عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة» [1].
أقسى شيء أن تطعن الأمة من رجالها وأبناء جلدتها، فما أشدها من طعنة، وما أبشعها من نكسة، وما أقساها من محنة ... إنها الخيانة القبيحة بكل صورها التي لعنتها كل الشرائع السماوية والقوانين الأرضية، وكفى بالخائن إثماً أنه ابتاع دنياه بسوء السيرة وآخرته بغضب الرحمن.
ولقد ورد لفظ الخيانة في سورة الأنفال في ثلاث آيات، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّـهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
وقال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58].
وقال: {وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّـهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:71].
وفي كل آية يرد اللفظ مرتين، وهو ما لم يحدث في أي سورة من سور القرآن، ودلالة هذا التكرار تفيد الانتباه لأهمية الأمر خاصة أن سورة الأنفال هي سورة الجهاد والقتال، ولقد بدأت السورة بأول معركة للمسلمين ألا وهي غزوة بدر وهو ما يلفت النظر للحذر من الخيانة التي تكونه خاصة في المعارك.
يقول سيد قطب: "إن الإسلام يكره الخيانة، ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود، ومن ثم لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة .. إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ، ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة، فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة .. وليس مسلمًا من يبرر الوسيلة بالغاية، فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية، لأنه لا انفصال في تكوين النفس البشرية وعالمها بين الوسائل والغايات .. إن الشط الممرع لا يغري المسلم بخوض بركة من الوحل، فإن الشط الممرع لابد أن تلوثه الأقدام الملوثة في النهاية .. من أجل هذا كله يكره الله الخائنين ويكره الله الخيانة" [2].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38] صرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة بأنه لا يحب كل خوان كفور، والخوان والكفور كلاهما صيغة مبالغة، والمقرر في علم العربية أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل، وعلى هذه القاعدة العربية المعروفة فإن الآية قد صرحت بأن الله لا يحب المبالغين في الكفر والمبالغين في الخيانة، ولم تتعرض لمن يتصف بمطلق الخيانة ومطلق الكفر من غير مبالغة فيهما، ولا شك أن الله يبغض الخائن مطلقاً والكافر مطلقًا.
وقد أوضح جل وعلا ذلك في بعض المواضع، فقال في الخائن: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58] وقال في الكافر: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّـهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] [3]، قال القاسمي: "وصيغة المبالغة فيهما لأنه في حق المشركين وهم كذلك، ولأن خيانة الله وكفران نعمته لا يكون حقيرًا بل هو أمر عظيم" [4].
وقال صلى الله عليه وسلم:
- «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» [5].
- «أَرْبَعُ خلالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا» [6].
- «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئس البطانة» [7].
- . «.. وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبعًا لا يتبعون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك ...» [8].
- «حرمة نساء المجاهدين على القاعدين، كحرمة أمهاتهم. وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله، فيخونه فيهم، إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟» [9] أي ما تظنون في رغبته في أخذ حسناته والاستكثار منها في ذلك المقام، أي لا يبقى منها شيئًا إن أمكنه.
- «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» [10].
- «لواء الغادر يوم القيامة عند استه» [11].
فأوجز وأجمع رسالة لكل لخائن "الجزاء من جنس العمل، وفي التاريخ عبرة لمن يعتبر" قال صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب، وإن أعجل الطاعة ثوابًا لصلة الرحم حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا» [12].
قال الذهبي في ترجمة (المنتصر بالله) الخليفة العباسي: "ورد عنه أنه قال في مرضه: ذهبت يا أماه مني الدنيا والآخرة، عاجلت أبي فعوجلت، وكان يتهم بأنه واطأ على قتل أبيه، فما أمهل، وجلس مرة للهو، فرأى في بعض البسط دائرة فيها فارس عليه تاج، وحوله كتابة فارسية، فطلب من يقرأ، فأحضر رجل فنظر فإذا فيها ... فقطب وسكت وقال: لا معنى له، فألح المنتصر عليه، قال: فيها أنا شيرويه بن كسرى بن هرمز، قتلت أبي فلم أمتع بالملك سوى ستة أشهر، قال: فتغير وجه المنتصر وقام.
قال جعفر بن عبد الواحد: قال لي المنتصر: يا جعفر، لقد عوجلت فما أذني بأذني، ولا أبصر بعيني".
وقال عنه الذهبي أيضاً: "تحيلوا -أي الأتراك- إلى أن دسوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار عند مرضه فأشار بفصده، ثم فصده بريشة مسمومة فمات منها، ويقال إن ابن طيفور نسي ومرض وافتصد بتلك الريشة فهلك" [13].
الهوامش
[1] البخاري – الفتح 6/3188، ومسلم ــ كتاب الجهاد والسير رقم 4362 واللفظ له.
[2] الظلال ص 1542.
[3] أضواء البيان للشنقيطي ج5 ص 264 بتصرف.
[4] محاسن التأويل للقاسمي ج11-12 ص 28.
[5] متفق عليه البخاري ـ الفتح 1/33 ومسلم 1/59 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] البخاري رقم 2471 عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
[7] رواه أبو داود رقم 1547 عن أبي هريرة وقال الألباني في صحيح أبي داود رقم 1368: حديث حسن (8/263-3354) وقال محقق جامع الأصول 4/357: حسن.
[8] رواه مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي رقم 2865.
[9] رواه مسلم عن بريدة رضي الله عنه رقم 4727.
[10] رواه مسلم عن معقل بن يسار رقم 142.
[11] رواه الخرائطي في مساوئ الأخلاق عن معاذ وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 5108.
[12] رواه الطبراني عن أبي بكرة (صحيح) انظر حديث رقم: 5705 في صحيح الجامع.
[13] سير أعلام النبلاء للذهبي 12/43-45 والجزاء من جنس العمل.