بسم الله الرحمن الرحيم
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ لَم يَشْكُرُ النَّاسَ؛ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ»(1)
كم فرقتنا النعرات المنتنة وجمعنا الإسلام، وكم وعدونا في ظل الليبرالية والقومية والبعثية والعلمانية.. بالرخاء والوحدة والأمن والاستقرار والرفعة، فإذا الأمر سراب، وإذا التجربة المريرة تثبت أنهم شتتونا أكثر مما جمعونا وأخافونا أكثر مما أمَنونا، وأذلونا أكثر مما أعزونا، وإذا قول الله الحق يعلو على كل هذا الركام، وإذا خير الهدي هدي خير الأنام، وأعطر التاريخ تاريخ السلف الكرام، وإذا بصوت الضمير يقول: حين شقائي حين جهلت طريق إلهي، حين تركت سيرة أجدادي وآبائي، حين تصورت الدنيا حسي وغذائي وكسائي.
«مَنْ لَم يَشْكُرُ النَّاسَ؛ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ»؛ قال القاضي: وهذا إما لأن شكره تعالى إنما يتم بمطاوعته وامتثال أمره وأن مما أمر به شكر الناس الذين هم وسائط في إيصال نعم الله إليه، فمن لم يطاوعه فيه لم يكن مؤديا شكر نعمه، أو لأن من أخل بشكر من أسدى نعمة من الناس مع ما يرى من حرصه على حب الثناء والشكر على النعماء وتأذيه بالإعراض والكفران كان أولى بأن يتهاون في شكر من يستوي عنده الشكر والكفران (2)
وفي رواية لهذا الحديث: «أشكَرَ النَّاسِ للَّهِ أشكَرُهُم للنَّاسِ» (3) قال المناوي: «أشكَرَ النَّاسِ للَّهِ» تعالى أي من أكثرهم شكراً له «أشكَرُهُم للنَّاسِ» لأنه سبحانه جعل للنعم وسائط منهم وأوجب شكر من جعله سبباً لإفاضتها كالأنبياء والصحابة والعلماء فزيادة العبد في شكرهم زيادة في شكر ربه، إذ هو المنعم بالحقيقة، فشكرهم شكره، ونعم الله منها بغير واسطة كأصل خلقته، ومنها بواسطة وهي ما على أيدي الناس فتتقيد بشكرهم ومكافأتهم ففي الحقيقة قد شكر المنعم بإيجاد أصل النعمة ثم بتسخير الوسائط.
قال بعض العارفين: لو علم الشيطان أن طريقاً توصل إلى الله أفضل من الشكر لوقف فيها ألا تراه قال: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] ولم يقل لا تجد أكثرهم صابرين أو نحوه (4)
وقال ذو النون المصري أبو الفيض: الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان والإفضال (5)
وقال أبو حاتم: الواجب على من أُسدى إليه معروف أن يشكره بأفضل منه أو مثله لأن الإفضال على المعروف في الشكر لا يقوم مقام ابتدائه وإن قل، فمن لم يجد فليثن عليه فإن الثناء عند العدم يقوم مقام الشكر للمعروف وما استغنى أحد عن شكر الناس، وقال أيضا: الحر لا يكفر النعمة ولا يتسخط المصيبة، بل عند النعم يشكر وعند المصائب يصبر، ومن لم يكن لقليل المعروف عنده وقع أوشك أن لا يشكر الكثير منه، والنعم لا تستجلب زيادتها ولا تدفع الآفات عنها إلا بالشكر لله جل وعلا ولمن أسداها إليه (6)
وفي الحديث قال -صلى الله عليه وسلم-:
- «من أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له» (7)
- «من أعطى شيئا فوجد فليجز به، ومن لم يجد فليثن به، فإن أثنى به فقد شكره وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط فإنه كلابس ثوبي زور»(8)
- «من أٌولي معروفا فليذكره، فمن ذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره» (9)
- «من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء» (10)
- وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال المهاجرون: يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله ما رأينا قوما أحسن بذلا لكثير ولا أحسن مواساة في قليل منهم ولقد كفونا المؤنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: «أليس تثنون عليهم به، وتدعون لهم» قالوا بلى قال فذاك بذاك (11) أي مادمتم تدعون لهم بخير فإن دعائكم يقوم بحسناتهم إليكم، وثواب حسناتكم راجع عليكم. قال الطيبي رحمه الله: يعني إذ حملوا المشقة والتعب على أنفسهم وأشركونا في الراحة والمهنأ فقد أحرزوا المثوبات فكيف نجازيهم ؟ فأجاب لا. أي ليس الأمر كما زعمتم إذا أثنيتم عليهم شكرا لصنيعهم ودمتم عليه فقد جازيتموه (12)
مر سعيد بن العاص بدار رجل بالمدينة فاستسقى فسقوه، ثم مر بعد ذلك بالدار ومناد ينادي عليها فيمن يزيد قال لمولاه: سل لم تباع هذه؟ فرجع إليه فقال: على صاحبها دين، قال: ارجع إلى الدار فرجع فوجد صاحبها جالسا وغريمه معه، فقال:لم تبيع دارك ؟ قال: لهذا على أربعة آلاف دينار، فنزل وتحدث معهما وبعث غلامه فأتاه ببدرة فدفع إلى الغريم أربعة آلاف ودفع الباقي إلى صاحب الدار وركب ومضى.
وأقبل سعيد بن العاص يوما يمشي وحده من المسجد، فقام إليه رجل من قريش فمشى عن يمينه، فلما بلغا دار سعيد التفت إليه سعيد فقال:ما حاجتك؟ قال: لا حاجة لي، رأيتك تمشي وحدك فوصلتك، فقال سعيد: لقهرمانه ماذا لنا عندك؟ قال: ثلاثون ألفا، قال: ادفعها إليه.
وعن أبي عيسى قال: كان إبراهيم بن أدهم إذا صنع إليه أحد معروفا حرص على أن يكافئه أو يتفضل عليه، قال أبو عيسى: فلقيني وأنا على حمار وأنا أريد بيت المقدس وقد اشترى بأربعة دوانيق تفاحا وسفرجلا وخوخا وفاكهة، فقال: يا أبا عيسى أحب أن تحمل هذا، قال وإذا عجوز يهودية في كوخ لها، فقال: أحب أن توصل هذا إليها فإنني مررت وأنا ممس فبيتني عندها فأحب أن أكافئها على ذلك.
ومر عمر بن هبيرة ــ لما انصرف في طريقه ــ فسمع امرأة من قيس تقول: لا والذي ينجي عمر بن هبيرة، فقال:يا غلام أعطها ما معك وأعلمها أني قد نجوت.
وعن إبراهيم بن محمد قال: خرجت لأبي جائزته فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته ففعلت فقال لي: تذكر هل بقى أحد أغفلناه ؟ قلت لا، قال بلى رجل لقيني فسلم على سلاما جميلا صفته كذا وكذا اكتب له عشرة دنانير (13)
وعن الربيع بن سليمان قال: أخذ رجل بركاب الشافعي فقال: يا ربيع أعطه دينار.
سلام على القمم، سلام على خير الأمم.
-----------------------------
الهوامش
(1) رواه الترمذي ــ باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك (صحيح) انظر حديث رقم: 6601 في صحيح الجامع.
(2) تحفة الأحوذي ــ المباكفوري ج6 ص 61 ط دار الفكر
(3) رواه أحمد والطبراني عن الأشعث بن قيس ( صحيح ) انظر حديث رقم: 1008 في صحيح الجامع
(4) فيض القدير للمناوي ج1ص341
(5) تفسير القرطبي ج1 ص 398
(6) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ــ أبي حاتم محمد بن حبان ص 263
(7) رواه الطبراني عن الحكم بن عمير (صحيح) انظر حديث رقم: 5937 في صحيح الجامع
(8) رواه أبو داود والترمذي عن جابر (حسن) انظر حديث رقم: 6056 في صحيح الجامع
(9) رواه الطبراني عن طلحة بن عبيد الله ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عائشة رضي الله عنها والحديث حسنه الألباني في صحيح الترغيب رقم 964
(10) رواه الترمذي والنسائي عن أسامة بن زيد (صحيح) انظر حديث رقم: 6368 في صحيح الجامع
(11) رواه أبو داود والنسائي واللفظ له وصححه الألباني في صحيح الترغيب رقم 967
(12) تحفة الأحوذي ــ المباركفوري ج 7 ص 203 ط دار الفكر
(13) مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا ص 90-91