عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

تحت قسم أعمال القلوب
الكاتب د. صفية الودغيري
تاريخ الاضافة 2016-07-01 22:32:20
المشاهدات 730
أرسل الى صديق اطبع حمل المقال بصيغة وورد ساهم فى دعم الموقع Bookmark and Share

   

إن مدرسةَ الصيام هي مدرسة الصدق والإخلاص، تدرِّب الصائمين على تقوية الإيمان بالله تعالى، وإيقاظ الضمير ليستجيب لدعوةِ الله.

وإن مدرسة الصيام هي مدرسةُ النصرة، تدرِّب الصائمين على انتصار النفس في جهاد المشقة، وانتصار النفس الخيِّرة على النفس الأمَّارة بالسوء.

لهذا خصَّ الله تعالى الصيام بضم مقدار الجزاء والثواب إليه، وقَرنه به؛ لأنه لا يخالطُه الرياء ولا النفاق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: كلُّ عمل ابن آدم له إلاالصيام؛فإنهلي،وأنا أجزي به))؛ متفق عليه.

وإن مدرسةَ الصيام هي مدرسةُ تزكية النفس؛ للوقاية من الرذائل والمفاسدِ، وتحقيق الارتقاء الإنساني.

يعلِّمنا الصيام الأخذ بأسباب الحرص والحذر:
فنحرص على اغتنام الأوقات في الطاعات، ونحذرُ فوات الساعات في الإعراض والمخالفات، فيصبحُ للزمن قيمةٌ تُصان.
ويعلِّمُنا الصيامُ أن للزمن حركةً لا تتوقَّف عند محطات، ولا تتخلَّف الساعات عن الدوران، فهي تمضي وَفْق أجل مكتوب.
فالعاقلُ النَّبيهُ هو من يحثُّ همَّتَه على ركوب الصِّعاب؛ لبلوغ المقاصدِ والغايات.

والعاقلُ النَّبيهُ هو من يستنهضُ عزيمتَه، ويوقد فورةَ نشاطِه، فيلبِّي نداء التكبيرِ والقيام، وتحصيل الثواب في الإقبال على الطاعات، والتنافُس على الأجور المضاعفاتِ، وإدراك المعالي، وبلوغ قِممِها الشمَّاء، واجتلاء الغايات المرتجاة من الصيام، والتمسُّك بأسبابها وشروطها، وارتقاء مدارجها بخطًى ثابتة على السداد والرَّشاد.

والعاقلُ النَّبيهُ هو من يَلِجُ منازل العقلاء الفصحاء، ويلازم الحكماءَ ذوي الألباب، ويجالس أصحابَ البصائر النبهاء، ويقتفي آثارَ أرباب العلوم النيِّرات، والمعارف المنتقاة، والآداب الرفيعة المبهرات، ومَن ملكوا الأساليب البديعة في التربية والتهذيب وحسن الإلقاء، ومن انتهجوا طريق الجادة في السلوك، واتبعوا طريق الهداية في أقوالهم، وأفعالهم، وأحوالهم وسيرتهم.

والعاقلُ النَّبيهُ هو مَن يَعَضُّ بنواجذِه على حياضِ أهل التُّقَى والعفاف، ويسترشدُ بمصابيح ذوي الاستقامةِ والصلاح، ويهتدي بسلوك العلماءِ العاملين بما علمهم الله، المُتَّصفينَ بالعدالة والنزاهة والإنصاف والتديُّن الصحيح، وكانوا أهلًا للاقتداء والاتباع.

أما مَن قَصَرَتْ همَّتُه عن بلوغ هذا المقام في الصيام، ولم يُدرِك منازلَه الرفيعة في التربية والتهذيب والبناء - كان حاله في بقية شهور العام أكثرَ تقصيرًا وتفريطًا، وجَوْرًا في أداء الحقوق والواجبات، وكان أكثر تضييعًا لحقوق الله وحقوقِ العباد، وأكثر تبذيرًا للوقتِ وتفريطًا في ساعات العمر، فيحيا هَمَلًا بلا هدف، ولا أثرَ له يذكر في الحياة ولا بعدَ الممات!

وصدق الحقُّ سبحانه حين حضَّ على اغتنام الوقت فيما ينفعُ، وحثَّ على التقرُّب إليه بالطاعات، فقال: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].

كما أكَّدت السنة النبوية الشريفة على أهميَّة الوقت وقيمة الزمن؛ لأنه من نعمِ الله التي يتفضل بها علينا، حتى نحرصَ على اغتنامه في نشر الخير، والدعوة إلى التغييرِ والإصلاح قبل أن يُسلَبَ منا بالإهمال، كما أخبرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((نعمتانِ مَغْبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ، والفراغ)).

