لا شك أن الإنسان مدني بطبعه، ولا يحب العيش منفردًا، وهذا الاجتماع بالغير يحدوه شاء أم أبى لمحاكاة هذا الغير، وعلى حسب نقاء فطرته يكون التوفيق في المحاكاة. ومعلوم أيضًا أن الإنسان عدو ما يجهل، لكنه إذا وجد غيره وقد أقدم على فعل ما حاز فيه تقدمًا يرجوه هو لنفسه، دفعه هذا دفعًا لاتخاذ هذا الغير مثالًا له، وتظل فطرة الإنسان تحدوه للمحاكاة والتشبه بالغير لا سيما في الأمور التي يتحقق له بها نفع أو تدفع عنه ضررًا.
وقد توسع اللغويون في بيان معنى (القدوة) واشتقاقاتها، فذهب ابن منظور في لسان العرب إلى أن قدا: القدو: أصل البناء الذي يتشعب معه تصريف الاقتداء، يقال: قِدوة وقُدوة لما يقتدى به. ابن سيده: القُدوة، والقِدوة: ما تسننت به، قلبت الواو فيه ياء للكسرة القريبة منه وضعف الحاجز.
والقِدى: جمع قِدوة يكتب بالياء. والقِدة كالقِدوة. يقال: لي بك قِدوة وقُدوة وقِدة، ومثله حظي فلان حظوة وحظوة وحظة، وداري حذوة دارك وحذوة دارك وحذة دارك، وقد اقتدى به. والقدوة، والقدوة: الأسوة. يقال: فلان قدوة يقتدى به (1)
وقدوة (مفرد): جمعها قدوات وقدوات: من يقتدى به، أسوة، من يتخذه الناس مثلا في حياتهم لي بك قدوة (2).
فالقدوة إذن تقتضي التأسي والمتابعة، وهي واحدة من أهم وأبرز أساليب التربية، وإذا كان المقصود في الاجتماع البشري الوصول إلى مرحلة إنتاج فرد سليم ومفيد للمجتمع فإن ذلك لن يتحقق من دون العمل على جعل الأفراد سالمين مفيدين فتكون القدوة أهم وسيلة لتحقيق ذلك (3).
ولما كانت طبيعة الإنسان قد تدفعه للإقدام على ما يضره من حيث لا يعلم، جعل الله الرسالات وأرسل الرسل الكرام لهداية الناس والخروج بهم من موارد الهلكة ومظان الفساد.
وهنا تأتي أهمية القدوة لدفع الإنسان إلى حيث يكون النفع له ولغيره، ولما كان الإسلام هو دين الله الخاتم الذي أتم به الرسالات كان المسلم هو المعني والمخاطب بالاهتمام باتخاذ القدوة الصالحة النافعة له ولبني جلدته بل وللكون من حوله.
القدوة والولاية
وكما أن القدوة تكون بين الأفراد وبعضهم؛ كالآباء لأبنائهم والمدرسين للتلاميذ، تكون أيضا بين المجتمعات، والشعوب والأمم. ولقد خص الله أمة الإسلام بخيريتها على الأمم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، كما خصها بوسطيتها بين الأمم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، وفي جعل الرسول هو خاتم الأنبياء وجعل الإسلام خاتم الديانات ما يؤكد تمام كمال الرسالة المحمدية وأنها حوت ما تضمنته الرسالات السابقة، وفي هذا ما لا يخفى من دعوة غير المسلمين لمحاكاة هذه الأمة الخاتمة الراشدة وجعلها قدوة، واتباع هذا النبي الخاتم واتخاذه أسوة: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
وفي الوقت نفسه حذر الإسلام المسلمين من التشبه بغير المسلمين من أرباب الديانات الأخرى ومحاكاتهم في سلوكاتهم ولباسهم وطرق حياتهم: فورد النهي صراحة من اتباعهم، ومن هذا ما رواه شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم» (4).
وبالجملة اتخاذ غير المسلمين أولياء من دون المؤمنين، وفي العلاقة بين الولاية والقدوة ما ينبغي الإشارة إليه؛ فالمرء يقتدي بوليه لأنه يعتبره ذا شأن وحظوة، ولما كان الأمر يتعلق بالمسلمين وغيرهم نهى الإسلام عن اتخاذ غير المسلمين أولياء وهو نهي ضمني لاتخاذهم قدوة، كما هو ظاهر في سبب نزول قول الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ} [المائدة:51].
قال عطية العوفي: "جاء عبادة بن الصامت، فقال: يا رسول الله، إن لي موالي من اليهود، كثير عددهم، حاضر نصرهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية اليهود وآوي إلى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، ولا أبرأ من ولاية اليهود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحباب، ما بخلت به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه، فقال: قد قبلت. فأنزل الله تعالى فيهما: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ إلى قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يعني: عبد الله بن أُبي يُسَارِعُونَ فيهم: في ولايتهم يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} (5).
وقد ورد النهي عن اتخاذ غير المسلمين أولياء للمسلمين في أكثر من موضع في كتاب الله، من مثل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]: أي أنصارًا، وقد نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة، فعن الحسن بن محمد أنه سمع عبد الله ابن أبي رافع يقول: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: «انطلقوا حتى تأتوا (روضة خاخ) فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» قال: فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب ابن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: «يا حاطب، ما هذا؟» قال: يا رسول الله، لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقًا في قريش -يقول كنت حليفًا ولم أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت -إذ فاتني ذلك من النسب فيهم- أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنه قد صدقكم»، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك، لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، فأنزل الله تعالى هذه السورة: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
ومن أسف على ما آلت إليه أحوال بعض المسلمين اليوم من تشبه مقيت بالغرب ومحاكاتهم في أمورهم الحياتية من طرق المأكل والمشرب والملبس مما يختصون به، بل والتشبه بهم في لكناتهم وطرق كلامهم بدعوى التحضر والموضة. نعم صارت الموضة هذه هي بوابة العبور إليهم للأخذ منهم حتى في قصات الشعر وأساليب الحياة.. وصدق المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فقد شخص هذا كله منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا؛ فيما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» (6).
الحل الناجع
وقد وضع الإسلام لهذا الداء دواءً ناجعًا، بعد وصفه وتشخيصه تشخيصًا دقيقًا، فأرسى مبدأ القدوة واعتبرها المنجي من المهالك، ولم يكتفِ بذلك بل بين لمن تكون وكيف تكون واشترط فيمن يتخذ قدوة أن تتوفر فيه بعض الأمور على رأسها الصدق بأن يكون متزنًا مع نفسه ولا يخالف قوله فعله، لأن في المخالفة سقوطًا مدويًا، وقد أشار القرآن إلى هذا في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]، كذا ينبغي أن يكون مدركًا لطبيعة ما يفعل وما يقول، وهو ما يعبر عنه بالحكمة، حتى يمكن الغير من محاكاته واتباعه ويكون فعله متناسقًا مع الواقع دونما تكلف ولا تعسف، كذا ينبغي ألا يشتغل بسفاسف الأمور وتوافهها بما يسقط هيبته ويحقر منزلته، بل الاشتغال بمعالي الأمور وما يجلب الخير.
ومن هنا جاءت نصوص القرآن واضحة في اتخاذ المعصوم صلى الله عليه وسلم أسوة، قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وباتخاذ الصالحين من الأنبياء والمرسلين، وفي هذا الإطار يفيد التذكير بما توجه به الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]، والمشار إليهم باسم الإشارة هم المشار إليهم بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام:89] فهم الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم (7). على أساس أن المهتدين من المتقدمين على الرسول صلى الله عليه وسلم يحملون من القيم والسلوكيات والعقائد السوية ما يجعل ما يحملون محل تقدير وأهمية على مستوى الواقع؛ لذلك طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الاقتداء بهم والسير في نفس الطريق السوي والسليم الذي يعبر عن حقيقة رسالة الله تعالى والتي جوهرها الهداية للمجتمعات البشرية.
نعم، سبق الإسلام البشرية في وصف ما يضرها وما ينفعها، وقد وضع نظاما دقيقا للحيولة دون سقوطها في مرابض الغنم ومعاطن الإبل باتباع ما يهلكها ويقضي عليها. فالإسلام الذي هو دين الله الذي ارتضاه لعباده وصف الداء ووضع الدواء، جاء لإخراج الناس من موارد الهلكة ومظان الفناء إلى حيث يكون البقاء بعز وسلام، وصدق من قال: "من حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".
-------------------------------------
الهوامش:
1- ابن منظور، لسان العرب، الناشر أدب الحوزة، ج 15، ص17.
2- معجم اللغة العربية المعاصرة، لمؤلفه أحمد مختار عمر.
3- من مقال (القدوة وأهميتها ودورها) للدكتور علي الحاج حسن، من موقع (إضاءات إسلامية).
4- رواه أبوداود وصححه الألباني.
5- تفسير الطبري [المائدة:51].
6- متفق عليه.
7- تفسير التحرير والتنوير (الأنعام:90).