عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

تحت قسم أعمال القلوب
الكاتب د. صفية الودغيري
تاريخ الاضافة 2016-02-28 21:35:04
المشاهدات 908
أرسل الى صديق اطبع حمل المقال بصيغة وورد ساهم فى دعم الموقع Bookmark and Share

   

ما أجملَ تلك الرسائلَ التي لا يطويها الزمن تحتَ لحافِه، ولا يحجبُها الظلامُ خلفَ ستاره، ولا يرشقُها اليأسُ والكَلل بسهامه، كأنها البَلسمُ يشفي العليلَ من سِقامه، ويُحلِّي حياتَه إن صار الدهرُ له متقلِّبًا متجهِّمًا في نوائبه وشدة امتحانه!

فدَعْ شموعَ الأمل تُنِيرُ حياتك، وتمدُّك بالدفء، وتُذِيب الصقيع الذي جمَّد إحساسَك، وأَوْقِدْ سُرُجَ الإيمان؛ كي تَسْطَعَ روحُك وتبتهجَ، وتُزهِرَ في عيونك المسرَّات، وتشرقَ أحلامك، وأَيْقِظْ شعورَك بالأمان والسلام؛ كي تهدَأَ نبضاتُك، وتسكنَ إلى مهادِ الراحة بعدَ التَّعَبِ، وازْرَع في القلوبِ محبةً ووئامًا؛ حتى تلتئِمَ الجراحُ وتَنْدمِلَ، وكن كالزهرةِ الفوَّاحة تنثرُ الأريجَ والشَّذَا والعطرَ، وشمسًا تَنشرُ النورَ والضياء؛ فتَأْسِر الروحَ والمشاعر، وتزف الدنيا والناسَ بشائر الفرحِ والغِبطة.

وما أجملَ أن تتمثَّل معانيَ تلك الأبيات التي تسرُّ القلبَ والخاطر من قصيدةٍ للشاعر إيليا أبو ماضي:

كُنْ بلسمًا إن صار دهرُك أرقمَا
وحلاوةً إن صار غيرُك علقمَا
إن الحياةَ حَبَتْكَ كلَّ كنوزها
لا تبخَلَنَّ على الحياة ببعضِ مَا
أَحسِنْ وإن لم تُجزَ حتى بالثَّنَا
أيَّ الجزاء الغيثُ يبغي إنْ همَى؟
مَن ذا يكافِئُ زهرةً فوَّاحةً؟
أو مَن يثيبُ البلبلَ المُترنِّما؟
عُدَّ الكرامَ المحسنين وقِسْهُمُ
بهما تجدْ هذَيْنِ منهم أكرَمَا
يا صاحِ خُذْ عِلمَ المحبَّة عنهما
إني وجدْتُ الحبَّ علمًا قيِّمَا
لو لم تَفُحْ هذي، وهذا ما شَدَا
عاشَتْ مُذمَّمةً وعاش مذمَّمَا
فاعْمَلْ لإسعاد السِّوى وهنائِهم
إن شئتَ تَسْعدْ في الحياةِ وتنعمَا!

1- السعادةُ لا تأتيك عَنوةً ولا استجداءً:

إنما هي منبعٌ ثَرٌّ بالعطاء، وعبيرٌ صافٍ تَنتشيه قلوبُ الأصفياء، وأريجٌ فوَّاح يَنْثُر شذاه في الآفاق، وقطرات نديَّة ترطِّب العروقَ فتجري فيها الدماءُ، وبلسمٌ يُضمِّدُ الجروحَ فتلتَئِمُ بلا مشقَّة ولا عناء، كأنما هي يَواقيتُ سَطَعتْ لتُزيِّن أرواح من استغنوا بالله عمن سواه، مصداقًا لقول الحقِّ عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15].

وإن سرَّ سعادتك في شعورِك بالافتقار إلى الله في حواسِّك الخمسِ، وحركاتك وسكناتك، وخَلَجات أنفاسِك، وعند قيامك وقعودِك، وصعودِك ونزولِك، وسعيِك وكَدْحِك، ولا شيءَ يُغنيك ويُريحُك إلا الإقبالُ عليه، والسعادة بقربه، ولا شيءَ يَجبُرُ كسرَك، ويقيمُ صُلبَك، إلا الاستعانةُ به، وارتضاء كفايتِه، وصدَقَ ربنا عز وجل حين قال: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28].

