المبحث الثالث: تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأسرى في حال الاحتفاظ بهم
أعاد محمد العظيم للعالم ما فقد من العدل و الحرية و التسامح و الفضيلة[1]
بعد أن دخل الصليبيون مدينة القدس واستتب لهم الأمر نما إلى علمهم وجود مجموعة من الأهالي دفعهم الخوف من الصليبيين إلى الاختباء داخل مسجد قبة الصخرة، فاقتحم عليهم الصليبيون المسجد وأبادوهم جميعًا، الشيوخ والنساء والأطفال، وقد طاف الجامع بالدماء إلى حد الرُّكَب[2] !!
هذا حالهم ولكن الإسلام شئ آخر!!
الإسلام دين واقعي يتعامل مع الأحداث ومع الواقع، ولا يذهب في تشريعاته مع الخيال أو المثالية غير القابلة للتحقيق، ومن ثَمَّ كان من الطبيعي أن يتعامل مع قضية الأسرى كواقع يفرض نفسه على الحياة، لا أن يتجاهلها، أو يفرض لها حلاًّ عاطفيًّا غيرَ واقعيٍّ، لذلك فإنه يتعيّن على المسلمين في بعض الظروف أن يحتفظوا بالأسرى، وأقرب الظروف إلى الذهن أن يكون العدو قد أسر من المسلمين رجالاً يلزم أن نُبادلهم بأمثالهم. فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعامل الأسرى في حال الاحتفاظ بهم؟
لقد كانت القاعدة العامة التي حَثَّ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في أوّل غزوة غنم فيها المسلمون أسرى هي: "استوصُوا بهم – أي بالأسرى - خيرًا"[3].
لكن المهم في الأمر أن هذه المعاملة الحسنة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأسرى لم تكن مجرّد قوانين نظرية ليس لها تطبيق في واقع الحياة، ولكنَّها تمثّلت في مجموعة من المظاهر التي تُنبيء عن قلوب ملأتها الرحمة، وعن مشاعر فاضت بالعطف والحنان، وسوف نتناول – إن شاء الله - هذه المظاهر من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: إطعام الأسرى
قال الله تعالى: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا[4]". في هذه الآية الكريمة من الدستور الإسلامي - القرآن الكريم - يحثُّ الله تعالى عباده المؤمنين على الإحسان إلى أسراهم وإطعامهم، ويعِدُهم بذلك النعيمَ في الآخرة.
قال ابن عباس: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم بدر أن يُكرموا الأُسَارى، فكانوا يُقَدِّمُونهم على أنفسهم عند الغداء، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة[5].
ويعلق ابن جريج[6] على نفس الآية فيقول: لم يكن الأسير على عهد رسول الله إلا من المشركين، قال أبو عبيد: فأرى أن الله قد أثنى على من أحسن إلى أسير المشركين[7].
ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يقدمون للأسرى ما بقي من طعامهم بل كانوا ينتقون لهم أجود ما لديهم من طعام، ويجعلونهم يأكلونه عملاً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، وها هو أبو عزيز - شقيق مصعب بن عمير t - يحكي ما حدث يقول: "كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خَصَّوْني بالخبز، وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها؛ فأستحي فأردّها فيردّها عَلَيَّ ما يمسّها! قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث[8]. أي أنّه لم يكن شخصية عادية، بل كان من أشدّ المشركين على المسلمين، فلا يحمل اللواء إلا شجعان القوم وسادتهم! ولكن هذا لم يغير من الأمر شيئًا، لأن الرحمة بالأسير أصل من أصول التعامل لا يجوز التخلي عنه تحت أي ظرف.
---------------
[1] إدوارد ورمسي (مستشرق أمريكي): في دراسة له عن العالم قبل بعثة النبي ، دائرة المعارف البريطانية.
[2] مكسيموس مونروند: تاريخ حرب الصليب، 173،172.
[3] أخرجه الطبراني في الكبير (977), وفي الصغير (409), وقال الهيثمي في المجمع: إسناده حسن من حديث أبي عزيز بن عمير (10007).
[4] (الإنسان: 8).
[5] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 4/584.
[6] هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي (70هـ - 150هـ) مولى بني أمية، كان أحد أوعية العلم، وهو أول من صنَّف التصانيف في الحديث. انظر: الصفدي الوافي بالوفيات 1/2752، وانظر: الزركلي: الأعلام 4/160.
[7] البيهقي: شعب الإيمان 6/526.
[8] ابن كثير: السيرة النبوية 2/475.
المقال السابق
المقال التالى