ذلك أن الزمن أمانةٌ، سنسألُ عنها إذا ما فرَّطنا في حقِّها، أو قصَّرنا في أدائها، فعن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزولُ قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصالٍ: عن عمرِه فيمَ أفناه؟ وعن شبابه فيمَ أبلاه؟ وعن مالِه من أين اكتسبه، وفيمَ أنفقَه؟ وعن علمِه ماذا عَمِل فيه؟)).

فإذا أدرك الصائمُ هذه المعانيَ، واحتوى أسرارَها ومقاصدها، أدرك قيمةَ ساعات الصيام، وقيمةَ تلك الأيَّام المعدودات، فكان أشد حرصًا على حفظِها من التبذيرِ، واغتنامِها فيما ينفعُ ويفيد، وقد بيَّن الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه (الداء والدواء) ص: 57 هذه الحقيقة فقال: "الحياة في الحقيقة حياةُ القلب، وعمرُ الإنسان مدةُ حياته، فليس عمرُه إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعاتُ عمره، فالبُّر والتقوى والطاعة تزيدُ في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمرِه، ولا عمرَ له سواها، وبالجملة فالعبدُ إذا أعرض عن الله واشتغل بالمعاصي، ضاعت عليه أيامُ حياته الحقيقيَّة، التي يجد غبَّ إضاعتِها يوم يقول: ﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [الفجر: 24]!".

يعلَّمنا الصيام المداومةَ على الطاعات:
فالصائم يَأْلفُ في شهرِ الصيام المداومةَ على الطاعات، فيقبلُ عليها إقبالَ المحبِّ المطيع لمن يحبُّه، رغبًا في مرضاته، وطلبًا لمحبَّته ورضوانه، وطمعًا في الفوز بنعيمِ قُرْبه، وجلال ذكره، فيصدُّ نفسَه عن المعاصي صدودَ المنكِر لها، الكاره للاشتغالِ بها وسلوك طريقها، فيصير قلبه معقودًا برباط الطاعات، مفارقًا للذنوب والآثام، عازمًا على إرادةِ التوبة النصوح، حتى يسمو إلى مراتبَ عليا في الارتقاء، فينسلخ تباعًا عن تفكيره في لذائذ الشهواتِ، ويتخلَّى عن منادمة أهلِ الفسوق والعصيان، وينصرفُ عن مرافقةِ أهل السوء والهلاك، بل يستقبحُ أن يرى نفسَه أو غيره على غير طاعةِ الله، أو مواقعًا لمنكَر لا يرضاه، أو مجاهرًا بباطل أو سوء يظل في صحيفته إلى يوم الاحتكام والفصال، في يوم يشهد عليه اللسان، وتشهدُ عليه الجوارحُ والأعضاء، يقول الإمام حافظ الحكمي:

ويجمعُ الخلقَ ليوم الفَصْلِ
جميعَهم علويَّهم والسُّفْلي
في موقفٍ يجلُّ فيه الخَطْبُ
ويَعْظُمُ الهولُ به والكربُ
وأُحضِروا للعَرْضِ والحسابِ
وانقطَعَتْ علائقُ الأنسابِ
وارتكَمَتْ سحائبُ الأهوالِ
وانعجَم البليغُ في المقالِ
وعنَتِ الوجوهُ للقيُّومِ
واقتصَّ من ذي الظُّلم للمظلومِ
وساوَت الملوك للأجنادِ
وجيء بالكتابِ والأشهادِ
وشَهِدَتْ الَاعْضاءُ والجوارِحُ
وبدَتِ السَّوءات والفضائِحُ
وابتُلِيَتْ هنالك السرائِرْ
وانكشَفَ المخفيُّ في الضمائِرْ


ويتعلَّم الصائم أن يحذرَ شؤم ذنبه، ويخشى عاقبةَ أمره، فلا يرضى هوانَه على ربِّه في ذاك اليوم الموعودِ، الذي حذَّر منه الحقُّ سبحانه فقال: ﴿ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ﴾ [المعارج: 10]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ﴾ [النبأ: 38].

إلى أن يتعوَّد الصائمُ على أن يزرعَ بقلبِه حبَّ الطاعات، فتثمر الطاعات جَني أمثالها من الطاعات، كما يتعوَّد على أن ينتزع من قلبه ما تخلفُه المعاصي من السُّموم والأشواك، وأن يجتثَّ جذور الآثام، وما تنشره أصولُ المفاسد من فروع العلل والأسقام.

ويتعلَّم الصائم أن الجزاء من جنسِ العمل، وأن لكل سيئة عقوبةً، كما لكل حسنة ثوابها، يقول ابن القيم في كتابه "الداء والدواء" ص: 58: "قال بعض السلف: إن من عقوبةِ السيئة السيئةَ بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنةَ بعدها، فالعبدُ إذا عَمِل حسنة، قالت أخرى إلى جنبها: اعملني أيضًا، فإذا عملها، قالت ثالثة كذلك، وهلُمَّ جرًّا، فتضاعف الربحُ، وتزايدت الحسنات، وكذلك جانب السيئات أيضًا، حتى تصير الطاعاتُ والمعاصي هيئات راسخةً، وصفاتٍ لازمة، وملكات ثابتة، فلو عطَّل المحسنُ الطاعة، لضاقت عليه نفسُه، وضاقت عليه الأرض بما رَحُبَتْ، وأحسَّ من نفسه بأنه كالحوتِ إذا فارق الماءَ حتى يعاودها، فتسكن نفسُه، وتقر عينُه، ولو عطل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة، لضاقَتْ عليه نفسُه، وضاق صدرُه، وأعيَتْ عليه مذاهبُه، حتى يعاودها، حتى إن كثيرًا من الفسَّاق ليُواقِعُ المعصية من غير لذَّة يجدُها، ولا داعية إليها، إلا لما يجدُ من الألم بمفارقتِها، ولا يزال العبدُ يعاني الطاعةَ ويَأْلفها، ويحبُّها ويؤثرها، حتى يرسلَ الله سبحانه وتعالى برحمته عليه الملائكة تؤزُّه إليها أزًّا، وتحرضه عليها، وتزعجُه من فراشه ومجلسه إليها، ولا يزال يألف المعاصي ويحبُّها ويؤثرها، حتى يرسل الله عليه الشياطين فتؤزُّه إليها أزًّا".

وكما يألفُ الصائم المداومةَ على الطاعات في شهر الصيام، يألف ثوابَها العظيم؛ لما يجدُ من آثار فضلها على نفسه، وعلى حركة أعضائه ونشاطها، ولما يجدُ من آثار فضلها على بيته وأسرته، وعَلاقاته المختلفة، وسَعْيه وكَسْبِه، ولما يجدُ من سعادة، يتذوَّق حلاوتَها في كل لحظة من لحظات الصيام والقيام.

فيتعوَّد بعد شهر الصيام على المداومة على الطاعات؛ ذلك لأن من صفات المؤمنين الصادقين المخلصين المداومةَ على ما يقرِّبُهم من الله، والمواظبة على فعل الخيرات، وأداء العبادات، والالتزام بالفرائض والسُّنَن، بشروطها وأحكامها، بما في ذلك المواظبة على أداء الصلاة، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾ [المعارج: 23].

وهذا يحثُّ الصائم على اتِّقاء كلِّ معصية تُوقعه في الغفلة، أو تهوي به إلى مدارك الهلاك، ومراتع الخسرانِ؛ حتى يتعوَّد بعد ذلك على سلوك طريق المهتدين، الذاكرين الله تعالى عند قيامهم وقعودِهم، وغدوِّهم ورَواحِهم، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، كما يتعوَّد على حثِّ همَّتِه على سلوك طريقِ أهل الإحسان ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 134 - 136]، والاتِّصاف بأوصاف الوَجِلين، الخائفين من سوء العاقبة وشرِّ الخاتمة، الذين وصفهم الله تعالى فقال: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60].

إلا أن المداومةَ على الطاعات تحتاجُ إلى الصبر والمجاهدة، ومصاحبة الأخيار ومخالطة الصالحين؛ مَن صلَحَتْ أحوالهم، واستقامَتْ أفعالهم، قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].

ولا تتحقَّق المداومة إلا بالتزامِ التوسُّط والاعتدال في أداء العبادات، وعدم إرهاق النفس بحَمْل ما يشقُّ عليها حملُه؛ حتى لا يعقبَها التخلِّي، والتَّرْك، والسآمة.

فعن عائشة قالت: كان لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم حصيرٌ، وكان يحجرُه بالليل فيصلي فيه، ويبسطُه بالنهار فيجلسُ عليه، فجعل الناس يثوبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون بصلاته حتى كثروا، فأقبل فقال: ((يا أيها الناسُ، خذوا من الأعمال ما تُطيقون؛ فإن اللهَ لا يملُّ حتى تملُّوا، وإن أحبَّ الأعمال إلى الله ما دام وإن قلَّ))؛ زاد في رواية عبدالوهاب الثقفي: "وكان آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملًا أثبتوه"؛ أخرجاه في الصحيحين.

