الحمد لله الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا؛ وجعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنًا، وشرع إليه عمرة وحجًا، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كرر مواسم الخيرات لاكتساب الحسنات، والتزود من الباقيات الصالحات، فمن عمل فيها وجد ما عمل، ومن ضيعها خسر وندم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فمن اتبع هداه نال محبة الله تعالى ورضاه، ومن حاد عن سنته أوبقه عمله وأرداه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور من الآية:63]، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعمروا مواسم الخيرات بأنواع الطاعات، وعظموا ما عظم الله تعالى من الشعائر والحرمات؛ فإنكم تستقبلون أفضل أيام العام، وهي أيام الأعمال والمنافع {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج من الآية:30] {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج:32].
أيها الناس:
السؤال وسيلة لاستخراج العلم، وزيادة الفهم، وتحريك الذهن. والآيات التي تناولت مناسك الحج والعمرة بدئت بالسؤال عن الأهلة، والأهلة معروفة؛ لأن الناس يرونها بأعينهم، ويدونون بحركتها تواريخهم، ويضبطون بها عباداتهم ومعاملاتهم، فالسؤال عنها وهي معروفة ليس سؤالا اعتياديا يراد منه العلم والمعرفة، وإنما يراد به شيء آخر {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة من الآية:189] من هو السائل؟ وماذا يريد بسؤاله؟
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: يا رسول الله، إن اليهود تَغشَانَا ويُكثِرون مَسأَلَتَنَا عن الأهِلَّة، فأنزَلَ الله تعالى هذه الآية.
وقال قتادة: ذُكِر لنا أنهم سأَلوا نبي الله صلى الله عليه وسلم: لِمَ خَلَقتَ هذه الأهلة؟ فَأَنْزَلَ الله تعالى {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة من الآية:189].
وروي أن رجلين من الأنصار قالا: يا رسول الله، ما بَالُ الهلال يبدو فَيَطلُعُ دقيقًا مثل الخيط، ثم يَزِيدُ حتى يَعْظُمَ ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينتقص وَيَدِقُّ حتى يكون كما كان، لا يكون على حال واحدة فنزلت هذه الآية.
وأيًا ما كان السائل، فإن سؤال اليهود عن الأهلة ليس سؤال مسترشدين مستهدين، وإنما هو سؤال متعنتين معرضين؛ لأن اليهود أهل علم وكتاب، ويعرفون الأهلة والحساب. ولذا كان الجواب الرباني عن فائدة هذه الأهلة في ضبط الحساب والمواقيت، وهو مما لا يخفى على الناس.
كما أن في الجواب تنبيهًا للمؤمنين ليسألوا عما ينفعهم في أمور دينهم، وترك التكلف في السؤال عما لا يتعلق بعباداتهم وحاجاتهم. وفي هذا يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ . قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة:101-102].
وفي هذا إرشاد للمؤمن أن يكون عمله أكثر من سؤاله، وأن يكون سؤاله فيما أشكل عليه من دينه ليعمل، فمقصود السؤال والباعث عليه هو العمل دون الجدل؛ لأن من سأل للعمل وفق لاستدامته، وفتح له من أبواب العمل الصالح ما يغلق دون غيره. ومن كان سؤاله لمجرد الجدل حرم العمل ولو كان أعلم الناس، وما أشد حرمان من علم فلم يوفق للعمل بعلمه.
وفي الناس اليوم من يبثون أسئلة الشك والاعتراض، فيلقونها على الأسماع: لم خلق الله كذا؟ ولم فعل كذا؟ ولماذا يقدر كذا؟ يحاكمون أفعال الله تعالى إلى عقولهم القاصرة، ويريدون أن يُكيف القدر -وهو سر الله تعالى في خلقه- ليوافق أفهامهم السقيمة، وجهلهم المركب { قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17].
وفي الإعلام المعاصر حملات ممنهجة لقذف أسئلة الشك على المشاهدين والمستمعين والقراء من مختلف الأعمار، وفيها من التشكيك في دين الله تعالى ما يقلب الفطر، وينكس القلوب، ويحرف عن الصراط المستقيم؛ مما يحتم تعاهد الإيمان في القلوب، وغرسه في النشء الصغار، وتحصينهم ضد شكوك المشككين في دين الله تعالى؛ ليشب إيمانهم مع شبابهم، ويقوى بقوتهم.
هذا؛ ولن تتوقف أسئلة الشكاك والمتمردين والملحدين حتى تصل بأصحابها وبمن يجالسهم ويحضر برامجهم ويستمع إليها إلى الشك في الله تعالى، كما أخبر عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ: مَا كَذَا؟ مَا كَذَا؟ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللهَ» رواه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه (صحيح مسلم [136])، وفي رواية له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ» (صحيح مسلم [134]).
وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللهُ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟» قال: فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب، فقالوا: يا أبا هريرة، هذا الله، فمن خلق الله؟ قال: فأخذ حصى بِكَفِّه فرماهم، ثم قال: قوموا قوموا، صَدَقَ خليلي. (صحيح مسلم [135]).
إن مشقق الأسئلة في دين الله تعالى ومتكلفها قد يعاقب بحيرة تمزق قلبه، وشك يفرق جمعه، وسلب للإيمان يوقعه في شقاء أبدي يذوقه في حياته قبل مماته؛ فإن نعيم القلب في الدنيا بالإيمان هو أعظم النعيم، بل ليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الجنة إلا نعيم القلب بالإيمان، وطمأنينته به، وأنسه بالله تعالى، وفرحه به، واجتماع قلبه عليه. وكل نعيم في الدنيا فهو دون نعيم الإيمان، فكيف يفرط مؤمن في نعيمه بعد أن ذاقه.
وإذا ابتلي المؤمن بمن يتقعر في قوله، ويتكلف في أسئلته، ويثير الجدل لذات الجدل فعليه أن يفارق مجلسه، ولا يُستجرَّ لميدانه، ولا يشارك في معركته، ولا يُستفزَّ لمناقشته، بل يعرض عنه وعن مسألته، أو يجيبه -على طريقة القرآن- بما ينفعه؛ فإنه حين سأل السائلون عن الأهلة أسئلة غير نافعة؛ توجه الجواب على غير مراد سؤالهم، وتحول إلى ما ينفعهم {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ} [البقرة من الآية:189] أي: معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم وأيام حيضهن ومدة حملهن وغير ذلك. ولم تذكر الأعمال المؤقتة بالأهلة في الآية؛ ليشمل الكلام كل عمل يحتاج إلى التوقيت.
واختص الحج بالذكر دون الصلاة والزكاة والصيام مع أن لها مواقيت ردًّا على المشركين في نسئهم الأشهر الحرم، وتغييرها عاما بعد عام، لإبطال دينهم في النسيء، ووضع الحج في وقته الصحيح.
وكذلك؛ الحج من بين سائر العبادات لا يكون إلا في وقته الذي وقته الله تعالى له، فالصلاة إذا فاتت تُقضى، والزكاة إن تأخر صاحبها عن أدائها بعد تمام الحول بقيت في ذمته وأدها، والصيام إن منعه العذر منه فعدة من أيام أخر. أما الحج فلا يكون إلا في وقته، فمن فاته الوقوف بعرفة لعذر أو لغير عذر فاته الحج، ومن فاته الحج فلا يحج إلا في وقته من العام القابل، ولا يقضيه في سائر العام. فكان لتخصيص الحج بالذكر في الآية هذه الفائدة {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ}.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعملوا صالحا تجدوه؛ فإنكم تنتظرون عشرًا هي خير أيام العام، والعمل الصالح فيها أفضل منه في غيرها {وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ . وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:1-3] جاء في حديث جَابِرٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْعَشْرَ عَشْرُ الْأَضْحَى، وَالْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ» (مسند أحمد [14735]).
وفي عشر ذي الحجة تجتمع أمهات العبادات، وتتنوع الأعمال الصالحات؛ فمن أخذ بأكثرها وقضى العشر كلها متقلبًا بينها فقد فاز وربح، ومن قضاها في الأسفار المحرمة، أو في مجالس اللهو والغفلة خسر حين يربح غيره، وقد جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى». قيل: ولا الجهاد في سبيل الله قال: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ». وكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكاد يقدر عليه. رواه البخاري والدارمي واللفظ له. (مسند الدارمي [1815]، صحيح البخاري [969]).
وفي حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ». رواه البزار. (صحيح الجامع [1133]).
وتشرع الأضحية يوم النحر وثلاثة أيام بعده، ومن نوى الأضحية أمسك عن شعره وأظفاره حتى تذبح أضحيته؛ لما جاء في حديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُم أَنْ يُضَحِّيَ فلا يَمَسَّ من شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شيئا»، وفي رواية «فلا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا ولا يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا» (صحيح مسلم [1977]).
وصلوا وسلموا على نبيكم...