وهذه هي زهرةُ الحياة، حين تستمدُّ من نورها وَمَضات بارقة بالأمل، ونظرات مُشْرقة بالتأمُّل، تغورُ في بواطن أعماقِ النفس، وتجولُ بالفكرة في الآفاق، وتعمل النظرَ في المخلوقات، فتنكشفُ أمامك تلك الأسرارُ الخفيَّة والغوامض المبهمة، وتنفكُّ الأقفال عن أبوابك المُؤصدةِ، فتتنفَّس مشاعرُك الهواءَ العليل، وترتوي من موردِها العَذْب معاني الوصال، تسري إليك مع نسمات الإيمان وأنوارِه الساطعة، وتنزاحُ عن بصرك وبصيرتِك تلك الحجبُ الكثيفةُ، والنقاط السوداءُ، والألوان المعتمةُ، فتسلكُ طريقَ الكَدْح والمشقَّة لتَصِلَ إلى الطريقِ الفسيح الرَّحْب، وتَلِجُ البابَ الضيِّق لتلقى حياةَ النعيم والراحة تُبسَطُ لك بسطًا.
وهذه هي زهرةُ الحياة حين يكونُ أنسُك بالله أكبرَ من أُنْسِك بمن سواه، واشتياقُك إلى ما أعدَّ لعباده الصالحين من نعيم الجنة أكبرَ من اشتياقك لنعيم الدنيا الزائل، تتمثَّل قولَ الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
ولا شيءَ أعظم من ذلك في ذاكرتك، التي لا تُخلِّد للحياة تاريخًا يشدها إلى ثقل المادة، أو يَجذِبُها إلى إغراء مباهجِها النَّضِرة، وفتنة أنوارها الخادعة، "فإن حلواءَ الشَّرَه سببُ حمى الروح، والبخل يؤذي عصبَ المروءة"[2].
بل تُخلِّدُ للحياة تاريخًا مجيدًا بجلائلِ الأعمال، وخُلوصِ النيَّة للحق والجهرِ به، ونصرة الدين والدفاع عنه، وصَوْن الشرف والعِرض، وطهارة السريرة من خوارمِ المروءة، وإذلال النفس.
3 - الكون كتابٌ مفتوح:
إن للعيون نورًا شمسُها البصيرةُ تُشرِقُ في القلوب المؤمنة، وتفسحُ لمَجاريها أن تتدفَّق بالدماء الزكيَّة، وتفورُ كالماء العَذْبِ يُبلِّلُ جفافَ الأوراق ويَبَاسَ الأغصانِ الممتدة في فصول العمر، ويروي ظمأَ الأرواح وعَطَش الأجسادِ السائحة في الأرض، فتنتشي من عناقيدِ الفرح، وتلك مزيَّةُ ذوي الهِممِ العالية، وفضيلةٌ تُشرِّفُ أهلَ المجد والعزم؛ مَن لَزِموا الطاعةَ، فاستحقُّوا وعدَ الله عزَّ وجل بنعيمِ الجنة، ومَن ملكوا الدنيا، ولم تُغْرِهم ظواهرُ الأشياء، وما تَجلُبُه الفتنُ والشهوات من غفلة تصدُّ عن إبصارِ الحق، وتحجُبُ النظرَ في أسرار الخلق، وسَبْر أغوار الكون، كما قال الله عز وجل: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ [الروم: 7، 8].
أما إذا خَبَا وَهَجُ البصيرة، ظهرت الحقيقةُ بين الملامح والصور، كأطيافٍ وأخيلةٍ في ظلام مُطبِقٍ، وانكشافها خلفَ ستار الجاذبيَّة يكون باهرًا للعين التي تَأْسِرُها الصورُ الجماليَّة الظاهرة كأيكةٍ وارفةِ الظِّلال، أو روضةٍ من رياض السَّعد ناضرةِ الحُسْن والجمال، وإذا جنَّ الظلامُ لفَّها حجابُ السَّتْر؛ فرَامَتِ النفسُ أن تَشُقَّ الأستارَ، وتصرفَ وَحْشةَ التعلُّق بذاك الجمال الفتَّان، الملفوف بلحاف الصمت والكتمان.
وإذا سطَعَ نورُ البصيرة، ظهرت الحقيقة ولها إشراقاتٌ تكشف تلك الأسرارَ المبطنةَ، وتحيطُ القلبَ بصِمامِ الأمان الذي يحفظُه من تجاذبات العواطف والأهواء، واللِّسان يجاهد ويناضل حتى يخترقَ حاجزَ الإبهام، ويغترف من وعاء القلب ما يحتويه من معاني الكدرِ والصَّفْو، وطيبِ المِسك وخبيثِ النَّتْن، فيكون أصدقَ في الإفصاح، إذا خَلَص القصدُ، وسلمتِ النيةُ من الفساد والدَّخَن، ويكون أكثرَ افتراءً وكذبًا إذا خالط القصدَ والنية، شائبةٌ تفسد الطويَّة.
وما يبصرُه القلب المؤمن هو النورُ والضياء، يرفُّ لرفيف النَّبضات الصادحة في مجرى الدمِ الرَّقْراق، ويسطعُ لوميضِ الإيمان الساطع، يبعث الدِّفْء في خَلَجات الروح، فتنشطُ لها الأجسادُ المسهدة على مضجع الشقاوة والبؤس، ويهيجُ في الذاكرة هديرُ الخواطر في لحظات التأمُّل، وتبحر الأفكار والرؤى في أغوارِ الكون والكائنات؛ لتجتلِيَ أسرارَ تلك الحقيقة الإيمانيَّة، وتشدَّ وَثاقَها بغايات المجد، وتنتشي الأرواحُ لذَّةَ العبادة، وتبتهج ببشائر الفرح.
وتلك الحكمُ والأسرارُ المعتبرة لا يصونها إلا مَن بلغ أن يُميِّز بينَ الحلي والعَطَل، وارتقى موطنَ السلام وهو يتلذَّذُ على مشارفها بالرضا والأمان، وارتوى من حياض العلوم والمعارف وبها سما وتألَّق، وشدَّ وَثاقه بعقدِ الإيمان البرَّاق، ووصل دررَه بالاعتبار والتدبُّر في أسرار الكون والكائنات، فتطهَّرَتْ جوارحُه من أنجاسِ الرذائل، واستحمَّت بهطُول الفضائل، وتزيَّنت بالمحاسنِ والخِلال، وكَسَتْها أفانينُ الزهر بالمكارم؛ فتنفَّست بأنفاس الطُّهْر.
وتلك دلائلُ الإيمان ساطعة في فضاء الفكر، وتلك آياتُ الكون ناطقة بالعِبَر والحجج الغُرِّ، كما قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].
ولو تأمَّل هذا الإنسانُ في تلك الروح التي لا يَملِك أن يحملَها على أكفِّه، أو يحيطَ بماهيَّتِها عقلُه القاصرُ، لأدرك فيما يدركُه أن هذا الجسدَ الذي يدبُّ على الأرض دبيبَ النمل، هو أوهنُ من بيت العنكبوتِ حين يكونُ خلاءً من سُرُج الإيمان، وقناديل البصيرة المشرقة بنور الله.
ولو تأمَّل هذا الإنسانُ في الآفاق على امتداد الكون الذي لا يحدُّه البصر، لأدرك فيما يدركُه أن ما حواه من أسرارٍ ونواميسَ يَقصُر العقلُ عن الإحاطة بها، وكشف حجبها، وأن أنفاسه التي تصعَدُ وتنزل لا سلطانَ له عليها؛ إنما السلطان لمن أودع هذه الأسرارَ بقدر محدودٍ لمن اصطفاهم مِن خَلقِه ممَّن شملهم بالرضا؛ فسلكوا طريقَ الحقِّ والهداية.
[1] المُدهِش؛ للحافظ أبي الفرج عبدالرحمن ابن الجوزي - دار الآثار، ط الأولى 1422هـ - 2003م، ص: 125.
[2] المدهش: ص: 125 (بتصرف).