كما لا تتحقَّقُ المداومةُ إلا بالدعاءِ؛ للاستعانةِ على ذكرِ الله، وحُسْن عبادته، والثَّبات على طاعته وخشيتِه، ولزوم رضاه ومحبَّته، ومخالفةِ هواه، وما تشتهيه نفسُه، فقد كان دعاء الراسخين في العلم: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 8، 9]، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ بعد التشهد الأخيرِ في الصلاة من أربعٍ، فيقول: ((اللهم إني أعوذُ بك من عذاب النار، وعذابِ القبر، وفتنة المحيا والمماتِ، وشرِّ فتنة المسيح الدجال))؛ رواه البخاري.

ورُوِي عن شهرِ بن حوشب قال: سمعتُ أمَّ سلمة تُحدِّث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُكثِر في دعائه أن يقول: ((اللهم مُقلِّب القلوبِ، ثبِّتْ قلبي على دينك))، قالت: قلت: يا رسولَ الله، وإن القلبَ ليُقلَّبُ؟! قال: ((نعم، ما خلق اللهُ من بني آدم من بشرٍ إلا وقلبُه بين أصبعَيْنِ من أصابعه، فإن شاءَ أقامه وإن شاء أزاغَه، فنسأل اللهَ ربَّنا ألا يزيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهبَ لنا من لدنه رحمةً إنه هو الوهاب))، قالت: قلتُ: يا رسولَ الله، أَلَا تُعلِّمُني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: ((بلى؛ قولي: اللهم ربَّ النبيِّ محمد، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظَ قلبي، وأجِرْني من مضلَّات الفتن)) .

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال له: ((أوصيك يا معاذُ: لا تدعَنَّ دُبرَ كل صلاة أن تقول: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك، وحُسن عبادتك))؛ رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي.

يُعلِّمُنا الصيام تجديد الإيمان:
ففي التجديد بَعثٌ للسنن والأحكام المهجورةِ، وإحياءٌ للقيمِ والفضائل والأخلاق التي غطَّاها الباطل بستارِ الغفلة والنسيان.

وفي التجديد بعثُ الهممِ من رُكودها وجمودِها، وتحريك العزائمِ بعد رَقْدةِ فتورها؛ لتتخلَّص من أثقالها، وتتخفَّف من أعبائها، وتعودَ إلى صفو فطرتِها، راضيةً مطمئنة، ويحلُّ الإقدامُ محلَّ الإحجام، فالصائمُ في رمضان هو مقبِلٌ على الله بروحِه وجسده، وبأنفاسه وخَلجاتِه، ومقبلٌ على الطاعات بكلِّ جوارحه، وبشوقِ المحبِّ لمن توحَّدت القلوب على محبَّته، وبإخلاص المحبِّ حين يصدقُ في حبِّه، فيصدق في بَذْله وعطائه، وفي قربِه والجد في طلب مرضاته، وفي ثباته على الحقِّ، وعدله وإنصافه في إصدار الأحكام على نفسه وغيره ...

وفي التجديدبعثٌ للمحبَّة الصادقة، التي تقتضي توحيدَ من خضعَتْ له الرِّقاب، فلا يشركُ في محبَّته غيره، ولا يقدِّمُ على محبَّته سواه، فإفرادُه بالمحبة الخالصة من لوازم العبوديَّة وموجباتها، ولا يتمُّ الإيمان إلا بها، ولا يكتملُ إلا بتمامها؛ لهذا نهى اللهُ تعالى مَن يشرك في حبه ندًّا من الأنداد، فقال: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 165].

وعن أنسٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجَد بهنَّ حلاوةَ الإيمان: من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعودَ في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُقذَف في النار)).

وفي شرح النووي لمسلم الحديث (43) قال: "هذا حديثٌ عظيم، أصلٌ من أصول الإسلام، قال العلماء رحمهم الله: معنى حلاوة الإيمان: استلذاذُ الطاعات، وتحمُّل المشقات في رضا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإيثارُ ذلك على عرَض الدنيا، ومحبَّة العبد ربَّه سبحانه وتعالى بفعل طاعتِه، وتَرْك مخالفته، وكذلك محبَّة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم".

ذلك أن الإخلاصَ لله تعالى يجعل النفس تُشرق بأنوار التصديق التامِّ، والإقرار بما أنزل بيقينٍ، وإذعانٍ لأوامره واجتناب نواهيه، وانقياد تامٍّ للحواس والأعضاء، فتسلك طريقها في خضوع مطلقٍ لله في الأقوال والأفعال.

فتعي ما معنى العبوديَّة الصادقة والخالصة، التي تبعثُ في القلب والعقل روح الإيمان، فتجد لها النفس حركة، تهتزُّ لها الأنفاس شهيقًا وزفيرًا، وتخفقُ لها النَّبضات، وتتمثَّلها الأعضاء والحواس في قنوتٍ تامٍّ، وخضوع كامل الشروط والأركان.

وكلما تحرَّى الصائم الاتِّصاف بالصدق واحتواه احتواء كاملًا، صار كلُّ قول أو فعل يصدر عنه تابعًا لحقيقته، ويتمثَّل معانيه، فعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصدق؛ فإن الصدقَ يهدي إلى البرِّ، وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجلُ يصدقُ ويتحرَّى الصدق، حتى يُكتَب عند الله صدِّيقًا، وإياكم والكذبَ؛ فإن الكذبَ يهدي إلى الفجورِ، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزالُ الرجلُ يَكذِبُ ويتحرَّى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا))؛ متفق عليه.

ومَن ارتقى في الصيام هذه المرتبة العليا في الصدق في المحبَّة، والإخلاص في العبوديَّة - أصبح هذا الارتقاءُ سلوكَه العام في كل الشهور، وصار منهجَه وطريقه المستقيم في الحياة، ويتجدَّد بالاهتداء، ويقوى برباط الإيمان.

وفي التجديد دعوةٌ شاملة إلى إشاعةِ الإصلاح والتغيير لإقامةِ شريعةِ الله في الأرض، حتى يكون اللهُ وحده هو المعبودَ، وتكون الطاعةُ والاتباع لحكمه ولسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ثم لمن أمر بطاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وهذه الحكم البليغة، والأسرار النفيسةُ، والمعاني العظيمة، قد جمَعَت بعض معانيها هذه الآية الكريمة: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185].

فقد أشارَتْ هذه الآية الكريمة إلى ابتداء نزولِ القرآن في شهر رمضان، وهي تحتاجُ إلى وَقْفة تدبُّر، ووقفة تعبُّد وشكر على نعمة القرآن، وما له من قداسة، تلزمُنا بالاستمراريَّة على تجديد الإيمان في قلوبنا، وتثبيته في سلوكنا ومعاملاتنا، ثم انتقلَتْ بعد التذكير بما لشهر الصيام من فضل ابتداء نزول القرآن، إلى التذكيرِ بالغايات والمقاصدِ التي تشملُ هداية الناس، وإرشادَهم إلى تقوية روابط الإيمان، وتزكية النفس، وتصفية الروح، وتطهير الجسدِ من طغيانِ المادِّيَّة، وهذا لن يتأتَّى إلا لمن يداومُ على تلاوة القرآن وتدبُّرِه؛ لإعداد النفسِ لقَبول الهدايةِ إعدادًا عمليًّا وتربويًّا، وتدريبها على الموازنة بين حقوق اللهِ وحقوق العباد، وبين مطالب الجسدِ واحتياجات الروح.

كذلك ترسخُ الآية الكريمة معانيَ الوحدة، فالقرآنُ لم ينزل في شهر الصيام إلا ليُوحِّد قلوب المسلمين، ويوحِّد كلمتَهم وقِبلتَهم، ويُوحِّد أرواحهم وأجسادَهم، ومشاعرهم وأحاسيسَهم، فيحل الأمان والسلام محلَّ الأحقاد والنِّزاعات والحروب، ويحلُّ الثبات، والصفاء، والمحبة، والتعاون، والتضامن - محلَّ الشَّتات والفُرقة، ويحل الإجماعُ في الصيام والقيام، والقنوت والدعاء، في زمان واحد.

حتى يتعودوا بعد ذلك على معاني وحدةِ الصف، والهدف، والتخطيط للعمل، والاستمرارية في تجديد الإيمان كلَّما ضَعُفَ، وتيسير سبلِ الاهتداء، وأسباب الامتثال للأوامر والأحكام، والتمرين على الانقيادِ، والوقوف عند الحدود، بالإمساكِ عن كلِّ ما يُبطئ المسير، ويحسرُ النفسَ عن الارتقاء، أو يشدُّها إلى الامتثال للغرائزِ، أو الانجذاب إلى الشهوات.

فيصبحُ كلُّ فرد داخل مجتمعه سيِّدَ نفسِه، وسيِّدَ أمَّته بتديُّنِه والتزامه، وسلوكه ومعاملاته، وبامتلاكه لزمام أمره عند مواجهة الأزمات والشدائد، وسيِّدَ أمته بانتصاره على مظاهر الركود والضعف والخور.





                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق