أ - الجدال المذموم: الغالب على استعمال الجدل والجدال في القرآن أن يكون في أمر مكروه ؛ لأن فيه مغالبة الحق بالباطل، ولهذا يُسند الفعل في هذه الأحوال إلى الكفار، ومنه:
1-] وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [(الكهف:56).
2- ] مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ (غافر:40).
قال الزمخشري:" المراد: الجدال بالباطل من الطعن فيها والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله... أما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها وردّ أهل الزيغ بها وعنها فأعظم جهاد في سبيل الله " ([1]).
وقد حذر النبي r من هذا اللون من الجدل كما في الحديث عن أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:" مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلا أُوتُوا الْجَدَلَ، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ r هَذِهِ الآيَةَ ] مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [ (الزخرف: 58) ([2]) .
ب - الجدال بالحسنى: وثمة لون آخر من الجدال في القرآن، وهو الجدال الواقع من المؤمنين لأغراض متنوعة، وهو جدال لا يراد منه إبطال الحق أو مدافعته كما هو الحال مع الكفار المجادلين، ولكنه جدال يتخذ صوراً أخرى متنوعة، ونكتفي بمثال واحد من قصص إبراهيم عليه السلام حين جاءته الملائكة يبشرونه بغلام عليم، ويخبرونه بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط.. فتأخذه الرحمة والرأفة اللتين عُرف بهما r في تاريخه الطويل، إن إبراهيم الحليم الأواه المنيب يريد من ربه أن يُنظِرَ قوم لوط نظرة لعلهم يؤمنون، ولكن الله تعالى أعلى وأعلم، ولهذا منع صفيه وخليله من الخوض في المسألة، فالأمر قد قضي ] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إنَّ إبراهيمَ لحليمٌ أوّاهٌ منيبٌ. يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [ (هود:74-76).
ج - الجدال عن النفس يوم القيامة: وثمة لون ثالث من الجدال بينه القرآن، وهو جدال النفس يوم القيامة أمام الله تعالى ساعة الحساب، جدالها عن نفسها طلباً للثواب أو هرباً من العقـاب ] يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا [(النحل:111).
وبمراجعة مادة "جدل" في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي سنجد الأنواع نفسها التي ذكرناها في القـرآن، إذ نجد الجدل المحمود كمـا في " إن " الـم. تنـزيل.." تجادلُ عن صاحبها.. و " كأنهما فرقان من طير صواف يجادلان.. و " لقد جاءت المجادِِلةُ إلى النبي r..." فالأول في دفاع سورة السجدة عن حافظها يوم القيامة، والثاني في دفاع الزهراوين البقرة وآل عمران عن صاحبهما يوم القيامة، والثالث في مجيء خولة بنت ثعلبة إلى النبي r مجادلةً في شأن ظهار زوجها منها، وهذا في الجدال المحمود، أما الجدال المذموم فمنه " فإنك منافق تجادل عن المنافقين.. لا تجادلنّ عالماً ولا جاهلاً.. يجادلونكم بشبهات القرآن.. وجدال المنافق بالكتاب.. باب النهي عن الجدال.. إيـاك والخصومة والجدال في الدين.. بـاب اجتناب البدع والجـدل.. " ([3]).
بين الحوار والجدل:
ثمة قواسم مشتركة وفروق ظاهرة بين التحاور والجدال، فالتحاور مراجعة الكلام بين طرفين أو أطراف للوصول إلى الحقيقة أو التعلم أو التذكير.. إلخ، دون إشعار بخصومة، أما الجدال فهو مشعر بالخصومة غالباً لارتباطه بمعاني الشدة والقوة، وهي إذا دخلت الحوار حولته إلى جدال أو حجاج أو مراء، وبذلك فالحوار أعمُّ من الجدل.
وقد استعمل القرآن المصطلحين في الآية الأولى من سورة المجادلة، فكان حديث المرأة مع النبي r بشأن زوجها "جدالاً " لأنها أشعرت بخصومة بينها وبين زوجها، ولكن لم تكن لها خصومة مع النبي r فكان ما بينهما تحاوراً لا مجادلة.
ولقد كان ضمن مفاهيم الجدل في عصر النبي r الدفع بالحجة ضد حق واضح لا لبس فيه، ومنه قول كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف عن غزوة تبوك ثم جاء يعتذر، فقال للنبي r:" إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْـلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُـذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَـدَلاً.. " ([4]).
وقد ارتبط الجدل في التراث القديم بالفلسفة اليونانية التي كانت تراه نوعاً من البراعة العقلية واللفظية بغض النظر عن الوصول إلى الحقيقة العلمية، وبخاصة عند الفلاسفة السوفسطائيين.
[1] - محمود بن عمر الزمخشري: الكشاف: 4/150، ط3 دار الريان للتراث، القاهرة 1407هـ- 1987م.
[2]- رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، سنن الترمذي (3253)، طبعة دار السلام الدولية بالرياض " مجلد الكتب الستة " ط3، 1421هـ - 2000م، وابن ماجه في مقدمة سننه (48) (ضمن المجلد نفسه) وأحـمد في المسند (22218) ط مؤسسة قرطبة - القاهرة د. ت. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2593).
[3]- انظر: مادة "جدل " في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي:1/227-228، لمجموعة من المستشرقين، نشر " ونسنك " مكتبة بريل – ليدن 1936م.
[4]- طرف من حديث رواه البخاري في صحيحه (4418) طبعة دار السلام الدولية بالرياض " مجلد الكتب الستة " ط3، 1421هـ - 2000م، ومسلم في صحيحه (7016) طبعة دار السلام الدولية بالرياض " مجلد الكتب الستة " ط3، 1421هـ - 2000م.