلاح، وتهتدي إلى المنهَج القويم في السُّلوك والمعاملات.

 

يعلِّمنا الصِّيام معنى المجاهدة:

فنحن نُجاهِد النفس بالصَّبرِ على الجوع والعطَش، وكَبْحِ جِماح الرَّغَبات السَّاقطة، ورَدْع مطامِع النَّفس والدَّنِيَّات، ونزَعاتِ الشَّهَوات، وإِلْجام الجوارح بلِجام الطاعات.

 

فالصيام يؤهِّلُنا لنُجاهِد في بحر الحياة الواسِع، ونتصَدَّى لضجيج الفتن، وهدير العواصف التي تجْتاحُ النَّفس، فترسم في عيونها قوارِب الملذات.

 

والصِّيام يؤهِّلنا لنَعْتاد على المجاهدة، فنمتلك خارطة الطريق، التي تنظِّم اتِّجاهاتنا، وتخطِّط لمَسيرِ خطانا، فتتَّجه أقدامنا على خطٍّ مستقيم، وفي اتِّزانٍ واعتِدال، ونَرْتاد طيَّات النَّعيم الوارِف على هدًى وبصيرة، نُنازِع ما حولنا من ظُلمات في شُموخٍ واعْتِداد، ونُرَتِّق ما خلَّفَته تجاعيد الأيام من تشَقُّقات وتعَرُّجات، ونأخذ الحذر والحيطة من الحُفَر الضَّيِّقة والمتاهات؛ حتى نُحافِظ على ذاكرةٍ ساطعة بالإيمان، تبعث فينا لذَّة الاكتفاء بالرَّغيف والخبز، ولذَّة الارتواء بسِقاء الماء العذْب، وحلاوَةَ الشَّهد والسُّكر، وسعادَة العيشِ الهنيء الرَّغد، فنتعلَّم كيف نقتلع أوراقَ الخريف، ونحافظ على جذور فصولنا حتى لا تجفَّ أو تَيْبَس، حينها سنشعر بلذَّة العبادة الخالصة، فنتَّجِه بجوارحِنا وحَواسِّنا نحو قِبلةٍ تُوَحِّدُنا، وتَؤُمُّ أرواحَنا وأجسادَنا في خشوع وخضوع، وتذَلُّل وافتقار، وسنشعر بنسائِم الفرح تصافِحُ الوجوه، وتهبُّ علينا بعد غيابِها الطويل، وستَرْتاد البسمات العيون، وتُبْحِر في لمَعاتِها الأحزان، وتذوب في مجاريها وتَغْرق، وتَسْتَحِمُّ الأرواح من طَحالب الخطايا والأيام، وصدق الحق سبحانه حين قال: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

 

ويقول ابن القيم في كتابه "الفوائد" ص 59: "إنَّ أكمل الناس هدايةً أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النَّفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا؛ فمَن جاهد هذه الأربعة في الله، هَداه الله سُبلَ رضاه الموصلة إلى جنَّته، ومن ترك الجهاد، فاته من الهدى بحسب ما عطَّل من الجهاد...، ولا يتمكَّن من جهاد عدوه في الظاهر إلا مَن جاهد هذه الأعداء باطنًا، فمن نُصِر عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نُصِرَتْ عليه نُصِرَ عليه عدوُّه)).

 

يُعَلِّمُنا الصِّيامُ الأَخذ بأسباب الحِكمة والانْتِفاع بثِمارها:

فلا نَنْطِق بالكلام السَّفيه البذيء، فالكلمات المُنْتَقاة بعناية تُزْهِر، وتغورُ جذورُها، وتَمْتَدُّ فروعُها إلى أبعد من مساحات وجودها، فتتنَفَّس القلوب عبيرَها، وتتذَوَّق رحيقَها في كلِّ الفصول.

 

ويعلِّمُنا الصِّيام ألَّا نختار إلا كلَّ معروفٍ وجميل، ولا نُقَرِّر إلا بعد إشْباعِ العقل بالتَّفكير، وتَسْديدِ الفعل والقول بالرَّأي السَّليم، وبَذْلِ الوُسْع في تحرِّي أسباب الحكمة وإدْراكِ مقاصدِها، وجَنْيِ ثمارِها والانْتِفاع بفضائلِها، والتنافُس على بلوغ مراتب أولي الألباب، ممَّن ينتفعون بالتذكير والإرشاد الذي اصطفى به الحقُّ نبيَّه صلى الله عليه وسلم، حين خَصَّه بأفضالِ الحِكَم، وكريمِ العطايا، وجوامِع الكلِم، قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].

 

وفي هذا التخصيص حَضُّ العِباد على الجدِّ والاجتهاد، وشَحْذ الهمَّة على بلوغ مدارك الاقْتِداء، وسلوك مناهجِ الاتِّباع، والاقتداء بطريقة وسنَّة مَن أرشده الله تعالى للتحلِّي بسلطان العلم، فانْتهَجَه طريقًا وسبيلًا، وامتَنَّ عليه بتنزيلِ الكتاب والحكمة دليلًا يهدى به لصِدْق نبوته، واكْتِمالِ خصائص معرفته.

 

فمن تحقَّقَت فيه أمارتُ الحكمة، فقد أوتِيَ فضلًا عظيمًا، ومَن حازَ نَفاذَ البَصِيرة، فقد حازَ خيرًا كثيرًا، قال تعالى في مُحكَم كتابه: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]، ومن هذَّبَ نفسَه في شهر الصيام والقيام بآداب الحِكَم، واسْتَبْصر بمشارقِ أنوارها، فقد أدرك المعرفةَ الصَّحيحة بالله، وأَوْرثَته الخشية من الله في سرِّه وعلانيتِه، فالْتمس الصِّدق والإخلاص في أقواله وأفعاله، وانْقاد لعبوديَّته لله حبًّا وطَوْعًا، وخضَع لحُكْمِه ومُرادِه في كلِّ الشهور والفصول والأيام، وأَسْلم إليه وجْهه ابْتِغاء لمَرْضاته، فحازَ أصناف الكرَم ومراتِب السعادة، قال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112].

 

يُعلِّمنا الصِّيام طلب الستر والعِفَّة:

فنَصون أعراضَنا وشرفَنا، وكرامتَنا وهُوِيَّتنا، فالسِّتْر يعِفُّنا ويحْجب عنَّا المساوئ، ويغطِّي عيوبنا فلا تُهْتك بين الخلائق، ويحافظ على جَوْهَرنا في أَصْدافه.

 

والصِّيام يعلِّمُنا أنَّ الجمال والبهاء يسطع من قوقَعَته المَصونة، والعيون تغُضُّ الطَّرفَ عن الصُّوَرِ المُشاعَة؛ لأنَّها تُدْمِنُ النظَر إليها في كلِّ الفصول، والقلوب تَهْفو إلى ما يخْتَبئ خلفَ السِّتْرِ الكثيفِ، وهو ليس غموضًا بل هو إظهارٌ للجمال الحقيقي حين نُزَيِّنُه بلباس التقوى، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 26، 27].

 

فنَتحرَّى أن نسْتُر عيوبَنا فلا تُشاع، ونحصِّن النفس من خوارم المروءة، ونرْدَعها عن اتِّباع طريق الغَواية؛ صَوْنًا للدِّيانة من الانْحِراف والفساد، وطَلبًا لصَلاح الأمر والحال.

 

ونَسْتُر ما لنا من الفضائل والمحاسن والمحامِد، في الظاَّهِر والباطِن؛ مخافة الانْسِياق خلف مظاهر الغرور والخُيَلاء، والتباهي بما تفضَّل الله به علينا من النِّعَم والهِبات، أو الانْجِذاب إلى بريق الشهرة والسمعة.

 

يعلِّمُنا الصِّيام أنَّ للحُلم وجودًا ومساحة حرَّة:

فالصيام يحتوي أحلامنا العظيمة، ويعلِّمُنا أنَّ الغايات النبيلة والمقاصِد الحسنة تجعل للأحلام وجودًا فسيحًا، فتتحَقَّق في ذاكرةٍ تَنْفَكُّ عن القيود، وتقفز خلف الجسور، فتتنَفَّس نَسماتِ الحُرية في عبوديَّتها الخالصة لله، وتَحْيا ضِعْف الحياة، وضِعْف الفصول والأيام.

 

ويعلِّمُنا الصِّيام أنَّ للأحلام حياةً رحْبَة، تسَعُ الخلائِقَ جميعًا، على اخْتِلاف أجناسهم وقبائلهم، وتنوُّعِ لغاتهم وألوانهم، تتنفَّس فيها الأرواح عبيرَ الحقيقة يَسْري إليها مِسْكُ أنفاسِها، فتتَوحَّد قلوبها على كلمةٍ سواء، هي كلمة التَّوحيد، وكلمة العبودِيَّة، وكلمة الخضوع، والتَّكبير، والتَّعظيم، وإِجْلال أسرار معانيها.

 

فيرفُّ لمَكْنونها النَّبضُ والوِجدان، إيمانًا واحْتِسابًا، ويقينًا يلهَج به المَنْطِق واللسان، والنبضات والأنفاس، وحركات الجوارح والخَلجات، وعِلمًا صالحًا ومعرفةً نافِعَة، يشهَد لها القول والفعل والجنان، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ * شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 16 - 18].

 

يُعلِّمُنا الصِّيام معنى الانْتِصار الحقيقي:

حين نواجِه قوى تتَصارع لإثبات وجودها، فنتعلم أنَّ الانْتِصار الحقيقي هو انتصار قوى الخير على قوى الشَّر، وانْتِصار الذَّات بملازمة الممْحاة، فنَدْفَع السيئة بالحسنة، ونتلَقَّى الأذى بصنائع المعروف، وجَلاء صَدأ القلوب بالمحبَّة والتَّراحُم وصِدْقِ الإخاء، حين نتقاسم الطَّعام والشَّراب لحظات الإفطار، وحين نقوم للصلاة في صَفٍّ يُوَحِّدُ القلوب، فتغيبُ الفوارق والخلافات.

 

ونتعلَّم أنَّ الانْتِصار الحقيقي هو انتْصِارُ الذَّات على الألم، فنتخَلَّى عن الأحمال والأثقال التي تقُضُّ مضاجِعَنا، ونوقِف نزيفَ مواجعنا، ونُخَفِّف طَرقاتِ آلامنا التي تَنْخَرُ أرواحنا، وتسوسُ أجسادنا كالدَّاء العضال.

 

والصِّيام يذكِّرُنا أن ضماد الجروح يكْمُن في الرِّضا بالأقدار خيرها وشرها؛ لأنَّ الرِّضا يبعث في النَّفس الطمأنينة والسكينة، ويجعل المؤمن يَرى أحواله كلَّها على خير، كما ذكر نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم: ((إذا أصابَته سرَّاء شكر، وإذا أصابته ضرَّاء صبر)).

 

ونتعلَّم أنَّ الانْتِصار الحقيقي هو انْتِصار الفهم والإدراك والتطبيق في ممارسة معنى التدَيُّن كسلوكٍ عام، يبعث طاقة الإيمان في الهمم، فتَنْشَط له الجوارح وتَعْمَل، وتستقيم على الحَقِّ والطَّريقة المُثْلى.

 

فمن غلب جوعه، وعطشه، وشهوته، في أيَّام معدودات، لقادِرٌ على أن يجاهد الشدائد والمحن، فلا تَغْلِبه في كلِّ فصول العام، وقادِرٌ على أن يجاهد آلامَه فلا تُفْسِد عليه حياته، وقادِرٌ على أن يَبْذُل من العطايا، وأعمال الخير، والطاعات، فيجْني ثمارها فَرْحةً وسعادة، يجد آثارها الطيبة في حياته ونفسه، وبيته وأسرته، وكسبه وسعيه.






                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق