أولاً : في وفاة عثمان بن مظعون
فعندما أُخبر رسول الله ~ صلى الله عليه و سلم ~ بوفاة عثمان بن مظعون أسرع إلى بيته، فقد كان عثمان من الصحابة القريبين إلى قلبه. فبكى النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ عليه بكاء كثيراً [1] .
ثانيًا: في وفاة سعد بن عبادة
عن ابن عمر t قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ يعوده، مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم جميعًا-، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله فقال: "قد قضى؟". قالوا: لا يا رسول الله. فبكى النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ ، فلما رأى القوم بكاء النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ بكوا. فقال: "ألا تسمعون، إن الله لا يعذِّب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا"، وأشار إلى لسانه [2] .
ثالثًا : في وفاة طفله إبراهيم
لما رُزق رَسُولُ اللَّهِ ~ صلى الله عليه و سلم ~ بطفل من زوجته السيدة مارية المصرية، قال لأصحابه - في ابتهاج وسرور - : "وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ" . قال أنس : ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ سَيْفٍ امْرَأَةِ قَيْنٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو سَيْفٍ فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ وَاتَّبَعْتُهُ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى أَبِي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ، قَدْ امْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَانًا، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ~ صلى الله عليه و سلم ~ َقُلْتُ يَا أَبَا سَيْفٍ أَمْسِكْ [ أي توقف]! جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ~ صلى الله عليه و سلم ~ فَأَمْسَكَ!
فَدَعَا النَّبِيُّ ~ صلى الله عليه و سلم ~ بِالصَّبِيِّ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ..
فَقَالَ أَنَسٌ : لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ[أي يحتضر] بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ~ صلى الله عليه و سلم ~ ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ ~ صلى الله عليه و سلم ~ فَقَالَ :
"تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَاللَّهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ"[3].
رابعًا: بكاءه عند قبر أمه
ومن المواقف المؤثرة الصعبة على نفوس الصحابة، موقفهم عندما شاهدوا قائدهم في عام الحديبية ( 6هـ) يبكي بحرقة عند قبر أمه آمنة بنت وهب.
فعن سفيان الثوري أن نبي الله ~ صلى الله عليه و سلم ~ انتهى يوماً من عام الحديبية إلى رسم قبر فجلس، وتفجر ينبوع الرحمة في قلبه فبكى وقال – بعينين دامعتين -: "هذا قبر آمنة بنت وهب" وكان عمره إذ ذاك نحو السّتين [4] .
وعن عبد الله بن مسعود :
أن النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ خرج يومًا وخرجنا معه حتى انتهينا إلى المقابر ، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها ، فجلس إليه فناجاه[5] طويلاً ، ثم ارتفع صوته ينتحب باكيًا ، فبكينا لبكاء رسول الله ~ صلى الله عليه و سلم ~، ثم إن رسول الله ~ صلى الله عليه و سلم ~أقبل إلينا ، فتلقاه عمر بن الخطاب ، فقال : ما الذي أبكاك يا رسول الله ؟ فقد أبكانا وأفزعنا ، فأخذ بيد عمر ، ثم أومأ [6] إلينا فأتيناه، فقال – في شفقة -: " أفزعكم بكائي ؟ " فقلنا : نعم، يا رسول الله فقال ذلك مرتين أو ثلاثا ، ثم قال : " إن القبر الذي رأيتموني أناجيه قبر آمنة بنت وهب ، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي ، ثم استأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي .. فأخذني ما يأخذ الولد للوالد من الرقة ، فذلك الذي أبكاني.." [7] .
قال أحد الصحابة : فما رأيت ساعة أكثر باكيًا من تلك الساعة[8] .
لقد تذكر ~ صلى الله عليه و سلم ~ بهذه الزيارة لقبر أمه الذكريات ..
فراح يستعيد جروح الماضي في وجدانه ..
فخيم عليه شعور اليتم الرهيب !
فتأوه القلب الصديع !
------------------------------------------------------------------------------------------------
[1] صحيح – رواه البخاري، كتاب الجنائز، 3
[2] صحيح – رواه البخاري، في كتاب الجنائز، 45؛ ورواه مسلم، في كتاب الجنائز، 12
[3] صحيح – رواه مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، برقم 4279
[4] انظر : حسين محمد يوسف : سيد الدعاة -صلى الله عليه وسلم، القاهرة: 44
[5] المناجاة : الحديث بصوت منخفض سرا
[6] الإيماء : الإشارة بأعضاء الجسد كالرأس واليد والعين ونحوه
[7]صحيح – رواه وصحيح ابن حبان برقم 986 ، وفي أخبار مكة للأزرقي - (ج 3 / ص 212)، برقم 985، رواه البهيقي في دلائل النبوة برقم 102، ، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية 23.
[8] دلائل النبوة للبيهقي - (ج 1 / ص 117)، برقم 101