بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلا شك أن الغضب جمرة خبيثة في القلب من عمل الشيطان، له آثار سيئة في حياة المؤمن قد تفسد منفعته في الدنيا وآخرته وتوقعه في المآثم وتشوش علاقته بالآخرين، إلى آخر ذلك من المفاسد والشرور التي تجلبها.
والإنسان الغضوب دائمًا وفي كل مناسبة يعيش حالة مرضية تعكر صفو حياته وتوقعه دائمًا في الإحراج الذي ينتهي به إلى ذل الاعتذار والترخص ممن أساء إليهم، وهذا يحتاج إلى جلسات علاج ودعاء صادق وترويض للنفس واستشفاء بالقرآن ليس هذا موضع الكلام عنه. وفي المقابل الرجل الحليم الذي لا يكاد يعرف الغضب إلا نادرًا لكرمه ونبله وحكمته وسعة أفقه فهذا من أسعد الناس وأطيبهم عيشة فهنيئًا له.
إنما الكلام هنا عن الشخص الطبيعي المتوسط المزاج، الذي ينتابه الغضب أحيانًا ويؤثر عليه ويجره إلى أخطاء وأخطار ويسبب له إشكالات في علاقاته، فهذا حري به أن يجتهد ويناقش ويتثقف ليتخلص من الغضب بالكلية أو يخفف من حدته، ومع الوقت سينجح كثيرًا إذا كان ذا همة وقرار وعنده قدرة على التغيير، والله الموفق للعبد إذا علم منه الصدق والإخلاص.
وسأبين الخطوات التي تخلصه من الغضب:
أولًا: أن يدرك أن الغضب جماع الشر كله في باب الأخلاق، وأن تركه سبب لجميع خصال الخير. ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي استوصاه في خصال الخير بأن لا يغضب ثم كرر عليه ترك الغضب، وهذا يدل على أن من تمكن من اجتناب الغضب كله تحلى بخصال الخير لأن الغضب يفسد الأخلاق، وقال جعفر بن محمد: "الغضب مفتاح كل شر".
ثانيًا: أن يتأمل الإنسان في شخصيته ويعلم مدى تأثره بالغضب ويعلم الأسباب والملابسات التي تهيج غضبه وتستدعيه، فمتى ما علمها تجنبها بالكلية ولم يباشرها أو خفف منها ما استطاع.
ثالثًا: أن يتجنب الحالات التي يتوتر فيها عادة وتسبب له الغضب، مثل قلة النوم والاستيقاظ من النوم والجوع والسفر، وكل إنسان تختلف طبيعته ودرجة تأثير هذه الأمور فيه، فمتى ما عرفها لزم الانفراد ولم يخالط أحدًا في هذه الساعة.
رابعًا: أن لا يستجيب لانفعالاته تجاه التصرفات الاستفزازية ويتحكم في ردة فعله، لأن بعض السفهاء يستمتعون في استغضاب الآخرين، فلا ينبغي للعاقل أن يلق لهم بالًا، والحكمة مع السفهاء ترك الرد عليهم، لأن مجاراتهم تخرج الإنسان من الوقار والسكينة إلى الجهل وليس معهم علاج أنفع من السكوت.
خامسًا: أن يتفهم أن كثيرًا من الإساءات الموجهة له عفوية لا يقصد بها إهانته والحط من قدره، وقد تكون غير مقصودة أصلًا وفاعلها ربما يمر بظرف سيء وضغوط أثرت على سلوكه وتعامله.
سادسًا: أن يجتهد في التخلص من أثر الغضب إذا ثار وعدم الاستجابة له ومن أعظم ما يسكن الغضب التعوذ من الشيطان الرجيم قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200].
وفي الصحيحين عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ». فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ فَقَالَ: وَهَلْ بِي جُنُونٌ (صحيح البخاري؛ برقم: [3282]).
سابعًا: ومن الخطوات العملية التي تذهب الغضب وتخففه أن يغير الغاضب هيئته من القيام إلى الجلوس ومن الجلوس إلى الاضطجاع والعكس، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ» (مسند أحمد؛ برقم: [21744]).
ثامنًا: ومن المفيد أيضًا أن ينتقل ويغير مكانه من مكان الغضب، ويشتغل بأمر يحبه ليروح عنه ويسليه حتى تهدأ نفسه ويسكن غضبه، فإن القلب يخف عليه الوارد ويسكن إذا طرأ عليه أمر محبوب.
تاسعًا: ومن أنفع ما يسكن الغضب الاشتغال بذكر الله من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، لأن ذكر الله يطرد الشيطان ويبطل تأثيره ويجلب الطمأنينة للقلب، قال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف من الآية:24]، قال عكرمة: "يعني إذا غضبت". والنفس تهدأ وترتاح من الهم والغضب والحزن إذا ذكرت الله وأثنت عليه وسبحته.
عاشرًا: وأهم تصرف يقي من شرور الغضب لزوم السكوت مطلقًا وعدم الرد بالقول أو الفعل، لأنه إذا تكلم أو فعل في هذه الحالة فعقله مغلق لا يدرك ما يصدر منه مما يعرضه للندم الشديد إذا فاق، وسكوته يمنع هذا كله وفي الحديث: «عَلِّمُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ، وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ، وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ» (مسند أحمد؛ برقم: [3516]). وإذا سكت سيهدأ الطرف الآخر ويمر الموقف بسلام.
حادي عشر: المبادرة بالوضوء فإن الوضوء له أثر عظيم في طهارة الظاهر والباطن وإخماد الغضب والتحصن من تسلط الشيطان ويروى في (مسند أحمد؛ برقم: [18268]): «إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ».
ثاني عشر: أن تتفكر وتتأمل في عظم جزاء كظم الغيظ وعدم إنفاذه وأنه من صفات المتقين كما قال تعالى:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران من الآية:134]، وفي الحديث: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللهُ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ» (جامع الترمذي؛ برقم: [2493])، وهذا أمر يحتاج إلى تمرين ومجاهدة واستعانة بالله.
ثالث عشر: أن يعلم أن ترك الغضب في أمور الدنيا والتحلي بالحلم والعفو والإعراض عن الجاهل من أجمل أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان لا يغضب إلا لله كما قالت عائشة رضي الله عنه: «وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلهِ بِهَا» متفق عليه (صحيح البخاري؛ برقم: [3560]، صحيح مسلم؛ برقم: [2327])، فينبغي للمؤمن أن يهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدي به.
رابع عشر: اعلم أخي أن تسلط الغضب عليك يأمرك بأفعال وأقوال مشينة يعد من الضعف والخور المذموم، وليس من الرجولة والشجاعة وإنما القوة والشدة في تملك النفس عند الغضب والسيطرة عليها من السفه والجهل، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» (صحيح البخاري؛ برقم: [6114]، صحيح مسلم؛ برقم: [2327])، وقال مورق العجلي: "ما امتلأت غيظًا قط، ولا تكلمت في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت".
هذا وإن المتأمل في أحوالنا اليوم يجد كثيرًا منا يغلبه الغضب ويلعب به ويجعله يتصرف كالصبي لأتفه الأمور وقد يصدر هذا التصرف عن إنسان متعلم ومثقف وحريص على الخير وهذا مؤشر سيء لمستوى أخلاقنا. وكم يندم المرء على تصرفات وأقوال فعلها حال الغضب وتسببت له بمشاكل قديمة وربما تبعها ظلم لأشخاص طيبين غابوا عن النظر فلا يملك إلا أن يدعو لهم ويستغفر لهم.