وإن سرَّ سعادتك في نورِ الإيمان حين يشرقُ في قلبك، ويسري إلى خفقانِ نبضِك، فتتعلَّمُ أن خيرَ أهلِ الدنيا مَن ارتَقَوْا مراتبَ المجدِ التَّليد، وتوسَّدُوا مهدَ الأتقياء، ونحلوا المعارفَ، وتحلَّوْا بأصدافها، فقنعوا بزادٍ قليل، وعاشوا في سَعَةٍ ورخاء، وماتوا وهم في رَغَدِ العيش من السعداء.

وما أجملَ ما قاله الإمام الشافعيُّ؛ يمدحُ من زهدوا في الدنيا، وصانوا دينَهم من التخبُّط في لُجَّة الفتن:

إنَّ لله عبادًا فُطنَا
تركوا الدنيا وخافوا الفِتَنَا
نظروا فيها فلمَّا علِموا
أنها ليست لحيٍّ وطنَا
جعلوها لُجَّةً واتَّخذوا
صالحَ الأعمال فيها سُفُنَا

وإن سرَّ سعادتك في خَلاصِك من قيودِ يَأْسك وقنوطِك، تتحدَّى الخطوب والشدائد والمحن بنفسٍ راضيةٍ مطمئنَّةٍ لأقدار الله: خيرِها وشرِّها؛ اتِّباعًا لسنن السابقين الأوَّلين ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100].

ومعنى الرضا: أن تعلَمَ أن لله حكمةً في كلِّ ما يصيبُك، وتؤمنَ بيقينٍ لا يعتريه الشكُّ أن كلَّ شيءٍ يقع لك هو بإرادة الله، فليس عطاؤُه في كل الحالات إكرامًا، ولا منعُه حرمانًا، بل هي ابتلاءات دقيقة في معانيها، وإدراكٌ عميق لأسرارِها، التي اقتضَتْ أن يكون العطاءُ مِنحةً أو مِحْنةً، ونعمةً أو نقمةً، كما اقتضت ألَّا يكون المنع في كلِّ حالاته حرمانًا، بل قد يكونُ ابتلاءً أو دواء، وقد نبَّه الحق سبحانه وتعالى إلى هذه الأسرار العليَّة، والمعاني الخفيَّة على حسيري البصرِ والبصيرة، فقال: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾ [الفجر: 15، 16].

وجاء الجوابُ الإلهي الخبير بأحوال عباده، وما يعتريهم من تقلُّبات الأهواء، بقوله تعالي: ﴿ كَلَّا ﴾ [الفجر: 17]؛ ليُفنِّدَ ما يتوهَّمُه العقلُ القاصر عن سَبْر أغوار المعاني والإحاطةِ بخواصِّ الحِكَم الإلهية في تصريف النِّعم ومنعها.

وقد فصَّل الله هذا المعنى في آيات كثيرةٍ؛ ليُبيِّن لعباده أسرارَ ما يخفى عليهم من خيرٍ أو شرٍّ، وهذه آيةٌ عظيمة في معناها، جليلة في احتواء تلك الأسرار: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].

ومعنى الرضا: أن تكون مختلِفًا عمن حولَك في التحدِّي والصبر والمجاهدة، فلا تحتاجُ أن تبحثَ عمن يقاسمُك معاناتك، أو من يحملُها عن كاهلِك؛ لأنك وحدَك من تشعرُ بأنين ألمِك، ومخاضِ وَجَعِك، ولن تجدَ في قواميس اللغة مصطلحات تحتوي معانيها العميقة كما تحتويها في صدرك، وتعبِّرُ عنها بلغة إحساسك، ومنطقِ لسانك، ورفيف خواطرِك، ولن تجدَ ميزانًا ولا حسابًا بالعدد الرقمي في استعمالات البشرِ يقيس قدرَ ما تَحمِلُه بداخلِك، ويَزنُ حجمَ ألمك، ويُقدِّرُ ثقلَه الحقيقي، إنما هي قسمةٌ عادلةٌ بينَ الخلائق، ولكلٍّ منهم نصيبٌ وسهم لا يُخطِئُه، والجميعُ يُسقَوْن من الكأس نفسِه الحلوِّ والمرِّ بجُرعات ونِسَب متفاوتةٍ!

فيكفيك أن اللهَ يعلمُ بأحوالك في سرِّك وجهرك، ويطَّلعُ على ما يسكن حُوشَ فؤادِك، ويُؤرِّق جَفْنَك، ويقضُّ مضجعَك، ويخدشُ إحساسك الرهيف.

ويكفيك أن تطرقَ باب الكريم المنَّان؛ فليس عليه أقفالٌ ولا رِتاجٌ، وأن تطلقَ سراحَ كلماتِك؛ كي تتنفَّس عبيرَ الراحة من شكواك، وأن ترفع صوتَك مُجَلجلًا في خلوتك، وتمدَّ يدك في تذلُّلٍ وخشوع، وتبسطَ أكفَّ الضراعة بالدعاء والمناجاة في الخَلَوات، وسيصلُ افتقارَك بغناه، وضَعْفَك بقوته، وسيقضي حاجتَك بأفضال نِعمِه المُسداة، وهِباتِه المُهداة.

وهذا حالُ المسلم كما وصفَه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمرِ المؤمن؛ إن أمرَه كلَّه خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابَتْه سرَّاءُ شكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضرَّاءُ صبَر، فكان خيرًا له!))؛ صحيح مسلم.

ويكفيك أن تُنْصِتَ لكل حرف من نداء التكبير، والتهليل، والتحميد، والتعظيم، لتنفَكَّ عُقدةُ لسانِك، وينجليَ عن قلبك صدأُ الهموم، ويخفَّ عن صدرك أثقالُ الآثام والذنوب، وتتحرَّر من هواجسِك وأوهامِك التي حبَسَتْ عقلَك وفكرَك في معتكفٍ ضجَّ من السواد الكثيف حولك، وتريح مشاعرَك التي أعياها طقسُك البارد؛ حتى تجمَّد في عِرقها صبيبُ الدم، وستشعر حينَها بأنك حرٌّ طليق بلا قيودٍ ولا أغلال، وبلا أرزاءٍ ولا أكدارٍ.

2 - هذه هي زهرة الحياة:

هذه هي زهرةُ الحياة، حين تدركُ أن لها فصولًا تأنس لها وتطرَبُ، وفصولًا تضجر منها وتَبتئِسُ، ولها قطراتٌ تَرشُفُ منها الشَّهْد والعَلْقم، فتتوسَّد ثَرَاها، وتلتحفُ الأرضَ، وليس في قلبِك همٌّ ولا كَدَر، ولا غلٌّ ولا حقدٌ ولا حسدٌ، ولا طمع يُغريك بالتوغُّل في دروبِ الفتن، مُكرَّمًا بحلية التقوى وحُلَل الإيمان، ومُؤْثِرًا للباقي على الفاني، ولسانُ حالك في في عُقلَة الفِطَن، ولسانُ قلبك ذكرٌ وشكر، أما من خدَعَه المنى، وغرَّه نبضُ الهوى، فقد "سرَتْ أخلاطُ الأمل في أعضاءِ الكسل، فتثبَّطَتْ عن البَدار، وقد صارت المفاصلُ في منافذ الفهوم سددًا، وما يسهل عليك شربُ مسهلٍ"[1].

ولابن المعتزِّ أبياتٌ فيها نثارُ الخير، وحثُّ النفس على الاحتماء من أخلاط الخطايا:

خلِّ الذنوبَ صغيرَها
وكبيرَها، فهو التُّقَى
كُنْ مثل ماشٍ فوق أر
ضِ الشوكِ يَحْذَرُ ما يرى
لا تحقرنَّ صغيرةً
إن الجبالَ من الحصى

وهذه هي زهرةُ الحياة، حين تستمدُّ من نورها وَمَضات بارقة بالأمل، ونظرات مُشْرقة بالتأمُّل، تغورُ في بواطن أعماقِ النفس، وتجولُ بالفكرة في الآفاق، وتعمل النظرَ في المخلوقات، فتنكشفُ أمامك تلك الأسرارُ الخفيَّة والغوامض المبهمة، وتنفكُّ الأقفال عن أبوابك المُؤصدةِ، فتتنفَّس مشاعرُك الهواءَ العليل، وترتوي من موردِها العَذْب معاني الوصال، تسري إليك مع نسمات الإيمان وأنوارِه الساطعة، وتنزاحُ عن بصرك وبصيرتِك تلك الحجبُ الكثيفةُ، والنقاط السوداءُ، والألوان المعتمةُ، فتسلكُ طريقَ الكَدْح والمشقَّة لتَصِلَ إلى الطريقِ الفسيح الرَّحْب، وتَلِجُ البابَ الضيِّق لتلقى حياةَ النعيم والراحة تُبسَطُ لك بسطًا.

وهذه هي زهرةُ الحياة حين يكونُ أنسُك بالله أكبرَ من أُنْسِك بمن سواه، واشتياقُك إلى ما أعدَّ لعباده الصالحين من نعيم الجنة أكبرَ من اشتياقك لنعيم الدنيا الزائل، تتمثَّل قولَ الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].

ولا شيءَ أعظم من ذلك في ذاكرتك، التي لا تُخلِّد للحياة تاريخًا يشدها إلى ثقل المادة، أو يَجذِبُها إلى إغراء مباهجِها النَّضِرة، وفتنة أنوارها الخادعة، "فإن حلواءَ الشَّرَه سببُ حمى الروح، والبخل يؤذي عصبَ المروءة"[2].

بل تُخلِّدُ للحياة تاريخًا مجيدًا بجلائلِ الأعمال، وخُلوصِ النيَّة للحق والجهرِ به، ونصرة الدين والدفاع عنه، وصَوْن الشرف والعِرض، وطهارة السريرة من خوارمِ المروءة، وإذلال النفس.

3 - الكون كتابٌ مفتوح:

إن للعيون نورًا شمسُها البصيرةُ تُشرِقُ في القلوب المؤمنة، وتفسحُ لمَجاريها أن تتدفَّق بالدماء الزكيَّة، وتفورُ كالماء العَذْبِ يُبلِّلُ جفافَ الأوراق ويَبَاسَ الأغصانِ الممتدة في فصول العمر، ويروي ظمأَ الأرواح وعَطَش الأجسادِ السائحة في الأرض، فتنتشي من عناقيدِ الفرح، وتلك مزيَّةُ ذوي الهِممِ العالية، وفضيلةٌ تُشرِّفُ أهلَ المجد والعزم؛ مَن لَزِموا الطاعةَ، فاستحقُّوا وعدَ الله عزَّ وجل بنعيمِ الجنة، ومَن ملكوا الدنيا، ولم تُغْرِهم ظواهرُ الأشياء، وما تَجلُبُه الفتنُ والشهوات من غفلة تصدُّ عن إبصارِ الحق، وتحجُبُ النظرَ في أسرار الخلق، وسَبْر أغوار الكون، كما قال الله عز وجل: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ [الروم: 7، 8].

أما إذا خَبَا وَهَجُ البصيرة، ظهرت الحقيقةُ بين الملامح والصور، كأطيافٍ وأخيلةٍ في ظلام مُطبِقٍ، وانكشافها خلفَ ستار الجاذبيَّة يكون باهرًا للعين التي تَأْسِرُها الصورُ الجماليَّة الظاهرة كأيكةٍ وارفةِ الظِّلال، أو روضةٍ من رياض السَّعد ناضرةِ الحُسْن والجمال، وإذا جنَّ الظلامُ لفَّها حجابُ السَّتْر؛ فرَامَتِ النفسُ أن تَشُقَّ الأستارَ، وتصرفَ وَحْشةَ التعلُّق بذاك الجمال الفتَّان، الملفوف بلحاف الصمت والكتمان.

وإذا سطَعَ نورُ البصيرة، ظهرت الحقيقة ولها إشراقاتٌ تكشف تلك الأسرارَ المبطنةَ، وتحيطُ القلبَ بصِمامِ الأمان الذي يحفظُه من تجاذبات العواطف والأهواء، واللِّسان يجاهد ويناضل حتى يخترقَ حاجزَ الإبهام، ويغترف من وعاء القلب ما يحتويه من معاني الكدرِ والصَّفْو، وطيبِ المِسك وخبيثِ النَّتْن، فيكون أصدقَ في الإفصاح، إذا خَلَص القصدُ، وسلمتِ النيةُ من الفساد والدَّخَن، ويكون أكثرَ افتراءً وكذبًا إذا خالط القصدَ والنية، شائبةٌ تفسد الطويَّة.

وما يبصرُه القلب المؤمن هو النورُ والضياء، يرفُّ لرفيف النَّبضات الصادحة في مجرى الدمِ الرَّقْراق، ويسطعُ لوميضِ الإيمان الساطع، يبعث الدِّفْء في خَلَجات الروح، فتنشطُ لها الأجسادُ المسهدة على مضجع الشقاوة والبؤس، ويهيجُ في الذاكرة هديرُ الخواطر في لحظات التأمُّل، وتبحر الأفكار والرؤى في أغوارِ الكون والكائنات؛ لتجتلِيَ أسرارَ تلك الحقيقة الإيمانيَّة، وتشدَّ وَثاقَها بغايات المجد، وتنتشي الأرواحُ لذَّةَ العبادة، وتبتهج ببشائر الفرح.

وتلك الحكمُ والأسرارُ المعتبرة لا يصونها إلا مَن بلغ أن يُميِّز بينَ الحلي والعَطَل، وارتقى موطنَ السلام وهو يتلذَّذُ على مشارفها بالرضا والأمان، وارتوى من حياض العلوم والمعارف وبها سما وتألَّق، وشدَّ وَثاقه بعقدِ الإيمان البرَّاق، ووصل دررَه بالاعتبار والتدبُّر في أسرار الكون والكائنات، فتطهَّرَتْ جوارحُه من أنجاسِ الرذائل، واستحمَّت بهطُول الفضائل، وتزيَّنت بالمحاسنِ والخِلال، وكَسَتْها أفانينُ الزهر بالمكارم؛ فتنفَّست بأنفاس الطُّهْر.

وتلك دلائلُ الإيمان ساطعة في فضاء الفكر، وتلك آياتُ الكون ناطقة بالعِبَر والحجج الغُرِّ، كما قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].

ولو تأمَّل هذا الإنسانُ في تلك الروح التي لا يَملِك أن يحملَها على أكفِّه، أو يحيطَ بماهيَّتِها عقلُه القاصرُ، لأدرك فيما يدركُه أن هذا الجسدَ الذي يدبُّ على الأرض دبيبَ النمل، هو أوهنُ من بيت العنكبوتِ حين يكونُ خلاءً من سُرُج الإيمان، وقناديل البصيرة المشرقة بنور الله.

ولو تأمَّل هذا الإنسانُ في الآفاق على امتداد الكون الذي لا يحدُّه البصر، لأدرك فيما يدركُه أن ما حواه من أسرارٍ ونواميسَ يَقصُر العقلُ عن الإحاطة بها، وكشف حجبها، وأن أنفاسه التي تصعَدُ وتنزل لا سلطانَ له عليها؛ إنما السلطان لمن أودع هذه الأسرارَ بقدر محدودٍ لمن اصطفاهم مِن خَلقِه ممَّن شملهم بالرضا؛ فسلكوا طريقَ الحقِّ والهداية.



[1] المُدهِش؛ للحافظ أبي الفرج عبدالرحمن ابن الجوزي - دار الآثار، ط الأولى 1422هـ - 2003م، ص: 125.

[2] المدهش: ص: 125 (بتصرف).




                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق