موقف إيماني ناصع مشرف يتضمن استعلاء المؤمن بكلمة الله ونصر الله لعباده الصالحين المتوكلين المحتسبين كما يبين ضعف وصغار كيد الكافرين وشياطينهم أمام التوحيد وأهله إذا صدقوا.
من أروع التصوير والتفسير لكلمات الله في هذا المقام كانت تلك الكلمات النورانية التي صاغها الأستاذ سيد قطب رحمه الله في الظلال:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173، 174).
ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة: صورة التوكل على الله وحده، وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم -كما أبلغهم رسل أبي سفيان- وكما هوّل المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت إعلانًا قويًا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة. وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة.
وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة: قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدًا قال: شهدنا أحدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي، فرجعنا جريحين. فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي -أو قال لي- أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل. فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جراحًا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة... حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
وقال محمد بن إسحاق: كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام. فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع. وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن. ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي. فتخلف على أخوتك. فتخلفت عليهن، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه.
وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة، في تلك النفوس الكبيرة.
النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلا، وترضى به وحده وتكتفي، وتزداد إيمانا به في ساعة الشدة، وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس: (حسبنا الله ونعم الوكيل). ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه، المكتفين به ، المتجردين له:
{فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ} فأصابوا النجاة لم يمسسهم سوء ونالوا رضوان الله، وعادوا بالنجاة والرضى.
(بنعمة من الله وفضل): فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء: نعمة الله وفضله على من يشا. ومع التنويه بموقفهم الرائع، فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله، لأن هذا هو الأصل الكبير، الذي يرجع إليه كل فضل، وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل!
(والله ذو فضل عظيم): بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد، وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله، صورتهم هذه، وموقفهم هذا، وهي صورة رفيعة، وهو موقف كريم. وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف، فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة. نضجت، وتناسقت، واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها، وانجلى الغبش عن تصورها، وأخذت الأمر جدا كله، وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف.
فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس، والفارق هائل والمسافة بعيدة. لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس؛ وقد هزتها الحادثة هزًا عنيفًا أطار الغبش، وأيقظ القلوب، وثبت الأقدام، وملأ النفوس بالعزم والتصميم. نعم؛ وكان فضل الله عظيمًا في الابتلاء المرير. (انتهى من الظلال)
المقال السابق
المقال التالى