المطلب الخامس: أسرى هوازن:
بعد معركة حُنين غَنِم المسلمون غنائم كثيرة من الإبل والشياه، وأسروا عددًا مهولاً من المشركين بلغ في بعض الروايات ستّة آلاف[1]، وبعد انتهاء توزيع الغنائم بكاملها، ورضا كل فريق بما أخذ سواء من الجزء الرئيسي من الغنيمة، أو من الخُمُس الذي وُهِبَ للبعض، حدثت مفاجأة ضخمة لم تكن متوقّعة..!!
لقد جاء وفدٌ من قبيلة هوازن إلى وادي الجِعِرَّانَة[2]، لإعلان الإسلام أمام النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان الوفد يُمَثِّل كلَّ بطون هوازن ما عدا ثقيف، وذلك بعد أقلِّ من شهرين من حرب حُنَيْن الهائلة، بعد أن فقدوا كل شيء فخسروا نساءهم وأبناءهم، وأموالهم، وأنعامهم، وكانوا قد فَرُّوا إلى الطائف مع ثقيف، وما استطاعوا الخروج لحرب المسلمين، وكان من الممكن أن يفقدوا ديارهم ويعيشوا عمرهم لاجئين عند ثقيف في الطائف، ولكنهم فكّروا في العودة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد يَقبل منهم إسلامهم، ويُعيد إليهم بعض الممتلكات.
وأعلن وفد هوازن الإسلام أمامَ النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: يا رسول الله إنَّا أهلٌ وعشيرةٌ، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامْنُنْ علينا مَنَّ الله عليك[3].
لقد أصبح الموقف في غاية الحرج، فها هي القبيلة الضخمة هوازن تأتي لتعلن إسلامها، ولتستردّ بعض ما ذهب منها، وتُحتَمَل رِدتُهم إن لم يستردّوا أسراهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قسَّم كل شيء في الغنائم على الجيش، فأربعة أخماس الغنائم قُسِّمت على أفراد الجيش العام، وقُسِّمَ الخُمسُ الباقي على سادة القبائل والعظماء، وطُلقاء مكّة وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، فقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذه العطايا ليتألّف بها الناس، ولو أخذ النبي صلى الله عليه وسلم منهم ما أعطاهم لارتدوا عن الإسلام، فهو يريد إسلام هوازن، وفي نفس الوقت يريد ثبات أهل مكّة وزعماء القبائل، فكيف خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الأزمة؟!
قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : "نِسَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟" فقالوا: يا رسول الله خَيَّرْتَنَا بين أَحْسَابِنَا وَأَمْوَالِنَا؟ بَلْ أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا أَحَبَّ إِلَينَا؛ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِذَا أَنَا صَلَّيْتُ بِالنَّاسِ؛ فَقُومُوا فَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا. فَإِنِّي سَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلَ لَكُمْ".
فلمّا صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر؛ قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: "أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ"؛ فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم .وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة[4]: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس السلمي[5]: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عباس بن مرداس لبني سليم: وَهَنْتُمُوني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ أَمْسَكَ مِنْكُمْ بِحَقِّهِ فَلَهُ بِكُلِّ إِنْسَانٍ سِتَّةُ فَرَائِضَ مِنْ أَوَّلِ فَيْءٍ نُصِيبُهُ. فَرَدُّوا إِلَى النَّاسِ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ"[6].
وبهذا وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هوازن إلى حَلٍّ وَسَطٍ، بإعادة نسائهم وأبنائهم، مع إشعارهم أنه معهم قلبًا وقالبًا، وأقنع المسلمين في ذات الوقت بترك الأسرى والسبي ابتغاء مرضاة الله عز وجل، وتَرَكَ لهم الغنائم.
وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم هو مُنتهَى الحكمة، وبه انتهت مشكلة هوازن، ودخلت في الإسلام بنفسٍ راضيةٍ، وقد تيقنت أنها تتعامل مع رسول، وليس مع مجرد زعيم أو قائد، وما أعتقد أن في تاريخ الأمم مثل هذا الرُقِيّ في التعامل مع الأسرى.
----------------
[1] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/ 173، ابن هشام: السيرة النبوية 5/162، ابن كثير: السيرة النبوية 3/667. .
[2] وادي الجعرانة: شمال شرق مكة، ويبعد عن الحرم المكي 25 كم. و (الجِعْرَانَةُ) ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب، نزلها النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم غنائم هوازن بعد حُنَيْن، وأحرم منها صلى الله عليه وسلم . معجم البلدان 2/142.
[3] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/ 173، ابن هشام: السيرة النبوية 5/162.
[4] هو عيينة بن حصن بن الفزاري يكنى أبا مالك، من المؤلفة قلوبهم، أسلم بعد الفتح وقيل قبله، وشهد الفتح مسلمًا وشهد حنينا أو الطائف أيضا، ثم ارتد مع طليحة الأسدي فأخذ أسيرًا إلى أبي بكر > فكان صبيان المدينة يقولون: يا عدو الله أكفرت بعد إيمانك! فيقول ما آمنت بالله طرفة عين . ثم أسلم وأطلقه أبو بكر. الإصابة الترجمة (6151)، أسد الغابة4/31.
[5] عباس بن مرداس السلمي، أسلم قبل فتح مكة بيسير، وكان من المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه منهم، وكان شاعرًا محسنًا وشجاعًا مشهورًا. وكان ممن حرَّم الخمر في الجاهلية. انظر: الاستيعاب2/362 – الإصابة 4509- الكاشف للذهبي 1/ 536.
[6] الطبري: تاريخ الأمم والملوك2/173، ابن كثير السيرة النبوية 3/667.
المقال السابق
المقال التالى