الأصل اللغوي لمادة " نظر " هو من فعل حاسة البصر، ثم يتصرف إلى معان شتى، منها المناظرة، قال الراغب:" والمناظرة: المباحثة والمباراة في النظر واستحضار كل ما يراه ببصيرته، والنظر: البحث، وهو أعم من القياس، لأن كل قياس نظر، وليس كل نظر قياساً " ([1]) وفي اللسان:" التناظر: التراوض في الأمر، ونظيرك: الذي يراودك وتناظره " ([2]).
(ب) مدخل اصطلاحي:
قال الجرجاني:" المناظرة لغة من النظير، أو من النظر بالبصيرة، واصطلاحاً هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب " ([3]) وقال حاجي خليفة عن المناظرة:" عُلم يبحث فيه عن كيفية إيراد الكلام بين المناظرين، وموضوعه الأدلة من حيث إنها يثبت بها المدعي على الغير، ومباديه أمور بينة بنفسها، والغرض منه تحصيل ملكة طرق المناظرة لئلا يقع الخبط في البحث فيتضح الصواب.. وقال ابن صدر الدين في الفوائد الخـاقانية: وهذا العلم كالمنطق يخدم العلوم كلها، لأن البحث والمناظرة عبارة عن النظر من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب وإلزاماً للخصم " ([4]).
فالمناظرة صورة حوارية قائمة على تقليب الأقوال والآراء واستخراج النتائج من المقدمات بوسائل تناسب كل علم، وفي فائدتها قال الشاطبي:" ومقصود المناظرة ردّ الخصم إلى الصواب بطريق يعرفه ؛ لأن رده بغير ما يعرفه من باب تكليف ما لا يطاق، فلا بد من رجوعهما إلى دليل يعرفه الخصم السائل معرفة الخصم المستدل " ([5]).
فالمناظرة إذاً حاجة ضرورية لاستنتاج نتائج صحيحة من مقدمات متفق عليها بين الطرفين، وهي في هذا قريبة من المنطق الأرسطي لكنها تختلف عنه في صورتها الحوارية، وفي ضرورتها يقول حاجي خليفة:" فلتفاوت مراتب الطبائع والأذهان لا يخلو علم من العلوم عن تصادم الآراء وتباين الأفكار وإدارة الكلام من الجانبين للجرح والتعديل والردّ والقبول، وإلا لكان مكابرة غير مسموعة، فلا بدّ من قانون يعرّف مراتب البحث على وجه يتميز به المقبول عما هو المردود، وتلك القوانين هي عـلم آداب البحث " ([6]).
وقد استعمل النبي إبراهيم عليه السلام المناظرة مع قومه ليتوصل إلى الحق من مقدمات يتفق عليها معهم، وهي أن من صفات الإله الذي يجب أن يُعبد بحق أن لا تختلف عليه الأحوال ولا يؤثر فيه كرّ الليل والنهار، وتدرّج معهم في بيان ذلك ونقض اعتقادهم في الكواكب والقمر والشمس كما قص القرآن عنه، قال الشاطبي:" يدخل تحت باب المناظرة ما إذا أجرى الخصم المحتج نفسه مجرى السائل المستفيد حتى ينقطع الخصم بأقرب الطرق كما في شأن محاجة إبراهيم قومَه بالكوكب والقمر والشمس " ([7]).
والمناظر - كالمحاور - قد يسأل ابتداءً عن حكم الشيء فيكون من باب التعلم، وقد يسأل عند استشكال الأمر عليه بعد النظر في الأدلة، والأول يطلق عليه اسم المناظر اصطلاحاً لا حقيقة ([8]).
وقد صار مصطلح المناظرة أكثر ارتباطاً بالمسائل العلمية في التراث الإسلامي فهي أخص من الحوار، وهي عادة ما تكون بين شخصين أو أكثر بينهم خلاف علمي واضح، فهما يتناظران لأجل الغلبة أو إظهار الحق.
رابعاً: الحِجَــاج: (أ) مدخل لغوي:
في أصول المادة اللغوية سنجد فروعاً متنوعة تمت إلى الأصل اللغوي الدال على القصد إلى شيء ما، ثم تخصص منه الحج في الشرع ليدل على الشعيرة المعروفة، كما قـال أحمد بن فارس:" وكذلك الحج، لم يكن عندهم فيه غير القصد، وسَبْر الجراح.. ثم زادت الشريعة ما زادته من شرائط الحج وشعائره.." ([9]).
ومن هذا الأصل: القصد، تفرع معنى المحاجة، قال الراغب:" والحجة: الدالة المبينة للحجة أي المقصد المستقيم الذي يقتضي صحة أحد النقيضين.. والمحاجة: أن يطلب كل واحد أن يردَّ الآخر عن حجته ومحجته" ([10]) والحِجاج علامة للخصومة غالباً، ولذلك ربطه ابن فارس بها في التعريف اللغوي:" حاججت فلاناً فحججته، أي غلبته بالحجة، وذلك الظفر يكون عند الخصومة " ([11]).
وقد لا تكون ثمة خصومة حقيقية بين المتحاجين، إنما هو اختلاف في الرأي ظاهره الخصومة، وقد استعمل النبي r الفعل"حجّ " بمعنى غلب في المحاورة لوجود الحجة معه، قال r:" احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلام عِنْدَ رَبِّهِمَا فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ وَأَسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الأَرْضِ؟ فَقَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلامِهِ وَأَعْطَاكَ الألْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ وَقَرَّبَكَ نَجِيّاً، فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَاماً، قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا ] وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [ (طه:121) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلاً كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى " ([12]) أي غلبه بالحجة الساطعة.
(ب) مدخل اصطلاحي:
الحجاج لا يكون غالباً إلا بين حق وباطل كما سنرى، وهو مدافعة الخصم بالحجة أو ما يتصور أنه حجة، وهو في بعض أحواله يلتقي مع الحوار لتوافر أركان المحاورة فيه، من وجود طرفين متحاورين، ولكنه لون أخص من الحوار، إذ إن الحوار كما ذكرنا من قبل وكذلك الجدال يكونان بين عدوين متضادين، أو بين صاحبين متحدين في المنهج والطريق، ولكن يكون الحوار أو الجدال وسيلة استيضاح أو توصل إلى الحقيقة.
والحجاج والمحاجّة مصطلح دال على دفع حجة صحيحة في نفسها أو حجة يتصور صاحبها صحتها لفلّ شوكة الخصم وغلبته، فهي في ذاتها قد تكون حجة صحيحة أو واهية داحضة، ولكن تصور صاحبها صحتَها يرفعها في تصوره إلى مقام الحجة.
وفي الدرس المعاصر نجد الهدف الأساسي لعملية الحجاج " كسب تأييد المتلقي في شأن قضية أو فعل مرغوب فيه من جهة، ثم إقناع ذلك المتلقي عن طريق إشباع مشاعره وفكره معاً حتى يتقبل ويوافق على القضية أو الفعل موضوع الخطابة - الخطاب…" ([13]).
[1] - الراغب الأصفهاني: المفردات: 498.
[2] - جمال الدين بن منظور: اللسان: نظر.
[3] - الشريف الجرجاني: التعريفات:231.
[4] - حاجي خليفة: كشف الظنون: 1/38- 39.
[5] - أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة: 4/ 335، دار المعرفة، لبنان د. ت.
[6] - حاجي خليفة: كشف الظنون: 1/39.
[7] - أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات: 4/331.
[9] - أحمد بن فارس: الصاحبي:86، تحقيق: أحمد السيد صقر، ط الحلبي، القاهرة د.ت.
[10] - الراغب الأصفهاني: المفردات:107-108.
[11] - أحمد بن فارس: المقاييس:250.
[12]- رواه مسلم - واللفظ له - في كتاب القدر من صحيحه (6744) والبخاري في مواضع عديدة، انظر (3409) وفي الحديث بيان التوافق بين بعض آي التوراة غير المحرفة وآي القرآن الكريم، لأن مصدرهما واحد.
[13]- حبيب أعراب: الحجاج والاستدلال الحجاجي: 109- 110، مجلة عالم الفكر، ع 1، مج 30، الكويت 2001م.