هناك خطأٌ في الفهم عند الكثير من الأزواج العاملين في حقل الدعوة، وعند قادتهم ومسؤوليهم للأسف الشديد، والمشكلة تكمن حين يضعون مسألة العمل للدعوة على أنها الإسلام وفقط، وما غيره فهو هامشٌ من عرض الدنيا الذي علينا أن نتركه ونطرحه جانبا!!، هذا الفهم المُعوج أوجد خللًا كبيرًا في بيوت كثيرٍ من الدعاة، وأثر على الزوجات والأولاد، فلكم رأينا من بيوتٍ أربابها من كبار الدعاة، والأولاد إما فاشلون أو منحرفون أو الإثنان معا للأسف، أما الزوجات فإما لم تتحمل وملت ـ وهذا حقها ـ فطلبت الطلاق، وإما صبرت واحتسبت وغدت مخنوقةً لا ترى لحياتها الأسرية أي معنى ولا هدف.
إن الأُسْرة هي الخلية الأولى، واللَّبِنَة الأساسية في بناء المجتمع الإسلامي الحق، فإنْ صلُحَتْ صَلُح جسد الأمة، وإن فَسَدتْ تمزّقت الأمة، وصارت كل شعاراتها جوفاء صمَّاء عمياء، لا تسمع صيحات الألم الصادرة من أفرادها، ولا ترى القروح والجروح التي تمزّق أرواح أبنائها، لذا، فإننا عندما نبدأ الدعوة يجب أن نبدأ من الداخل للخارج، وليس العكس، فتماسك الأُسْرة وثباتها وقوتها سيعطي دَفعَتين قويتين لرب الأسرة «الداعية»:
أولاهما: أنه عندما يبدأ عمله الدعوي، ويتكلم وينصح، سيكون هذا الكلام على أساسٍ يعرفه هو، هذا الأساس سيضاعف ثقته بنفسه، ويؤثر بدوره في قلوب مستمعيه، وكما يقولون: "ما يخرج من القلب يدخل القلب، وما يخرج من اللسان لا يتعدى الآذان"، إن الكلمة الصادقة هي أقصر طريقٍ بين قلب الداعية وقلوب الناس، أمَّا أن يجلس ليتكلم في إصلاح الأسرة والمجتمع وبيته ينهار، فهذا أقرب إلى الرياء منه إلى الصدق، لذا يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3].
أما الدَّفعة الثانية، فهي أنها تمثل صورةً دعوية لا تحتاج إلى كلماتٍ، فالدعوة ليست فقط خُطبًا وندوات واجتماعات وشعارات، إنما دعوة النموذج والمثَال والقُدوة تكون أصدق كثيرًا وأسرع تأثيرًا، ولئن أضع للناس مثلاً يُحتذَى به، أفضل من أن أظل أقرع أسماعهم بما يجب وما لا يجب.
إن مما ابتلي به بعض المتصدرين للدعوة التساهل في أمر بيوتهم، وقد غفلوا عن أمر بالغ الأهمية وهو أنهم أطباء للمجتمع يصفون له الدواء وهم مرضى، وكان الأجدر أن يقدموا نماذج حيةً للتربية التي يدعون الناس إليها من خلال أسرتهم، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنه، حيث أنه كان راعيًا بحق لأسرته وزوجاته، ولا نظن أن أحدًا من الدعاة مشغول بالدعوة كما شغل بها النبي العظيم صلى الله عليه وسلم، ولعلني لا أكون مخطئًا إذا قلت: إن الدعوة واجب كفائي، في حين أن رعاية البيت وتنشئة الأسرة المسلمة واجبٌ عيني، والعيني مقدم على الكفائي. ولعل الله تعالى يطرح البركة في الوقت إذا ما أخلص الداعي العمل لوجهه تعالى وأيقن أن الأقربين أولى بالمعروف.
والدعوة لا قيمة لها إن لم ترافقها القدوة, وهذا ما بينته سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسير جميع العظماء من الخلفاء الراشدين والعلماء الأجلاء. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خير الناس هو خيرهم لأهله. فكيف يسمع داعية هذا الحديث ثم يسئ لأهله.
فترك الداعية أهله بالأيام دون أن يرى أبناءه صورة من الإساءة البالغة للزوجة التي رمى الزوج عليها وحدها همهم، وكذلك إساءة للأبناء أنفسهم الذين يعيشون وكأنهم يتامى، كل ذلك في سبيل ماذا؟
كلامٌ بلا قدوة!!
ما أيسر الكلام، وما أيسر الندوات، وما أصعب وأعظم أن يكون الإنسان كرسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم القدوة العظيمة البارزة الواضحة ثم يتلوها بكلام موجزٍ مختصرٍ في أسلوب رقيقٍ رقراق.
وليست هذه المشكلة قاصرة على البيت فقط، بل إنها تشمل كافة أوجه الحياة. فللأسف كثيرًا ما نجد متدينين لا يفعلون شيئًا في حياتهم سوى الكلام. وتجد المتدين هو الأخير في الجامعة، وهو الذي يزوغ من العمل، وهو الذي يدفع الرشوة لقضاء مصالحه، وتجده ضعيفًا لا يلعب الرياضة، ويمشي متماوتًا بطيئًا ويزعم أن هذا زهد، وليس له أي طموحات في القوة مع أن الله قد أمرنا أمرًا بكل أوجه القوة المادية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي مشيةً قويةً شديدة، ويدبر كل أمور الحياة أفضل من ملوك الدنيا الحريصين عليها، لأن هذا في حد ذاته جزءٌ من الإسلام، ومن يقصر فيه فهو عاص لله تعالى.
وهذا الشخص الذي لم يكن قدوة في كافة أوجه حياته، ولم يحرص على أن يكون كذلك، يحكم على الدعوة بالفشل الذريع، بل بالعكس إنه يقوم دون أن يدري بدعوة ضد هذا الدين. لأن الإسلام دين عمليٌ عمليٌ عملي. وهذا الشخص يثبت عند الناس المقولة الشيطانية بأن هذا الدين نظريٌ لا يصلح للتطبيق.
إنَّ الدعوةَ الأُسَرية من أعظم مسالك الدعوة على الإطلاق، ويخطئ الكثيرون ممن يتحدثون عن الدعوة الأُسَرية ويفسرونها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقط، بالقطع هما حَجَرَا أساسٍ، لكن الكيفية والطريقة تسبقهما في الأهمية، فقبل أن ندعو يجب أن نُمَهِّد الطريق لدعوتنا، ولكي تسمع الزوجة ويعي الأبناء يجب أن تكونَ قد اقتربتَ منهم بالدرجة الكافية التي تجعلهم يحبونك، ويثقون بك، ويعرفون أن كل كلمة تخرج من فَمِك في حبٍّ لهم ورغبة في رفعتهم في الدنيا والآخرة، علينا جميعًا أن نحمل لواء تربية البيت، موقنين أنه لا يقل شأنًا عن تربية الآخرين، وأولادنا أولى بالدعوة والمعروف من أولاد العالم كله.
إلى أختي الداعية
الأخت الداعية أولاً لا بد أن تعمل على راحة زوجها راحةً تامةً، وكل أخت تعلم ما يريحه حتى يعينها على الدعوة، ولو حدث العكس سيكون أكبر المعوقات لها، فترضيه ليسخره الله معها في الدعوة، أما الأولاد فتقوم بتغذيتهم تغذيةً فكريةً مع الجسدية ليفهموا معنى الدعوة وقيمة خروجها، وتشكرهم أمام الآخرين على أنهم من الأسباب الرئيسية لخروجها، بل تجعلهم يشاركونها في الدروس ويجهزون لها المراجع، وهكذا نربي دعاة دون أن يشعروا، وإن فعلت ذلك تستطيع أن تعلم تمام العلم أين الأولويات، وينير الله عز وجل لها الطريق، فإن كان لها أولاد صغار ولا راعيَ لهم إلا الله ثم هي فعليها أن تلزمهم، وسيكونون مددًا لها فيما بعد، أما أن تتركهم وتترك زوجها بدعوى أنها ترضي الله فكأنها تبحث عن سراب!!
إن التقوى هي صلب الدعوة، ولو خرجت امرأة واحدة تتقي الله فسيقتنع بها الناس، أما إن خرجت الكثيرات لا يتقين الله في أولادهن وأزواجهن فلن يحصلن إلا القليل، فالمرأة مفتاح جنتها في يد الزوج فلتحاول أن تأخذ معها هذا المفتاح ثم في يد الوالدين فلا بد أن يرضى عنها الزوج والوالدان قبل أن تبرح بيتها، وأحذرها من خلاف ذلك حتى لا تجني سرابًا، فمجموع المجتمعات هي البيوت فلو كان الخراب في البيت فلن نُحصِّل عمارًا في شيء.
والداعية الحقة لا تنشغل عن علاقاتها العائلية على الإطلاق ولكن تتعمق علاقتها، أما التي تنشغل عن الأهل بالدعوة فلن تجنيَ إلا القليل، والداعية التي لا يشغلها إلا رضا الله تستطيع أن تقوم بذلك كله، ويبارك الله في الوقت، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتح تسعة بيوتٍ، وهو القائد الحربي العسكري ورئيس الدولة وحبيب الناس وجليسهم، فاستطاع أن يفعل ذلك كله وهو لنا القدوة.
الطريق من هنا أيها الدعاة
1- حاول إقناع إخوانك الدعاة الذين تعمل معهم بأهمية جعل بيوت الدعاة وزوجاتهم وأولادهم محورًا ذا أهمية خاصة من محاور العمل الدعوي الذي تتعرضون له، بمعنى أن يكون نُصْب أعيُنكم وأنتم تخططون وتعدون أعمالكم الدعوية أن يكون للبيت والزوجة والأولاد نصيب من تلك الأعمال، على أن تُتَابَع وتُقيَّم من وقتٍ لآخر، وتُزَال العقبات وتُحَل المشكلات أولاً بأول.
2- حاول أن تجمع أكثر من عملٍ دعوي في يوم واحد، وأن تضغط أنشطتك الدعوية في أيام محددة من الأسبوع، بحيث يتبقى لك ولبيتك وأهلك أيام أُخَر.
3- لا تتحرّج من الاعتذار عن عملٍ أو نشاط دعوي تشعر أنه سيُحمّلك فوق طاقتك، أو تتوقع أنك ستهدر من أجل القيام به واجبًا آخر أو تضيع حقّا من الحقوق الأخرى. فلا يسعدنا أبدًا، ولا يرضي صاحب الدعوة عز وجل أن نهدم واجبًا لنبني على أنقاضه آخر، والقاعدة الأصولية تقول بأن «دفع المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة».
4- اجعل لبيتك وأهلك يومًا في الأسبوع، لا ترتبط فيه بأية ارتباطات خارجية مهما حدث، وأسقِطْه من حساباتك تمامًا وأنت تُسَكِّن أعمالك الدعوية على وقتك، فلا تقترب منه مطلقًا. ولتعمل في هذا اليوم على أن تشيع في البيت جو الود والمرح والسرور، وتقضي مصالح الزوجة والأولاد، وتجلس معهم جلسة يظللها الود والحب، تقرءون فيها مقتطفات من العلوم النافعة، وتُعطَى فيها لكل أفراد الأسرة الفرصة ليعبر عن كل ما يجول بخاطره ويحب أن يطرحه ويناقشه، وتتخلل تلك الجلسة المسابقات والحكايات الطريفة. وستكون تلك الجلسة بمثابة الزاد الذي يعين كل فرد من أفراد الأسرة على واجباته، وفي نفس الوقت ستمثل عاملاً قويّا من عوامل الربط والاندماج بينك وبين أهلك.
5- حاول أن تكون الأوقات التي تقضيها في البيت أوقاتًا مثمرة، بحيث يشعر بوجودك وأهميته كل أفراد الأسرة، فتغدق على زوجتك من مشاعرك وعواطفك، وتقضي لها ما تود قضاءه من مصالح المنزل، وكذلك تتابع أولادك واحدًا واحدًا، وتطمئن على سيرهم الجيد في دراستهم، وتحل لهم مشكلاتهم.
6- التقليل قدر المستطاع من الجلسات والاجتماعات والأوقات الطويلة التي تُنفَق في مناقشاتٍ وحواراتٍ لا طائل من ورائها، ومحاولة تحديد جدول أعمال لكل اجتماع تعقدونه لا ينبغي الزيادة عليه، وبحيث يكون له موعد بدء وموعد انتهاء، ويكون لكل فقرة من فقراته وقتها المحدد، مع احترام تلك المواعيد، حفاظًا على أوقاتكم من أن تُهدَر فيما لا يفيد، وبيوتكم في أمس الحاجة إلى تلك الأوقات.
وتستطيع أخي الداعية أن تجعل زوجتك وأولادك يتفهمون مسؤولياتك، ويغفرون لك انشغالك عنهم، بل ويقدمون إليك العون والسند، بدلاً من الشكوى والتذمر، ولكن بعد أن تقدّم لهم ما يؤهلهم لذلك ويعينهم عليه، من رعاية واهتمام وحُسْن تربية وتوجيه، وتوقيف على أهمية الدعوة إلى الله عز وجل وشرف القيام بها، وضرورة أن يكون لكل مسلم قِسطٌ ونصيبٌ من أعمالها، كل ذلك في ظل الحب والود والتعاون، لا المفاصلة والتعارض.
المقال السابق
المقال التالى