مقدمـة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل لـه، ومن يضلل فلا هادى لـه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محـمداً عبده ورسوله.
وبعد:
فإن الحوار وسيلة مثلى للدعوة إلى الله تعالى، شرعها الله في كتابه الكريم، وذكر فيه صوراً كثيرة من الحوار، إذْ حاور هو سبحانه بعضاً من خلقه حواراً مباشراً كحواره الملائكةَ الكرامَ بشأن خلق آدم، وحواره لإبليس بشأن السجود لآدم عليه السلام، وحواره مع إبراهيم عليه السلام بشأن إحياء الموتى، ومع موسى عليه السلام بشأن رؤيته سبحانه، ثم قصّ ذلك في القرآن الكريم ليأخذ منه المؤمنون العبرة والنفع في دينهم ودنياهم.
إن الحوار سنة إلهية وفطرة فطر الله تعالى عليها خلقه، فلا يهمله إلا مخالف للفطرة التي فطره الله عليها، ونعني بالإهمال هنا عدم استنفاد الوسع في حل المشكلات بالحوار واللجوء قبل ذلك إلى القوة، كما حدث ولا يزال يحدث في هذا العالم المليء بالصراع، الخاوي من ثقافة الحوار والتسامح في كثير من صراعاته وخلافاته المتزايدة يوماً بعد يوم، خاصة مع تعقد المصالح وتشابكها وزيادة القوة الفتاكة في أيدي الناس، وهي أخطار تهدد البشرية تهديداً خطيراً.
وقد شرع الله تعالى لأنبيائه عليهم السلام على مرّ التاريخ محاورةَ أقوامهم بالحسنى، وقصّ بعضاً من ذلك في كتابه الكريم، وتضمنت تلك الحوارات أسس العقيدة الوحيدة التي شرعها الله لعباده أولهم وآخرهم، إنسهم وجنهم وهي عقيدة الإسلام الذي لا يقبل الله من الناس يوم الحساب غيره.
وذكر الله تعالى أطرافاً من حوارات الخير والشر على مرّ التاريخ، كالحوار بين المؤمنين والكافرين، والحوار بين المؤمنين والمنافقين وغير ذلك.. وهكذا نجد أسلوب الحوار وسيلةَ دعوة إلى الله، وقد جاء واضحاً بيّنَ المعالم في القرآن الكريم.
والحوار أنواع وفنون، ولكن أصله أن يكون ثمة طرفان يتداولان الحديث حول مسألة ما أو قضية، فيجري بينهما كلام حول تلك المسألة أو القضية، هذا الكلام هو الحوار، أيّاً كان موضوعه أو أطرافه، إنه عملية لغوية تواصـلية.
ولقد جعل النبي من الحوار أساساً لنشر دعوته، إذْ خرج إلى الناس يكلمهم ويحاورهم، ولقي من الأذى ما كان حرياً أن يمنع كثيراً غيرَه من الاستمرار في الدعوة، لكنه كان مكلفاً بذلك مأمـوراً بالصبر واحتمال الأذى، وهكذا حاور قريشاً رجالاً ونساء، أفراداً وجماعات، ثم حاور من لقي من العرب خارجاً إليهم في المواسم عارضاً نفسَه عليهم ليحموه حتى يبلّغ عن الله تعالى، وبعد هجرته r اتسع نطاق محاوراته، كما سنبين في الفصل الخاص بذلك.
وللحوار آداب وقواعد أصّلها الإسلام، والتزم بها النبي r في كل محاوراته لنتعلم نحن منه الأسوة الحسنة، ولكي ينجح حوارنا الداخلي والخارجي لابدَّ لنا من التأسي بالنبي في حواراته الناجحة الهادية.
وقد اهتمت الثقافات والحضارات بالحوار، وحفظ لنا التاريخ صوراً فريدة منها، وفي العصر الحاضر صار فن الحوار بصوره المتنوعة كالتفاوض والمؤتمرات وحلقات التناقش.. صار علماً ذا قواعد وأصول مقررة تقوم على تدريسه معاهد علمية متخصصة حول العالم، هذا مع تفريطنا نحن المسلمين في هذا المجال كثيراً.
ثمة معاهد علمية تدرس الحوار بوصفه فناً من فنون التواصل الإنساني وتتناولـه بالدرس من منظور الثقافة الشفاهية، ذلك أن تعاملنا نحن البشر باللغة يتم أكثره مشافهةً في الأصل، فإذا سُجل كتابياً فإنما هو لغرض حفظه للتاريخ أو الحاجة إليه.
ولا شك أننا نحن المسلمين أحوج ما نكون اليوم إلى الحوار، الحوار الداخلي بين مكونات المشهد الداخلي لكل دولة مسلمة، والحوار الداخلي بين الدول المسلمة نفسها، والحوار الخارجي مع العالم المحيط بنا، لقد صرنا إلى وضع لا نحسد عليه بفعل قلة منا ضربت العـالم والمسلمين بما يسمى " الإرهاب " فصار الاتهام يوجه إلينا جميعاً وإلى ثقافتنا وحضارتنا بل عقيدتنا في حين أن الذين مارسوه قلة أنكرتها المجتمعات المسلمة قبل أن ينكرها الآخرون، وليس لنا اليوم أو في المنظور القريب طاقة عسكرية أو سياسية أو اقتصادية مستعدة لمواجهة الغرب، فليس أمامنا إذاً إلا الحـوار الهادئ المتعقل وسنجد لا ريب في الطرف الآخر من يفهم ذلك.